كورونا: الاشتراكيّة إنسانيّة والرأسماليّة بربريّة
31-03-2020

 

"الكورونا توحِّدنا": جملةٌ تتكرّر هنا وهناك، برومانسيّةٍ أخلاقيّةٍ لا تقول شيئًا واقعيًّا بل تموِّه على حقيقتين:

- الأولى أنّ الكورونا لم توحِّد البشريّةَ على الإطلاق. والدلائلُ كثيرة، وستَظْهر تلقائيًّا في سياق المقالة.

- والثانية هي ترابطُ الصحّة والسياسة. يكفي أنّ في علم الاجتماع حقولًا تعكس بمسمَّياتها ذلك الترابطَ: علم اجتماع الصحّة، علم اجتماع الجسد،... وتكفي مراجعةُ عشرات الدراسات المعنيّة بـ"السياسات الصحّيّة" في أمريكا، وهي تتناول العلاقةَ بين الصحّة والأقلّيّاتِ الإثنيّة، وبين الصحّة ولونِ البشرة، وبين الصحّة وبرامجِ الأحزاب والمرشّحين، وغير ذلك من علاقات.

وعليه، فليس من باب التعسّف أن نرى إلى العلاقة بين الكورونا كوباءٍ عالميّ، وبين السياسة الدوليّة وتضارُبِ المصالح بين الأنظمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة المختلفة. ولن نأتي بجديدٍ عندما نشير إلى الفارق الهائل بين آليّات مكافحة الفيروس في الصين، وآليّات مكافحته في الدول الرأسماليّة (أوروبا والولايات المتحدة)؛ فذلك الفارقُ غدا أقربَ إلى الحديث اليوميّ لمتابعي أخبار الكورونا. ولن نجانب الصوابَ إنْ قلنا إنّ اتجاهَ المتابعين العامّ يميل إلى الإشادة بالسياسة الصينيّة الحازمة والناجحة في معالجة الأزمة، وإلى إدانة السياسة الرأسماليّة في المعالجة والتندّرِ عليها.

حسبُنا في هذا السياق إعطاءُ أمثلةٍ سريعةٍ لملاحظة الفارق، وسنعالج لاحقًا ما يكمن خلف تلك السياسات من توجّهاتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ تحرِّكها الإيديولوجيّاتُ المختلفة.

***

رئيسة المفوّضيّة الأوروبيّة أعلنتْ أنّ الاتحاد الأوروبيّ أخطأ بتأخّره في اتخاذ الإجراءات،[1]ما أدّى إلى انتشار الفايروس بشكلٍ مأساويٍّ في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، حاصدًا حيواتِ عشراتِ الآلاف من السكّان. لكنْ يبقى السؤالُ المنطقيّ: هل كانت المسألة مرتبطةً بـ"التأخّر،" أمْ بالتردّد في اتّخاذ الإجراءات حرصًا على مصالح السوق وعدمِ تعطيل عمل الشركات الرأسمالية؟ ما يرجّح الإجابةَ الثانيةَ هو السياسةُ البريطانيّة التي أعلنها جونسون والمسمّاة "مناعة القطيع" (Herd Immunity)، التي هي صياغةٌ عصريّةٌ لنظريّة مالتوس العنصريّة والبربريّة في التعامل مع حياة البشر.

لقد كان الإرباكُ والتأخّرُ وتغليبُ مصالح السوق الرأسماليّة هي عناوينَ السياسة الرأسماليّة في التعامل مع الأزمة. والمتابِعُ لتصريحات ترامب اليوميّة، ولاندلاقِه الطفوليّ على التغريد على موقع تويتر، يلمس كيف يفكّر هذا الممثّلُ الأبرزُ للرأسماليّة الليبراليّة الجديدة. وما إعلانُه أنّ "العودة إلى العمل" هي الوقايةُ الأهمُّ من الكورونا بديلًا للحجْر المنزليّ[2]إلّا انعكاسٌ للمَدَيات التي يمكن أن يصلَها الفكرُ الرأسماليُّ في الاستهانة بحياة البشر مقابلَ مصالح رأس المال.

أكثر من ذلك: ففي خطوةٍ لا تهدف سوى إلى استغلال الأزمة للتكثير من الأرباح، سعى ترامب إلى رشوة الرئيس التنفيذيّ لشركة "كيور فاك" الألمانيّة لصناعة الأدوية بمليار دولار لشراء البحث الذي يعمل عليه باحثو الشركة من أجل إيجاد لقاح للفيروس.[3]طبعًا، الهدف الأمريكيّ هو احتكارُ اللقاح، عند جاهزيّته للبيع، من أجل التحكّم بسعر السوق. وعندما افتُضِحت الصفقة، عُزل رئيسُ الشركة.

كما أنّ تصعيدَ العقوبات ضدّ إيران التي تعاني فايروسَ الكورونا يُضعف قدراتِ الإيرانيين على مجابهته. ناهيكم بالعقوبات المفروضة على روسيا وسوريا وفنزويلا. وكلُّ ذلك يؤشِّر إلى أنّ الفكر الرأسماليّ لا يقيم وزنًا لِما يسمَّى "التعاون الدوليّ لمجابهة كورونا،" بل لا يفكّر إلّا في مصالحه الضيّقة في صراعه مع الأنظمة التي لا تدور في فلكِه.

ثمّ إنّ العزوفَ الأوروبيّ عن إسناد إيطاليا منذ بداية تفشّي الفيروس قد بات معروفًا. وهو لم يستدعِ الإدانةَ الإيطاليّة التي تناقلتْها شبكاتُ التواصل فحسب، بل قام بعضُ الإيطاليين أيضًا - وفي لفتةٍ بارزة - بإنزال العلم الأوروبيّ ورفعِ علمِ الصين محلّه.[4] لقد تعاملتْ أوروبا الرأسماليّة مع بلدان الاتحاد الأوروبيّ وفق المقولة الشعبيّة: "كلّ واحد يدبّر رأسه،" وذلك في تشديدٍ مريعٍ على انتفاء التعاون بين الرأسماليين أنفسِهم.

***

وفي المقابل، حين كانت أوروبا قد بدأتْ تَنْدب حظَّها العاثرَ نتيجةً لـ "تأخّرها،" وكانت أمريكا قد بدأتْ تتحوّل إلى بؤرةٍ للفيروس عالميًّا حاصدةً عشراتِ آلاف المصابين ومئاتِ الوفَيات، كانت الصينُ تعلن انفراجَ الأزمة وفكَّ عزلة "ووهان" وعودةَ 90% من المصانع إلى العمل.

لم تطلق الصينُ نداءاتِ الاستغاثة لتزويدها باللوجستيّات الضروريّة والكوادر الصحّيّة، بل قامت بتصدير ذلك إلى العالم الرأسماليّ، وبخاصّةٍ إلى فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. ولمَنْ يحاجِج بأنّ الصين ذاتُ اقتصادٍ جبّار، ومن ثمّ لديها "فائضٌ" توزِّعه، فما علينا إلّا أن نشير عليه بالسلوك الكوبيّ:

فكوبا دولةٌ صغيرةٌ بعدد السكّان، ومحدودةُ الموارد، وذاتُ اقتصادٍ متواضع، بل محاصَرٍ أيضًا منذ منتصف القرن الماضي؛ ومع ذلك فهي ترسل كوادرَها الصحّيّةَ إلى كلِّ مَنْ يطلبها.[5] المسألة، إذًا، ليست في "ضخامة الاقتصاد،" وإنّما في مكانٍ آخرَ نذكره تاليًا.

 

كوبا دولة صغيرة محاصرة، لكنّها ترسل كوادرَها الصحّيّةَ إلى كلِّ مَنْ يطلبها

 

في اعتقادي إنّ ما ميّز الصينَ في قدرتها على مجابهة الأزمة عاملان رئيسان وغيرُ وحيديْن بطبيعة الحال:

1) الأوّل هو طبيعةُ النظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي يروم تنميةً شاملةً على كلّ المستويات، ومنها الصحّيّة، بأفقٍ اشتراكيٍّ (على الطريقة الصينيّة). وهذا يعني رعايةَ الدولة للخدمات الصحّيّة على مختلف مسمَّياتها: من كوادرَ طبّيّةٍ، ومراكزِ أبحاثٍ، ومستشفياتٍ، ومَرافقَ، ولوجستيّاتٍ شتّى. وهل من داعٍ إلى التذكير بأنّ كلَّ تلك الخدمات مجّانيّة؟ تلك هي مأثرةُ الاشتراكيّة الأولى: الأولويّةُ لحياة البشر، لا للمصالح الاقتصاديّة ورأسِ المال. يمكننا أن نتخيّل فقط حجمَ تلك "الخدمات" المقدَّمة إلى مليار ونصفِ المليار من السكّان، ناهيكم بمجّانيّة التعليم أيضًا.

2) الثاني هو وجودُ الحزب الشيوعيّ كقائدٍ للدولة والمجتمع والنظام السياسيّ في الصين. والسؤال البسيط الآتي يَصْلح مدخلًا لمعالجة أهمّيّة هذا العامل: مِن أين يتأتّى هذا الانضباطُ المجتمعيُّ الفريدُ من نوعه؛ وأعني انضباطَ مليار ونصف المليار من السكّان بتوجيهات الدولة وقطاعِها الصحّيّ؟ إنّه انضباطٌ لم يشهدْ تكالبَ مجنونٍ على محالّ الموادّ التموينيّة، ولا نهبَ منفلِتٍ من عقاله، خلافًا لما بثّته شبكةُ CNN من عمليّات شراء هائلة في نيوجيرزي ونيويورك وكونَتيكِت، الأمرُ الذي تطلّب انتشارَ الجيش والحرس الوطنيّ.[6]

أين تكمن أهمّيّةُ الحزب الشيوعيّ الصينيّ هنا؟ إنّها لا تكمن في التربية الشيوعيّة على الإخلاص اللامتناهي للجماهير ومصالحِها واحتياجاتِها فحسب، بل تكمن في القدرة أيضًا على التواصل المنظّم مع مليار ونصف مليار مواطن من أجل توحيد الجهود وتنفيذ قرارات الحزب والدولة لمواجهة كورونا وتشكيل مجموعات شيوعيّة لتقديم كافّةِ ما يلزم على كلّ مستويات البلد - - مقاطعاتٍ ومدنًا وقرًى وأحياءً، ولجانًا تساند في حلّ مسائل الفحوص وتزويد السكّان بالأدوية والموادّ الغذائيّة ومراقبةِ الحجْر المنزليّ.

تبلغ عضويّةُ الحزب الشيوعيّ الصينيّ، بحسب إحصاءات العام 2018، 90 مليون شيوعيّ ينتظمون عبر مئات آلاف المنظّمات الحزبيّة القاعديّة المنتشرة في عموم الصين. وبحسابٍ بسيطٍ،[7] فإنّ كلّ شيوعيّ يَنْشط بين حوالي 15 مواطنًا تقريبًا؛ ما يعني ضبطَ إيقاع المواطنين المليار ونصف المليار وفق سياسةٍ واحدةٍ وحازمةٍ وسريعة. وهذا ما مكّن الصينَ من معالجة الأزمة بسرعة.

غير أنّ الإعلامَ الرأسماليَّ الوقح، كما أظهرت الغارديان، لم يجد في الإجراءات الصينيّة سوى "تقييدٍ للحريّات الشخصيّة!"[8]

***

أمّا بعد، فنحن أمام إيديولوجيتيْن مختلفتيْن تمامًا في معالجة أزمة الكورونا: الإيديولوجيا الماركسيّة التي توجِّه النظامَ في الصين، والإيديولوجيا الليبراليّة الرأسماليّة الجديدة التي توجِّه بلدانَ رأس المال. الأولى تضع البشرَ في قمّة أولويّاتها، بينما الأخرى تضع الربحَ والنهبَ في تلك القمّة.

الاشتراكيّة هي الإنسانيّة؛ وتلك خلاصةُ تجربة الرفاق الصينيّين. أمّا الرأسماليّة فهي البربريّة؛ وتلك خلاصةُ تجربة ترامب وجونسون.

لقد أشبَعَنا منظِّرو الرأسماليّة وأتباعُهم من مثقّفي البلاط الرأسماليّ بحديثهم عن "حقوق الإنسان" في عالم رأس المال، بينما كالوا لنا - - نحن اليساريين والشيوعيين، بتيّاراتنا ودولنا وأنظمتنا - - كلَّ ما في جعبتهم من شتائمَ واتّهاماتٍ وتشهيرٍ بـ"عدم مراعاتنا حقوقَ الإنسان." وها هي أزمةُ الكورونا تُظْهر جليًّا مَنْ وَضع الإنسانَ وحياتَه وحقَّه في الحياة نصب عينيْه بإجراءاته وسياساته وتوجّهاته، ومَنْ وجّه اهتمامَه إلى مصالح رأس المال النهبيّ فقط.

فلسطين المحتلّة

 
وسام الرفيدي

باحث ومحاضر متفرغ في دائرة العلوم الاجتماعية في جامعة بيت لحم- فلسطين، عمل سابقاً كمحاضر غير متفرغ في جامعة بيرزيت لعلم الاجتماع والدراسات الثقافية. حاصل على شهادتي ماجيستير من جامعة بيرزيت، الأولى في علم الاجتماع عن رسالته، التحولات على مكانة المرأة في الرواية الفلسطينية المعاصرة، ما قبل وبعد أوسلو، والثانية في الدراسات العربية المعاصرة.

يحاضر الرفيدي منذ سنوات في مساقات عدة منها النظرية الاجتماعية، الحركات الاجتماعية، الإعلام والاتصال، السكان، والعائلة، كما يساهم حالياً مع زملائه في الدائرة تطوير مساقات إضافية في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني وعلم اجتماع الدين. للباحث رواية منشورة (الاقانيم الثلاثة) بطبعتين في رام الله ودمشق، وكتاب صدر عن الفارابي حول المرأة والرواية الفلسطينية بين زمنين: أوسلو والمقاومة، وكتاب ثاني صدر في رام الله حول صناعة الكتاب في فلسطين قُدِم لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب، كما وله العديد من الدراسات المنشورة في مجلات وكتب، منها دراسات في الهوية الفلسطينية بعد أوسلو، القومية المتخيلة والعنف في النص التوراتي، والخطاب الفكري للمنظمات.

 تتعدد اهتمامات الباحث معرفياً فإضافة لحقول العلوم الاجتماعية، تحظى قضايا مثل نظرية الرواية والنص الديني والفكر السياسي باهتمام خاص من قبله.