تقديم وملاحظة
مداخلتي قسمان. الأوّل خاصّ بالانتخابات التشريعيّة في الضفّة وقطاع غزّة في 22/5/2021. والقسم الثاني يتعلّق بانتخابات الكنيست الإسرائيلي قبلها، وتحديدًا في 23/3/2021.
ملاحظة لا بدّ منها في خصوص الانتخابات في الضفّة والقطاع: موقفي يجب ألّا يعتبرَه أحدٌ مزايدةً على أهلنا، ولا على أسرانا بشكلٍ خاصّ، ممّن وافقوا على إجراء هذه الانتخابات. إنّه مجرّد موقف شخصيّ، يستند إلى قراءة معيّنة لمسار الأحداث، ومن ثمّ يحتمل الخطأ بالتأكيد.
الانتخابات في الضفّة والقطاع: أسئلة واستيضاحات
أعتقد أنّ كثيرين من مؤيّدي الانتخابات في الضفّة والقطاع يعتقدون أنها ستحسِّن الأمورَ عمومًا: أوّلًا لأنّ الوضع، في رأيهم، لا يمكن أن يكون أسوأ ممّا هو عليه اليوم؛ وثانيًا لأنهم يعتقدون أنّ الانتخابات ستُنهي حالةَ الانقسام الفلسطينيّ إلى غير رجعة.
سأكتفي بطرح أسئلة على مؤيّدي هذه الانتخابات، عسى أن نخرج من حالة التفاؤل المفرط التي لا تفيد كثيرًا، شأن حالة الإحباط المفرِط:
- هل صدفة أن يعلن محمود عبّاس الانتخابات التشريعية الفلسطينيّة بعد فوز بايدن؟ أمْ أنّ الإعلان رسالةٌ منه، ملخّصُها أنّ الفلسطينيّين جاهزون لاستئناف "مفاوضات السلام" مع الجانب الإسرائيليّ، ولكنْ بتمثيل شعبيّ فلسطينيّ شرعيّ وشامل هذه المرّة؟
- مَن قال إنّ الوضع لا يمكن أن يكون أسوأ ممّا هو عليه، وتحديدًا حين يشرِِّع "معارضو" أوسلو الانتخابات؟
- هل حقّقت الانتخاباتُ التشريعيّةُ الماضية سنة 2006 الوحدةَ الفلسطينيّةَ المنشودة، أمْ زادت الشرخَ بعد فوز حركة حماس بغالبيّة المقاعد؟ أكثر من ذلك: ألم يتّضح أنّ قرارَ بعضِ الفصائل المشاركةَ في الانتخابات المقبلة قد زاد الانقسامَ داخل هذه الفصائل، خصوصًا لأنّه لم يأتِ حصيلةَ نقاشٍ معمَّق؟
- هل الوحدة الوطنيّة لا تتحقّق إلّا في مجرى الانتخابات، وفي سياق تقاسُم الفائزين لمغانم السلطة؟ ألا يمكن، بل ألا ينبغي، أن تتحقّقَ الوحدة في إطار العمل الشعبيّ والعسكريّ ضدّ الاحتلال؟
- ماذا تغيّر اليوم حتى تُقرِّر بعضُ الفصائل، وتحديدًا الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، المشارَكَةَ في الانتخابات القادمة،[1] في حين أنّها في العام 2013 خطّأتْ مشاركتَها في الانتخابات سنة 2006؟ هل باتت، مثلًا، أكثرَ ثقةً بقدرتها على حصد نجاحاتٍ انتخابيّةٍ أكبر هذه المرّة؟
- أليست الانتخابات قائمةً على أساس اتفاقيّات أوسلو؟ وهل يمكن، أصلًا، معارضةُ أوسلو من داخل مسار أوسلو، أم أنّ هذا محضُ وهمٍ، خصوصًا في ظلّ زيادة ضَعف المعارضين لأوسلو؟
- لنفترضْ أنّ المعارضين فازوا بأكثريّةٍ ساحقةٍ في هذه الانتخابات، وهذا غيرُ متوقَّع طبعًا، فهل يمكن أن يُلغوا أيَّ اتفاقيّاتٍ سابقةٍ مع العدوّ، كالتنسيق الأمنيّ أو أوسلو مثلًا؟ ولنفترضْ أنّهم أسّسوا سلطةً ثوريّةً على أنقاض أوسلو، ومن داخل مسار أوسلو، فهل سيتلقّوْن أموالَ الدعم من "المجتمع الدوليّ" ودولِ الخليج، وأموالَ المُقاصّة من السلطات الإسرائيليّة؟[2]
- ألن تفاقم مشاركةُ المعارضين من ضَعف صدقيّتهم في أعين الناس؟
- من قال إنّ الوحدة مرغوبة في ذاتها، وتحت أيّ عنوانٍ كان؟ ألا يمكن أن تكون "الوحدة" المزعومة مكسبًا للاحتلال لا لشعبنا، وذلك إذا أدّت إلى شرعنة نهج التسوية وتعميمِه؟
هذه الأسئلة، في ذاتها، تطرح مخاطرَ جِدّيّةً وجديدةً على الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. وقد بدأنا نسمع أنغامًا متزايدةً عن "النضال من داخل أوسلو ولكنْ ضدّ أوسلو،" وهي أنغامٌ لن تؤدّي بالعمل الوطنيّ الفلسطينيّ إلّا إلى المزيد من الاضطراب وضبابِ الرؤية.
انتخابات الكنيست: تبريراتُ قديمة متجدّدة
بالانتقال إلى انتخابات الكنيست، نسمع اليوم تبريراتٍ قديمةً للمشاركة الفلسطينيّة فيه، من قبيل:
1) انّ وجود العرب في الكنيست يحمي مصالحَ الفلسطينيّين. لكنْ عمليًّا، كما يقول سليم سلامة، فإنّ "وجود العرب (منذ تأسيس الكنيست) لم يَمنعْ، يومًا، سنَّ قانونٍ عنصريٍّ واحد، ولم يَمنعْ أيّةَ ممارسةٍ عنصريّةٍ تمييزيّة، ولم يَمنعْ مصادرةَ دونم واحدٍ من أراضينا، ولم يَمنعْ هدمَ بيتٍ واحد، ولم يَمنعْ قتلَ شابٍّ عربيٍّ واحد، بل لم يَمنعْ تعرُّضَ أعضاء الكنيست أنفسِهم للضرب والاعتقالِ والمحاكَمَة!"[3] على العكس، ما نشهدُه منذ تأسيس الكيان هو المزيدُ من تهجير الفلسطينيين، أو هدمِ منازلهم، أو دفعِهم إلى الهجرة من خلال عدم منحهم رُخَص بناءٍ مثلًا.
2) التبرير الثاني لترويج المشاركة العربيّة في الكنيست هو منع فوز اليمين المتطرّف. لكنْ هل كان وضعُ أهلنا في فلسطين المحتلّة عام 48 أفضل أثناء حكم "اليسار" الإسرائيليّ؟ كلبناني شهِدَ المجازر والحروبَ التي قام بها هذا "اليسارُ" في لبنان، لا أستطيع إلّا أن أجيبَ بالنفي. ولا أملك إلّا أن أرى وجوبَ تخلّينا جميعًا عن وهم الرهان على "معسكر السلام" الإسرائيليّ، وعن تصويرِه وكأنّه أفضلُ من "اليمين" أو أنّه أهونُ الشرّيْن. هذا بصرف النظر، طبعًا، عن أنّ المتنافسين الإسرائيليّين الحقيقيّين اليوم لا ينقسمون بين يمين ويسار، بل بين يمين و"يمين أكثر تطرّفًا."[4]
3) التبرير الثالث الذي نسمعه لتبرير المشاركة العربيّة هو أنّ الكنيست منبرٌ فعّالٌ لتحدّي الظلم الإسرائيليّ. لا ننكر أنّنا في لبنان، وفي أقطارٍ عربيّةٍ أخرى، نَسْعد حين نجد نوّابًا فلسطينيّين في الكنيست يمزّقون قانونَ القوميّة في 18 تمّوز 2018، أو يصرخون داخل الكنيست ضدّ مجازر غزّة وضدّ الغزو الإسرائيليّ للبنان. لكنْ، ماذا بعد ذلك؟ هل هذه فعلًا مقاومة للمشروع الصهيونيّ، أمْ محضُ "تنفيسٍ" و"فشّةِ خلق"؟ وهل نهدف في نضالنا إلى التخلّص من الاحتلال، أمْ إلى تحسين ظروف حياتنا في ظلّ الاحتلال؟ فلنتذكّرْ في هذا الصدد قول القسّ دزموند توتو: "لا نريد أن نخفِّف من ضغط قيودِنا. نريد أن تُنزَع قيودُنا!"[5]
4) التبرير الرابع الذي كثيرًا ما نسمعه خارج فلسطين كلّما تفوّهنا بكلمةٍ ضدّ المشاركة الفلسطينيّة في الكنيست هو خصوصيّة شعبنا في فلسطين المحتلّة عام 48. ولعَمري إنّ أطروحةَ "الخصوصيّة" مُحقّةٌ أحيانًا، وغيرُ محقّةٍ في أحيانٍ أخرى. من واجبنا جميعًا أن نتفهّم التطبيعَ القسريّ الذي يَخضع لها شعبُنا في فلسطين المحتلّة عام 48، لكنّنا لسنا مضطرّين إلى أن نتفهّم التطبيعَ الطوعيَّ مع العدوّ، وضمنَه المشاركةُ في برلمانه.
هذا أوّلًا.
ثم إنّ أطروحةَ "الخصوصيّة" ينبغي ألّا تؤدّي إلى التعامل مع القضيّة الفلسطينيّة وكأنها قضيّةُ كانتوناتٍ منعزلةٍ بعضِها عن بعض وعن العمق العربيّ. الشعب الفلسطينيّ، كما أراه، هو شعبٌ واحد، وإنْ كان مشتّتًا داخل أرضِه وخارجَها. وهو جزءٌ من أمّةٍ واحدة -- وهذه الأمّة ليست في حالة صعودٍ اليوم بالتأكيد، لكنّه لا يمكن أن ينتصرَ إلّا بها، ولا يمكن أن تنتصرَ إلّا به، لأنّ نضالَه ونضالَها واحدٌ من أجل التحرّر من الاستعمار والاحتلال والتبعيّة. وكلُّ تعاملٍ كانتونيٍّ مع القضيّة الفلسطينية سيُفقدها ما تبقّى من حاضنتها الشعبيّة، الفلسطينيّة والعربيّة، ويضعُها فريسةً للحلول التصفويّة.
أنا ورفاقي في حملة المقاطعة في لبنان، ومع احترامنا لخصوصيّة نضال شعبنا في فلسطين 48، نرى أنّ المشاركة الفلسطينيّة في الكنيست تساهم في أمورٍ خطيرةٍ عديدة، أهمُّها:
1) أنّها تقدِّم غطاءً "شرعيًّا" لمنظومة استعماريّة-استيطانيّة، بل "تبيِّض" صفحة هذه المنظومة بسبب وجود النوّاب الفلسطينيّين في الكنيست، وإنْ بغير موافقتهم. فمثلًا سُنّ قانونُ "يهوديّة الدولة" في الكنيست صيف العام 2018 في حضور هؤلاء النوّاب، على الرَّغم من صُراخهم وتمزيقِهم صفحاتِه.
2) أنّها تقدّم إلى الكيان الإسرائيليّ فرصةً لترويج مزاعم "ديموقراطيّته" في العالم، خصوصًا حين يدأب على مقارنتها باستبداد الأنظمة العربيّة. الأخطر أنّ المشاركة الفلسطينيّة في الكنيست تفيد اللوبي الإسرائيليّ في الخارج كي يحاربَ بها "حركةَ مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها" (BDS).
هل نكتفي بمغادرة الكنيست؟
هذه المغادرة خطوةٌ ضروريّة في رأيي، خصوصًا إذا حلّ "النضالُ المنبريّ"[6] محلَّ نضال الشارع. غير أنّ هذه الخطوة لن تُجدي فتيلًا ما لم تُستَكملْ بالآتي:
1) تعزيز تشكيلات شعبنا التمثيليّة المستقلّة عن أيّ هيئةٍ من هيئات الاحتلال. فمقاطعة الانتخابات الإسرائيليّة لا تعني البقاءَ في البيوت طبعًا؛ على العكس: إنّها انخراطٌ نضاليٌّ، جادّ ومُجدٍ، في كلّ مجالات الحياة، لكنْ خارج دورة الاحتلال، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا بالطبع. فلا خيرَ يُرتجى من الكنيست، لا قبل "قانون القوميّة" الذي قوْنن ممارساتِ الاحتلال العنصريّةَ المتمادية، ولا بعده.[7] وكشخصٍ من خارج فلسطين ولكنْ في قلب قضيّتها، أرى ضرورةَ إيجاد (أو تعزيز) إطارٍ تنظيميّ فلسطينيّ عامّ لهذه التشكيلات داخل فلسطين المحتلّة عام 48، يكون تحت عنوان مثل "جبهة فلسطين العربيّة الحرّة الواحدة،" ويهدف إلى وحدة نضال الشعب الفلسطينيّ هناك، وجَدْلِ هذا النضال مع نضال فلسطين المحتلّة عام 67، على أساس الثوابت الفلسطينيّة والقوميّة، ومن ضمنها الميثاقُ الوطنيّ الفلسطينيّ، وإلى جَدْل هذا النضال أيضًا في مسار التحرّر العربيّ الأشمل.
اللافت هنا أنّ مثلَ هذا الطرح، الذي كان يُعتبر مثاليًّا في السابق، أضحى مشروعًا اليوم، على الرّغم من تراجع أداء غالبيّة فصائل العمل الوطنيّ. وهذا يعود إلى سببيْن: أ) الأوّل هو زوالُ وهْم "حلّ الدولتيْن" لدى كثيرين، ولا سيّما بعد تزايد الاعتداءات وحملاتِ الاستيطان الإسرائيليّة في فلسطين المحتلّة عام 67. ب) والثاني هو اندثارُ "حلم" المواطَنة والمساواة داخل فلسطين 48 لدى كثيرين أيضًا، خصوصًا بعد تزايد أعمال القمع والقتل ضدّ فلسطينيّي 48 وبعد سنّ "قانون القوميّة." العدوّ نفسُه لا يتسامح مع خطاب "دولة المواطنين،" وقد ضيّق هامشَ تحرّك النوّاب العرب أنفسهم.
بكلامٍ آخر، العدوّ يدفعُنا دفعًا إلى الطلاق مع وهم التغيير من داخل الكنيست. فلماذا التشبّث بهذا الوهم إلى ما لا نهاية؟!
2) على الخروج العربيّ من الكنيست أن يُستكمل بالطلاق مع "اليسار" الإسرائيليّ، ومع تغلغله البشع في بعض التحرّكات الفلسطينيّة. فليس هناك في نظر كثيرين مثلي، في لبنان وغير لبنان، ما يفوق العلمَ الإسرائيليَّ بشاعةً إلّا علمٌ واحدٌ يَجْمع علميْ فلسطينَ وإسرائيلَ معًا. وهل تُمْكن المساواةُ والمساكنة بين المستعمِر والمستعمَر؟
خاتمة
سقفُ التحرير الوطنيّ، كما أراه كعربيّ يعمل ضمن إمكاناته المتواضعة من أجل تحرير فلسطين، لا يمكن أن يكون "المواطَنة والمساواةَ" مع المستعمِر في فلسطين المحتلّة عام 48.
وهذا السقف لا يمكن أن يكون سقفَ أوسلو، لانّ أوسلو تخلّى عن معظم فلسطين وعن جزءٍ من شعبها.
ثمّ إنّ شرعيّةَ العمل الوطنيّ الفلسطينيّ ضدّ الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ لا تأتي بالانتخابات في الكنيست، ولا بالانتخابات تحت حِراب الاحتلال والتنسيق الأمنيّ في فلسطين المحتلّة عام 67، بل بالنضال الشامل بمختلف أشكاله. وهذا العمل لا بدّ من أن يتكثّف ويتعزّز ويمتدّ مع تطوير أدوات التضامن الأمميّ، خصوصًا بفضل نموّ حركة المقاطعة العالميّة (BDS).
وأخيرًا، لا آخرًا، فإنّ من أولويّات الخطاب الوطنيّ الفلسطينيّ الإسهامَ في استعادة جماهيرنا العربيّة إلى القضيّة الفلسطينيّة. هذه ليست مهمّة التنظيمات العربيّة وحدها، ولا المناضلين العرب وحدهم، وإنّما هي كذلك مهمّةُ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والمناضلين الفلسطينيّين في كلّ مكان. ذلك لأنّ ميوعةَ خطاب السلطة الفلسطينيّة ومُلحقاتِها أسهمتْ في عزل القضيّة الفلسطينيّة عن عمقها العربيّ، حتى لم تعد هذه القضيّةُ - للأسف الشديد - قضيّةً شعبيّةً مركزيّةً عربيّة.
بيروت
*مداخلة رئيس تحرير مجلّة الآداب والعضو المؤسِّس في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان في ندوةٍ رقميّةٍ نظّمتْها المجلّةُ والحملةُ وحَراكُ حيفا، برعاية شبكة قدس الإخباريّة، في 21/3/2021. شارك في الندوة أيضًا كلٌّ من: أسرار كيّال، وساري عرابي، وسليم سلامة. وأدارتْها: لينا أبو الحلاوة.