*حقّ العودة: تناقضُ الخطابيْن الرسمي والشعبي
30-05-2018

 

على مدخل مخيّم الفارعة للاجئين قرب نابلس قوسٌ ضخم، كَتب عليه اللاجئون: "مخيّم الفارعة محطّةُ انتظارٍ حتّى العودة!" وعلى الشارع الرئيس الذي يوصِل البيرةَ بالقدس يافطةٌ ضخمةٌ كُتب عليها: "الأرض والقدس واللاجئون قضايا غير خاضعة للمساومة!" وتتكرّر شعاراتٌ مثل "القدس" و"العودة" على ملصقات الذكرى، وكلُّها موقَّعة باسم "اللجنة الوطنيّة العُليا لإحياء ذكرى النكبة،" وهي هيئة رسميّة تتبع اللجنةَ التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة.

ظاهريًّا، لا تناقضَ بين الخطابيْن، خطابِ مخيّم الفارعة وخطابِ اللجنة العليا. فحقّ العودة ظاهرٌ في شعار المخيّم واللجنة العليا؛ بل إنّ شعار هذه اللجنة يُؤكّد حقَّ العودة عبر رفض "المساومة" على قضيّة اللاجئين. ومع ذلك، فليست حقيقةُ الخطاب ما يُعلِنه فقط، بل ما يُضمِره أيضًا، وما يستهدف من إعلانه أحيانًا. وهذا ما يوجب التوقّفَ عنده لتحليله.

***

منذ "وثيقة بيلين ــــ أبو مازن" (1995)،[1] خرج موقفٌ جديدٌ في الخطاب الفلسطينيّ الرسميّ يطالب بـ"حلّ عادل متّفقٍ عليه لقضيّة اللاجئين." وأحيانًا يضاف إلى ذلك الموقف التذكيرُ بالقرار الأمميّ 194، الذي ينصّ بوضوحٍ على حقّ عودة اللاجئين إلى أراضيهم واستعادة ممتلكاتهم والحصول على تعويضات.

تكرّر هذا الأمر في بيان "المجلس المركزيّ الفلسطينيّ،" الذي أكّد تمسّكَه بـ"المبادرة العربيّة" التي تطالب بحلّ قضيَة اللاجئين استنادًا إلى القرار الدوليّ 194.[2] بيْد أنّ بعض الفصائل الفلسطينيّة (حماس والجهاد الإسلاميّ والجبهة الشعبيّة) رفضت القرار حين قاطعتْ دورة "المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ" الأخيرة التي نصّت في بيانها الختاميّ على ضرورة حلّ قضيّة اللاجئين استنادًا إلى القرار 194. [3]

والحال أنّ ثمّة بونًا شاسعًا بين "المطالبة بحقّ اللاجئين في العودة،" وحلّ هذه القضيّة "استنادًا إلى القرار 194." فهذا الأخير عرضةٌ للمساومة كأيّ نتاجٍ لأيّة عمليّة تفاوضيّة، وقد يَدفع تطبيقُ "الحلّ" إلى أن يتنازلَ أحدُ الأطراف (الجانب الفلسطينيّ صاحبُ الحق)، وأن يسيطرَ طرفٌ آخر (الجانب الإسرائيليّ المنتزِعُ لهذا الحقّ). أمّا تنفيذ حقّ عودة اللاجئين إلى أرضهم فلسطين، فهو حقٌّ يَستلزم عمليّةً نضاليّةً تقوم على إنهاء المشروع الصهيونيّ، وعلى رأسه المؤسّساتُ السياسيّة التابعة له والمروِّجَة لغطرسته. ولمّا كانت قيادةُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة قد اختارت منذ العام 1993 نهجَ التفاوض مع العدوّ الصهيونيّ، فقد كان لزامًا عليها أن تُطوِّع "خطابَ حقّ العودة" كي لا تصبح هذه العودةُ ممكنةً إلّا بالتفاوض.

وإذا كانت تلك حقيقةَ ما يعلنه الخطابُ الرسميّ، فإنّ شعارات "اللجنة الوطنيّة العليا،"[4] كما أثبتناها أعلاه، ليست إلّا تساوقًا شكليًّا مع الخطاب الشعبيّ. الأدهى من ذلك هو عبارة "متّفَق عليه" في "حلّ عادل متَّفَق عليه لقضيّة اللاجئين" كما ورد على لسان الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس؛[5] فهذا يعني بوضوح أنّ حقّ العودة غيرُ قابلٍ للتطبيق إلّا بموافقة الصهاينة والالتزام بشروطهم. وحين يأتي تبنّي عبّاس صيغةَ "متّفَق عليه" بالتزامن مع إعلان "اللجنة الوطنيّة العليا" أنّ قضيّة اللاجئين "غير خاضعة للمُساومة،" فسيتّضح أنّ المُساومة هي رهينةُ المفاوضات  التي اختبرها شعبُنا منذ 25 عامًا وارتدّت سلبًا عليه: إذ زادت المستوطنات ومصادرةُ الأراضي، وتراجع الاهتمامُ الدوليّ بالقضيّة الفلسطينيّة.

***

هذا، وبمناسبة مرور مئة عام على وعد بلفور، حاولت الجهودُ الرسميّة الفلسطينيّة انتزاعَ اعتذارٍ رسميّ من بريطانيا عمّا فعلتْه بالشعب الفلسطينيّ. ويبدو المطلب، للوهلة الأولى، مشروعًا: فبريطانيا، بإعطائها اليهودَ حقَّ إقامة وطنٍ قوميّ في فلسطين، مَنحتْ ما لا تَمْلك لمن لا يَستحقّ، وعلى حسابِ مَنْ يَملك. ولكنْ، بعد تحليل سياق المطلب وارتباطاته، تمْكننا ببساطةٍ ملاحظةُ الضجيج الأجوف في هذا المطلب.

فقيادة منظّمة التحرير التي تطالِب بريطانيا بالاعتذار لم تكتفِ بالاعتراف السياسيّ بدولة إسرائيل، بل اعترفت أيضًا بشرعيّة هذه الدولة، وذلك في الرسالة المتبادلة بين عرفات ورابين في العام 1993 كملحق لاتفاقيّة أوسلو. ولمّا كان الاعتراف بشرعيّة الكيان اعترافًا بحقّه في الأرض، فذلك يعني أنّ تلك القيادة، درت أو لم تدرِ، موافقةٌ بأثر رجعيّ على وعد بلفور!

***

إذن نحن أمام خطابٍ بوجهين: وجهٍ يُخاطب الجماهيرَ الفلسطينيّة بشعاراتٍ طنّانة متساوقًا مع خطابها الشعبيّ؛ ووجهٍ رسميّ يعلن للعالم وللصهاينة استعدادَه للمساومة على حقّ العودة.

ويمكن القول، في الوضع الفلسطينيّ الغارق في التسويات، إنّ كلّ مركّبات الخطاب الشعبيّ هي على نقيض الخطاب الرسميّ تمامًا. ففي حين يساوم الخطاب الرسميّ على حقّ العودة مثلًا، فإنّ مسيرات العودة (التي انطلقتْ منذ 30 آذار الماضي، وحتى المسيرة الكبرى يوم 14 أيّار) لم  تُسمِع الحشودُ في مختلف المواقع، وخصوصًا في قطاع غزّة الذي يعود أكثرُ من 70% من سكّانه إلى صفوف اللاجئين،[6] إلّا صوتَ حقّ العودة. وقد تَرجمتْ هذه الحشودُ مطالبَها في شعاراتها، وفي يافطاتها التي تحمل أسماءَ قراها المهجَّرة والمدمَّرة، وفي الأعمالِ المسرحيّة داخل المخيّمات والمؤسّسات القاعديّة في الوطن وأماكنِ اللجوء. ولقد أصبح لافتًا  في السنين الأخيرة أنّ أطفال المخيّمات وشبابَها باتوا يُعرِّفون أنفسَهم، أكثرَ فأكثر، بهويّة القرى الأصليّة التي هُجّروا منها: "أنا من راس أبو عمار وساكن في الدهيشة،" "أنا من اللد وأسكن الجلزون،" "أنا من المالحة وأسكن في البيرة..." وكلُّها مظاهرُ خطاب شعبيّ على النقيض من الخطاب الفلسطينيّ الرسميّ الذي يتلوّن بأشكال مختلفة لكنْ يجمعه قاسمٌ مشترك واحد: الالتفافُ على مطلب حقّ العودة.

الكبار يموتون بالتأكيد، وهذا هو منطق الحياة. ولكنّ الصغار لا ينسوْن، وذلك هو منطقُ الانتماء إلى التاريخ والجغرافيا والوطن: فلسطين.

فلسطين


[1] - وثيقة غير رسميّة وقّعها، كما تناقلت الأنباء، أبو مازن والصهيونيّ يوسي بيلين. وقد أنكر أبو مازن توقيعَه، فعُرفتْ باسم "وثيقة بيلين ــــ ياسر عبد ربّه." وهي تتضمّن "مقترحاتٍ" لحلّ قضيّة اللاجئين مع شطب حقّ العودة (كما عُرّف في القرار الأمميّ 194). رفضها أبو عمّار، على ما ذكرت الأنباء، ولكنّ بعضَ مفاصلها ما زالت تتكرّر حتى اليوم في الخطاب الفلسطينيّ الرسميّ. لمراجعة محتوياتها يمكن الرجوع إلى:

 http://hadfnews.ps/post/16078

و https://ar.wikipedia.org/wiki

[4] - تجدر الإشارة إلى أنّ أوّل رئيس للجنة الوطنيّة العليا لإحياء ذكرى النكبة كان ياسر عبد ربّه، الذي كان حينها عضوًا في اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة وأحدَ المشاركين في وثيقة بيلين ــــ أبو مازن.

[5] - وردتْ صيغة "إيجاد حلّ عادل ومتفَق عليه لقضيّة اللاجئين على أساس القرار194 وكما نصّت عليه المبادرةُ العربيّة للسلام" على موقع https//www.albawaba.com/ar/

[6] https://bit.ly/2wQ41ke
 

ينشر هذا المقال بالتعاون مع "اتجاه" وهي نشرة دورية تصدرها مجموعة نبض الشبابيّة*

 

 

وسام الرفيدي

باحث ومحاضر متفرغ في دائرة العلوم الاجتماعية في جامعة بيت لحم- فلسطين، عمل سابقاً كمحاضر غير متفرغ في جامعة بيرزيت لعلم الاجتماع والدراسات الثقافية. حاصل على شهادتي ماجيستير من جامعة بيرزيت، الأولى في علم الاجتماع عن رسالته، التحولات على مكانة المرأة في الرواية الفلسطينية المعاصرة، ما قبل وبعد أوسلو، والثانية في الدراسات العربية المعاصرة.

يحاضر الرفيدي منذ سنوات في مساقات عدة منها النظرية الاجتماعية، الحركات الاجتماعية، الإعلام والاتصال، السكان، والعائلة، كما يساهم حالياً مع زملائه في الدائرة تطوير مساقات إضافية في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني وعلم اجتماع الدين. للباحث رواية منشورة (الاقانيم الثلاثة) بطبعتين في رام الله ودمشق، وكتاب صدر عن الفارابي حول المرأة والرواية الفلسطينية بين زمنين: أوسلو والمقاومة، وكتاب ثاني صدر في رام الله حول صناعة الكتاب في فلسطين قُدِم لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب، كما وله العديد من الدراسات المنشورة في مجلات وكتب، منها دراسات في الهوية الفلسطينية بعد أوسلو، القومية المتخيلة والعنف في النص التوراتي، والخطاب الفكري للمنظمات.

 تتعدد اهتمامات الباحث معرفياً فإضافة لحقول العلوم الاجتماعية، تحظى قضايا مثل نظرية الرواية والنص الديني والفكر السياسي باهتمام خاص من قبله.