المنسّقة الدوليّة لشبكة التضامن مع الأسير الفلسطيني (صامدون).
ترجمة محمد منصور
لا تزال حكايةُ وديع حدّاد وإرثُه يتفاعلان إلى يومنا هذا، سواءٌ بالنسبة إلى حركة المقاومة الفلسطينيّة ــــ وحركاتِ المقاومة الأخرى ــــ أو بالنسبة إلى أعدائها. والانشغالُ الكاملُ بـ"الحرب على الإرهاب،" ووصمُ أيّ حركة مقاومةٍ مناهضةٍ للهيمنة الإمبرياليّة المطلقة بـ"الإرهاب،" قد أصبحا اللغةَ السائدةَ في وسائل الإعلام الكبرى. إنّ بنًى قانونيّةً متكاملةً، وأُطرَ عملٍ ناظمةً، و"حربًا" مجازيّةً بتكلفةٍ باهظة: كلُّ ذلك بات موجّهًا للقضاء على "الإرهاب."
كانت عمليّاتُ وديع حدّاد قد صُمّمتْ لخلخلةِ موازين القوى المعادية للقضية الفلسطينيّة، ولإطاحة الهيمنة العسكريّة والاقتصاديّة الأميركيّة والإسرائيليّة. لم يكن هدفُها إشاعةَ الإرهاب عن طريق القتل والأذى؛ وإنّما الانقلابَ على نظامٍ يعرِّض المضطهَدَ دومًا للعدوان والنهب والدمار، في حين يجلس المضطهِدُ مرتاحًا. لم تكن عمليّاتُ حدّاد ذاتَ طابعٍ فرديّ، بالطبع، وإنّما تعبيرًا جماعيًّا صادرًا عن منظّمةٍ ثوريّةٍ ذاتِ دوافعَ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ تُوجِّه تلك العمليّات. لا يمثّل حدّاد، إذن، حالةَ بطلٍ فرديّ، بل كان ذراعًا ثوريّةً لحركةِ التحرّر الفلسطينيّة.
يَلحظ كثيرون أنّ خطفَ الطائرات في بداية السبعينيّات قد وَضع القضيّةَ الفلسطينيّة ضمن دائرة الاهتمام الدوليّ. تمّ ذلك في خضمّ حركةٍ عالميّةٍ مناهضةٍ للاستعمار (بعد طرد الجزائر للاستعمار الفرنسيّ، وفي عزّ مقارعة فييتنام للقوّات الأميركيّة، مثلًا). وكانت الحركةُ الوطنيّةُ الفلسطينيّة تعجّ بالنقاشات السياسيّة والفكريّة حول أساليب النضال، ومعنى "العمليّات الخارجيّة" ومضاعفاتِها.
في تلك الأثناء، كان الفلسطينيّون يصرّون على رفض تصنيف نضالهم كأنّه محضُ "حالةٍ إنسانيّة" منفصلةٍ عن سياقها السياسيّ الصحيح. والحال أنّ تأكيد حضورهم السياسيّ من خلال أساليب العنف الثوريّ، مصحوبًا بمطالبَ سياسيّةٍ وثوريّةٍ واضحة، أسهم في تغيير صورة الشعب الفلسطينيّ. كانت صفةُ "الإرهاب" تُستعمل بكثيرٍ من الخفّة والتكرار. وفي مقابل "الإرهابيّ،" طَوّرت الثورةُ الفلسطينيّة تعابيرَ مثل "الفدائيّ،" و"العنف الثوريّ،" و"حرب العصابات." أمّا في وضعنا الراهن، فقد اختفت تقريبًا تلك التعابيرُ، وبقي التعبيرُ الأسبق ("الإرهابيّ") متداولًا بكثرةٍ ليصف كلَّ شيء تقريبًا: من أكثر المنظمّات رجعيّةً، إلى أكثر حركات التحرّر ثوريّةً.
لو نظرنا إلى الأعوام الثلاثين الأخيرة بشكل خاصّ، لوجدنا محاولةً لمحو تلك المفاهيم الثوريّة واجتثاثِها. فبعد تفكّك الاتّحاد السوفياتيّ، وإعلانِ الانتصار الأميركيّ، و"نهايةِ التاريخ،" التي تبعتْها "الحربُ على الإرهاب،" يواجه الثوريّون وحركاتُ التحرّر الوطنيّ إيديولوجيّةَ احتكارِ الدولة للعنف بشكلٍ غير مسبوق في تاريخنا الحديث. إنّ عصرَ "العصا والجزرة،" حين كان الهجومُ الشرسُ ضدّ القوى الثوريّة ترافقه أساليبُ استرضاء مجتمعاتٍ ودولٍ على نطاقٍ واسع، قد استُبدل بعصر "العصا" وحدها، وضدّ شعوبٍ بأكملها. إنّ "الجزرة" الوحيدة المتوفّرة هي مقابل الاستسلام التامّ. في بدايات الثورة الفلسطينيّة لم يكن هناك قلقٌ كبيرٌ من أن تؤدّي "العمليّاتُ الخارجيّة،" التي ينفّذها اليسارُ الثوريُّ الفلسطينيّ، إلى إجراءات عقابيّة، مثل شلّ حركة الفلسطينيّين أو قمع تجمّعاتهم في المنافي. أمّا في عصر الـ"حرب على الإرهاب،" فإنّ تجمّعاتٍ بأكملها تتعرّض باستمرار للمراقبة والمداهمات والعقاب الجماعيّ.
إنّ لوائحَ "المنظّمات المصنّفة إرهابيّةً" هي أقوى الأسلحة التي تستخدمها القوى الإمبرياليّةُ اليوم من أجل فصل تجمّعات الشتات والمنافي عن حركات التحرّر الوطنيّ، وتوجيهِها نحو حركاتٍ فضفاضةٍ مثل "المنظّمات الأهليّة." فمنذ منتصف التسعينيّات، وتحديدًا منذ 11 أيلول 2001، تناسلتْ هذه اللوائحُ منطلقةً من الولايات المتّحدة إلى كندا، فالاتّحادِ الأوروبيّ، والمملكةِ المتحدة، ودولٍ أخرى.(1) وبينما تحوي لوائحُ هذه الأيّام خليطًا عشوائيًّا من الأشخاص والمنظّمات، بعضُها تحرّريٌّ ثوريّ، وبعضُها رجعيٌّ (وذو تاريخ طويل ومعقّد من التحالف والاختلاف مع الولايات المتّحدة نفسها)، فإنّ لائحة الولايات المتّحدة الأصليّة، التي تشكّلتْ سنة 1995 بأمرٍ تنفيذيّ من إدارة بيل كلينتون، لمنع وصول الأموال إلى "منظّمات مصنّفة إرهابيّةً،"(2) كانت قد صُمّمتْ لدعم "سلام أوسلو" ولحرمانِ الجماعات المعارضة لهذا "السلام" من التأييد والدعم الماليّ.(3) ومنذ ذلك العام، تطوّرتْ "لوائحُ الإرهاب" الأميركيّة والأوروبيّة والكنديّة والبريطانيّة لردع مقاومة الفلسطينيّين لذلك "السلام" المفروض عليهم. وإذا كان إطلاق هذه "اللوائح" قد تمّ بعد حرب الخليج وأفول المرحلة السوفياتيّة، فإنّ الهدفَ منها هو محاولةُ خلق أُطرِ عملٍ لا يمكن تحدّي سلطتها القانونيّة والسياسيّة والأخلاقيّة، بحيث لا تكون المقاومةُ المسلّحةُ للعدوانيّة الإمبرياليّة أو الصهيونيّة "إرهابيّةً" وحسب، بل تكون عملًا إجراميًّا وعرضةً للإدانة الدوليّة أيضًا.(4)
من الواضح أنّ القوى التي تُعِدّ هذه اللوائح لا تتورّعُ عن استعمال العنف (كما حدث في العراق وليبيا والصومال وأفغانستان وهاييتي واليمن...). ومن المؤكّد أنّ هذه اللوائح لا تحرّكها دوافعُ أخلاقيّةٌ معارِضة للعنف ككلّ؛ بل معارضةٌ حصرًا للعنف الذي يمارسُه المضطهَدون، وهو عنفٌ ثانويٌّ مقارنةً بالآلة العسكريّة التي تملكها الدولُ المضطهِدة صاحبةُ التصنيف. ولطالما كانت الحركةُ الثوريّة الفلسطينيّة تشكّل حافزًا رئيسًا لخلق "صناعة الحرب على الإرهاب"؛ فتلك الصناعة أُنشئَتْ ــــ علاوةً على قمعِ الرفض الفلسطينيّ لعمليّة أوسلو كما ذكرنا ــــ من أجل تصفية القضيّة الفلسطينيّة. وأوّلُ خطوةٍ في ذلك القمع، من وجهة النظر الأميركيّة، هي محاولةُ منع تحويل الأموال من الجالية الفلسطينيّة الكبيرة في الولايات المتّحدة إلى الفصائل المقاومة، ومنها الجبهةُ الشعبيّة لتحرير فلسطين وحركةُ حماس وحركةُ الجهاد الإسلاميّ.
من هنا، فإنّ صفةَ "الإرهابيّ،" إذا ما أطلقتْها جهةٌ تملك القوّةَ على سكّانٍ محليّين يتحدّوْن هيمنتها، لا تُعَدّ إهانةً فحسب، بل تصنَّف أيضًا في منزلةٍ قانونيّةٍ تناسب أُطرَ عملٍ جنائيّةً/ إجراميّةً موجَّهةً ضدّ مَن يتحدّى الإمبرياليّة والعنصريّة. وعلى رغم التستّر بعباءة "القانون،" فإنّ هذه التصنيفات سياسيّةُ الطابع، وقابلةٌ للتغيُّر أو الإلغاء أو الإضافة في أيّ وقت.
بعد عامٍ من وضع لائحة "الإرهابيّين المصنَّفين خصّيصًا" سنة 1995، أدخلت الولاياتُ المتّحدة إلى حيّز التنفيذ "التشريعَ المضادَّ للإرهاب وعقوبةَ الموت الفعليّة." وهذا ما استولد لائحةَ "المنظّمات الأجنبيّة الإرهابيّة،" وهي لائحةٌ تابعةٌ لوزارة الخارجيّة، ولا تزال قائمةً إلى اليوم.(5) وقد تمدّدتْ هذه اللائحة ــــ أثناء انتقالها من حيّز العقوبات الاقتصاديّة إلى حيّز المقاضاة الجنائيّة/ الإجراميّة ــــ خارجَ السياق الفلسطينيّ، لتشملَ منظّماتٍ من دول مختلفة. وبينما عكستْ بعضُ الإضافات إيديولوجيا شبيهةً بتلك التي استهدفتْ فلسطين (القوات المسلّحة الثوريّة في كولومبيا مثلًا)، فإنّ إضافاتٍ لاحقةً، مثل الطائفة اليابانيّة/ الحركة الدينيّة الجديدة، أو "القاعدة،" تعبّر عن تعدّديّة أولويّات السياسة الخارجيّة الأميركيّة.(6)
ثمّة "لوائح إرهاب" شبيهة ــــ أُعدَّت بغالبيّتها بعد 11 أيلول 2001 في دولٍ مختلفة ــــ تتبع النموذجَ الأميركيّ. وأحدُ مميّزات التطبيق الأميركيّ للوائح "المنظّمات الإرهابيّة" إضافةُ تصنيفٍ جديدٍ للنشاطات الإجراميّة، هو "الدعمُ المادّيّ" المقدّم إلى المنظّمات المصنّفة إرهابيّةً. وهذا الدعم لا ينحصر بالمال أو السلاح، بل هناك عاملو إغاثة فلسطينيّون يقضون محكوميّةَ سجن 65 عامًا في الولايات المتّحدة عقابًا على جمعِ أموال لمؤسّسات إغاثة!(7) والهدف من قوانين "الدعم الماليّ" إشاعةُ الرعب، وشلُّ أيّ دعم ــــ ماديّ وأخلاقيّ وسياسيّ ــــ لتلك التنظيمات المرصودة. إنّ الأحكام الشديدة القسوة ضدّ عمّال الإغاثة الخمسة التابعين لـ"[صندوق] الأراضي المقدّسة،" أو ملاحقة الأسيرة الفلسطينيّة السابقة رسميّة عودة، قد تردع قطاعاتٍ واسعةً من الجالية الفلسطينيّة عن الانخراط في العمل السياسيّ الذي يتعرّض إلى ترصّد استخباريّ.(8)
إنّ سنّ هذه القوانين وتطبيقَها نجحا في خلق بيئة داخل الولايات المتّحدة ترهِبُ التأييدَ العلنيَّ لمنظّمات كالجبهة الشعبيّة والجهاد الإسلاميّ وحماس وحزب الله. وفي المقابل جرى تشجيعُ "البدائل الآمنة،" كالمنظّمات غير الحكوميّة التي تولّدتْ من عمليّة أوسلو؛ علمًا أنّ هذه المنظمات معرّضة بدورها للمراقبة الدائمة والهجوم إذا تواصلتْ مع منظّمات سياسيّة فلسطينيّة، أو انخرطتْ في أعمال معادية للفصل العنصريّ الصهيونيّ والاستيطان الاستعماريّ.
في الأثناء، فإنّ مقاضاةَ "الإرهاب،" واختلاقَ "لوائح الإرهاب،" وتشارُكَها مع الكيان الإسرائيليّ والدول الأوروبيّة والولايات المتّحدة وبعض الدول العربيّة، قد أسهمتْ في وضع المنظّمات الثوريّة الفلسطينيّة وغيرها "خارج المقبول،" بل في عداد المجرمين والخارجين على القانون. وإذا كان العنفُ الثوريّ الذي مارسه وديع حدّاد ورفاقُه قد نقل القضيّةَ الفلسطينيّةَ من الحيّز الإنسانيّ البديهيّ إلى الحيّز السياسيّ، فإنّ دور "لوائح الإرهاب" والدولِ التي تنتجُها هو حصرُ تلك التنظيمات في جحور الإجرام الاستثنائيّ. لقد أُسقطتْ قضايا من نوع "حقّ الشعوب في مقاومة الاستعمار بأيّ وسيلةٍ متاحة،" في الوقت الذي تعلن فيه "الأسرة الدوليّة" عن قلقها من "التحريض" على الاستعمار!
بهذه الطريقة، قُمع التعبيرُ السياسيّ لهذه المنظّمات. كما أنّ وسائل الإعلام الكبرى تتجاهل مواقفَ منظّمات المقاومة الفلسطينيّة وغيرها الكثير، أو تولّيه أهمّيّةً ثانويّةً مقارنةً بـ"القلق" على "أمن إسرائيل." كما يجري التركيزُ على تفحّص المنظّمات الثوريّة وعدائيّتها "العصيّة على الفهم،" بدلًا من السعي إلى فهمها على خلفية رفضها للاستعمار فوق أراضيها. في المقابل، يتمّ تخيّلُ "مجتمع دوليّ" يؤمّن العدالةَ والتحرّرَ بواسطة ملء استمارات مكتبيّة في المكان والزمان المناسبَين(!)؛ ولذلك يصبح أيُّ تعطيل لدورة الاستسلام للاضطهاد تعبيرًا عن "الكراهية" بدلًا من أن يكون مقاومةً طبيعيّةً.
في السياق الفلسطينيّ، تقترب "لوائحُ الإرهاب" الدوليّة كثيرًا من لوائح إسرائيل المصنّفة "لمنظّمات ممنوعة أو عدائيّة،" والتي على أساسها يُزجّ بآلاف الفلسطينيّين في السجون بسبب نشاطاتٍ من بينها حضورُ اجتماعات ورفعُ أعلام ويافطات. ففي كلّ عام، تتعرّض الانتخاباتُ الطلّابيّة في جامعات فلسطين لعمليّات اقتحام وهجوم وإغارة إسرائيليّة.(9) يحصل ذلك وسط صمت دوليّ رسميّ، وغالبًا ما توجَّه حملاتُ ضغطٍ على جامعات العالم لحملها على عدم التقيّد بحملات المقاطعة الفلسطينيّة ضدّ معاهد إسرائيل الأكاديميّة. وفي المقابل تحرّض إسرائيل العالمَ على قطع العلاقات مع جامعات فلسطينيّة بحجّة أنّ الطلبة الفلسطينيّين يصوّتون لـ"منظّمات إرهابيّة" أو يشاركون في تنظيم فعاليّات مع قوى طلّابية/ سياسيّة فلسطينيّة بارزة.(10)
إنّ اشتمالَ "لوائح الإرهاب" الأميركيّة على منظّمات طائفيّة ويمينيّة مستهدَفة من الإمبرياليّة، كـ"القاعدة" و"داعش،" يسهم في التمويه على طبيعة اللائحة لكونها وسيلةً تخدم السياسات الخارجيّة الأميركيّة؛ كما أنّها تُستخدم لمساواة تلك القوى الرجعيّة بحركات التحرّر، وتروِّج لسرديّة نتانياهو وشركاه بأنّ داعش تساوي حماس التي تساوي حزبَ الله الذي يساوي الجبهة الشعبيّة. إنّ الخلط العشوائيّ المتعمّد في اللوائح يُستخدم وسيلةً لبثّ التشويش، والدمج بين ظواهر غير متطابقة بل متعارضة كلّيًّا.
إنّ الهدف من "لوائح الإرهاب" في عصر "الحرب على الإرهاب" هو الاستمرارُ في عمليّة التدمير التي تجعل العالمَ آمنًا للرأسماليّة والصهيونيّة والعنصريّة والإمبرياليّة، عبر جعل المقاومة السياسيّة والعسكريّة "مستحيلةً" وذاتَ "أخلاقيّاتٍ مقزِّزةٍ،" وفي عداد "المجرمين" من ناحية القانون. أضف إلى ذلك أنّ "لوائح الإرهاب" تسبّب شرخًا بين جاليات المنافي وحركاتها المقاوِمة؛ إذ يُحرَّم عبر القانون الانخراطُ في هذه الحركات. ثم إنّها تساوي بين المضطهَد والمضطهِد، بينما تناقش مؤسّساتُ الأمم المتّحدة إنْ كانت منظّماتُ المقاومة الفلسطينيّة قد ارتكبت "جرائمَ حرب" لاستعمالها أسلحتَها المحدودة ضدّ مستعمرها المدجَّج بالسلاح.(11)
علاوةً على ذلك، فإنّ أُطر عمل "الحرب على الإرهاب" تسعى إلى اجتثاث الحركات الثوريّة وتحليلِها السياسيّ، حائلةً دون إعادة توليد "عصر وديع حدّاد" ودورِ الثورة الفلسطينيّة الرائد في النضال العالميّ ضدّ الاستعمار، مستخدمةً القوّة العارية، عبر إعادة التأكيد أنْ لا بديلَ عن البُنى التي تصمّمها الولاياتُ المتّحدة والكيانُ الإسرائيليّ والقوى الأوروبيّة وحلفاؤهم من الأنظمة العربيّة، وأنّ كلّ من يحاول إيجاد بدائل سيواجَهُ بعقوبات قاسية.
لنأخذْ، على سبيل المثال، قضيّةَ جورج إبراهيم عبدالله؛ وهو شيوعيّ لبنانيّ، مناضل من أجل فلسطين، معتقلٌ في سجون فرنسا منذ أكثر من 32 عامًا. طوال هذه الأعوام رفض جورج التنازلَ عن مبادئه السياسيّة، وهو ما ساهم في منع إطلاق سراحه أو ترحيله إلى لبنان.(12) أما أحمد سعدات، الأمينُ العامّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، فقد رفضتْ إسرائيل إدراجَه في صفقة تبادل أسرى مع المقاومة الفلسطينيّة (بعد أن اختُطف، مع رفاق له، من سجنٍ تابعٍ للسلطة الفلسطينيّة، تحت حراسة بريطانيّة ــــ أميركيّة، بادّعاء الخشية من احتمال إطلاق سراحه).(13) ولم يكن ذلك مصادفة، بل يعكس رفض المناضليْن كليْهما تعديلَ مواقفهما السياسيّة مقابل منافع شخصيّة. وفي المقابل، إذا بدّلتْ منظمةٌ ما من مواقفها السياسيّة، فستُحذف من لوائح الإرهاب؛ خذوا حالة الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين، التي وُضعت أصلًا على "لائحة الإرهاب" بسبب معارضتها لعمليّة أوسلو، ثمّ أسقطتْ من اللائحة سنة 1999 بعد تلقّي الولايات المتّحدة تأكيداتٍ من رئيس السلطة ياسر عرفات بأنّ "الجبهة" منفتحة على إعادة النظر في موقفها من أوسلو والسلطة الفلسطينيّة.(14)
إنّ شعار وديع حدّاد ورفاقِه "وراء العدو في كلّ مكان" يقابله اليومَ ردٌّ مكثّفٌ ومتطوّرٌ تقنيًّا، هو "العدوّ وراء الشعب في كلّ مكان،" كما هو ماثل في العديد من "العمليّات الخارجيّة" التي تنفّذها الإمبرياليّةُ والصهيونيّة. ومن الاجتياحات، إلى الترصّد والتجسّس على الجاليات، فإلى سجن النشطاء واستخدام القوّة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة ضدّ حركات التحرّر، غدت "الحربُ على الإرهاب" وجهًا جديدًا للصراع الكلاسيكيّ: "الإمبرياليّة في مواجهة الشعوب." إنّ المقاومة، المستهدَفة بـ"الحرب على الإرهاب" وبالهجوم المستمرّ من قوى الإمبرياليّة والصهيونيّة، هي الأكثر أهليّةً لتحديد أساليبها من أجل تحقيق أهدافها في العودة والتحرير؛ ووحدها المقاومة هي التي يمكنها أن تقرّر استخدامَ العنف الثوريّ، سواء في داخل فلسطين أو خارجها، كجزء من نضالها، من أجل الانقلاب على الوضع القائم، تمامًا كما فعل المناضلون الفلسطينيّون منذ قرابة الخمسين عامًا.
إنّ استعادةَ تاريخ وديع حدّاد ورفاقِه وإرثِهم ليست مسألةَ خيارٍ بل ضرورة. فذلك التاريخ قد ثَبّت النضالَ الفلسطينيَّ في قلب الحركات المناهضة للرأسماليّة والاستعمار في ذلك العصر. ومن تشي غيفارا إلى اصاطة شكور، ومن هوشي منه إلى وديع حدّاد، ما تزال دروسُ تلك المرحلة متاحةً لمناضلي أيّامنا هذه، بغضّ النظر عن الأساليب التي قد يستخدمونها من أجل التحرّر. إنّ إنكارَ ذلك التاريخ، أو القبولَ بتظليله بصفة "الإرهاب،" يحرّف النضالَ الفلسطينيَّ ويفصله عن الحركات الثوريّة التي أنشأتها شعوبُ العالم. إنّ إعادةَ تبنّي ذلك التاريخ واستيعابَ دروسه كفيلان بالبدء بتحدّي منظومة "الحرب على الإرهاب" وهيمنةِ القوى الإمبرياليّة، باتجاه استيلادٍ جديدٍ لحرب الشعب ضدّ إرهاب الدول الإمبرياليّة.
المنسّقة الدوليّة لشبكة التضامن مع الأسير الفلسطيني (صامدون).