القانون الإسرائيلي "الجديد" والغشاوة القديمة
30-07-2018

 

 

انشغل قسمٌ من الرأي العامّ مؤخّرًا بالقانون "الجديد" الذي أقرّه مجلسُ نوّاب العدوّ (الكنيست). في السطور الآتية عرضٌ للقانون، مع التركيز على أبعادِه العنصريّة. يلي ذلك بحثٌ في "الصدمة" التي ضربتْ بعضَ العرب و"الصهاينةِ الناعمين."

***

تفوح رائحةُ العنصريّة من القانون بدءًا من اسمه: "إسرائيل دولةً للشعب اليهوديّ."[1] فالاسم يَجزم، منذ البداية وقبل كلِّ قول، بأنّ إسرائيل دولةٌ ليهودها فقط، بل لـ"الشعب اليهوديّ"عامّةً. وسرعان ما تتعزَّز هذه الرائحةُ العنصريّة بـ"مبادئ أساسيّة" واردة في الفقرة الأولى: "أ) أرضُ إسرائيل هي الوطنُ التاريخيّ للشعب اليهوديّ، حيث تأسّستْ دولةُ إسرائيل. ب) دولة إسرائيل هي الوطنُ القوميُّ للشعب اليهوديّ، حيث يحقِّق في هذه الدولة حقَّه الطبيعيَّ والثقافيّ والدينيّ والتاريخيّ في تقرير المصير. ج) حقّ تقرير المصير في دولة إسرائيل محصورٌ في الشعب اليهوديّ."[2]

واضحٌ من هذه الفقرة أنّ "أرض إسرائيل" ليست وطنًا لمن يَسكن فيها، ولا لمواطنيها، أيًّا كان دينُهم أو عِرقُهم أو قوميّتُهم، وإنّما هي أرضٌ محصورةٌ بأتْباعِ دينٍ محدّدٍ أينما وُجدوا في هذا العالم.

ثمّ تأتي الفقرة الثانية، "رموزُ الدولة،" لتؤكّدَ الطابعَ الطائفيّ العنصريّ اليهوديّ الحصريّ: "أ) اسمُ الدولة إسرائيل. ب) علمُ الدولة أبيض، بشريطيْن أزرقيْن قرب الحافتيْن، وبنجمةِ داود زرقاء في الوسط. ج) شعارُ الدولة شمعدانٌ سباعيُّ الفروع، مع أوراقِ زيتونٍ على الجانبيْن، وبكلمةِ إسرائيل تحتها. د) نشيدُ الدولة هاتيكفاه..."

من هذه الفقرة يتّضح، دونما أدنى مواربة، أنّ اسمَ الدولة لا يمكن أن يكون "إسرائيل/فلسطين" مثلًا، بما قد يعنيه ذلك من إقرارِ الدولة بحقوق بعض "مواطنيها" فيها، كالفلسطينيين العرب؛ وأنّ علمَها لا يمكن إلّا أن يكونَ العلمَ الإسرائيليَّ الحاليّ، ذا الرمز الدينيِّ الواضح؛[3] وأنّ شعارَها لا يمكن إلّا أن يكون المِينورة، وهي رمزٌ يهوديٌّ بحت، ولا يجاورُه أيُّ رمزٍ لأيّة ديانةٍ أو عقيدةٍ أخرى؛ وأنّ نشيدَها دينيٌّ يهوديٌّ صرف، يستند إلى حلمٍ صهيونيٍّ عريقٍ في "العودة" إلى "أرض صهيون" والقدس، على ما يشير إلى ذلك بكلّ صراحةٍ نصُّ النشيد نفسه:

 "ما دامت النفسُ اليهوديّةُ، في القلب عميقًا، تتوق،

والعينانِ تتوجّهان،

 نحو الشرقِ، وتنظرانِ إلى صهيون،

فإنّ أملَنا ـ أملَ الألفيْ عام ـ لن يضيعَ، في أن نكونَ شعبًا  حرًّا في أرضنا،

أرضِ صهيون والقدس."[4]

أمّا الفقرة الثالثة فتخصّ عاصمةَ دولة إسرائيل: "القدس، الكاملة، الموحَّدة، هي عاصمةُ إسرائيل." وهذا يعني، بوضوحٍ تامّ، عدمَ الاعتراف بحقوق الفلسطينيين العرب، أيًّا كانت طائفتُهم، في القدس الشرقيّة، والتصميمَ على ضمّ هذه الأخيرة إلى دولة إسرائيل ــ ــ اليهوديّةِ قلبًا وقالبًا.

من الطبيعيّ، بعد الفقرات الثلاث الخاصّة بتعريف الدولة ورموزِها وعاصمتِها، أن يتناول المشرِّعون الإسرائيليّون لغةَ هذه الدولة. تقول الفقرة الرابعة حرفيًّا: "لغةُ الدولة هي العبريّة." انسوْا أيّها الحالمون، إذنْ، حلمَكم القديمَ بدولةٍ تتعايش فيها اللغاتُ على قدم المساواة. وانسوْا التلاقحَ الثقافيّ والتمازجَ الحضاريّ في دولة "المواطنة والمساواة." على أنّ مَن صاغ هذا القانون، وهذه المادّةَ تحديدًا، سرعان ما يحاول تطييبَ خاطر العرب الغاضبين المحتملين، وذلك بكلماتٍ أقلُّ ما يقال إنّها رشوةٌ لفظيّةٌ تعبق بروائح الفوقيّة والتمنين والتفضّلٍ بالإحسان: "اللغة العربيّة ذاتُ مكانةٍ خاصّةٍ في الدولة..." من دون تحديد هذه المكانة "الخاصّة" في قانونٍ قرّر ــــ قبل تقديم هذه الرشوة ــــ شطبَ اللغة العربيّة من أساسها.

مع الفقرة الخامسة سيتصاعد المضمونُ العنصريُّ الدينيّ الحصريّ للدولة. تقول هذه الفقرة، وهي بعنوان "تجميع المنفيّين،" والمقصودُ بهم يهودُ العالم خارج فلسطين: "ستكون الدولةُ مفتوحةً للهجرة اليهوديّة إليها، ولتجميع المنفيّين [اليهود] فيها." وهذا يعني، بشكلٍ فاقع، ترسيخَ "قانون العودة" العنصريّ (الذي أقرّه الكنيست سنة 1950)، الذي يَسمح لأيّ "يهوديّ،" في أيّ بقعةٍ من المعمورة، بـ"العودة" إلى فلسطين (ويَمنع تاليًا أيَّ فلسطينيّ من العودة إلى بيته وأرضه). الجدير ذكرُه أنّ اليهوديّ، ما إنْ يطأ أرضَ فلسطين المحتلّة، حتى يتأهّلَ للعيش هناك طوال عمره، ولنيلِ الجنسيّة إنْ شاء. وقد عُدّل القانونُ سنة 1970 فصار بإمكان ابنِ اليهوديّ أو حفيدِه أو زوجِه/زوجته أو زوجِ/زوجة ابنه أو حفيدِه اليهوديّ... أن ينال الجنسيّةَ الإسرائيليّة!

ثم تأتي الفقرة السادسة، وهي بعنوان "العلاقة بالشعب اليهوديّ،" لتتوِّجَ حصريّةَ اهتمام دولة إسرائيل باليهود دون غيرهم من البشر. تقول الفقرة: "أ) ستسعى الدولةُ إلى ضمان أمن أفراد الشعب اليهوديّ الواقعين في مشكلةٍ، أو أسْرِ، بسبب يهوديّتهم أو مواطنيّتهم [الإسرائيليّة]. ب) ستعمل الدولةُ ضمن الشتات على تقوية العلاقة بين الدولة وأفرادِ الشعب اليهوديّ. ج) ستعمل الدولة على الحفاظ على التراث الثقافيّ والتاريخيّ والدينيّ للشعب اليهوديّ بين اليهود في الشتات."

هذه الفقرة تؤكّد، بلا أدنى لبْس، أنّ دولةَ إسرائيل لا تلتزم بحماية فلسطينيّي 48، مثلًا، لو وقعوا في "مشكلةٍ" أو "أسْرٍ،" ولن تهتمّ بهم، ولا بتراثهم في الخارج، مع أنّهم حاصلون على الجنسيّة الإسرائيليّة!

أما الفقرة السابعة فتخصّ الاستيطانَ اليهوديّ. صحيح أنّها لا تحدِّد مواقعَ هذا الاستيطان بالاسم (الضفّة الغربيّة،...)، لكنّ الإبهامَ مقصود لكي يُفهم منه أنّ الاستيطانَ اليهوديّ مرغوبٌ ومستحَبّ، بل واجبٌ أيضًا، في أيّ بقعةٍ من فلسطين: "تَعتبر الدولةُ تطويرَ الاستيطان اليهوديّ قيمةً وطنيّةً [قوميّةً]، وستعمل على تشجيعِه وترويجِه وتعزيزِه." بكلامٍ آخر: الاستيطان سياسةٌ إسرائيليّةٌ علنيّة، مدعومةٌ رسميًّا بكلّ قوة، ولا اعتبارَ مطلقًا لوجود أيّ قوميّةٍ أخرى أو أيّ دينٍ آخر... ناهيكم باحترام سيادة أيّ "دولةٍ فلسطينيّةٍ" أخرى.

الفقرات المتبقّية من هذا القانون إمعانٌ وتمادٍ صارخان في استبعاد الهويّة الفلسطينيّة، والهويّة العربيّة، والهويّة الإسلاميّة. فـالفقرة الثامنة تنصّ على أنّ التقويم الرسميّ لدولة إسرائيل هو التقويمُ العبريّ، جنبًا إلى جنب مع التقويم الغريغوريّ (وهل ظنّ أحدُكم أنّ إسرائيل ستراعي التقويمَ الهجريّ مثلًا؟). أمّا الفقرة التاسعة فتحدِّد يومَ الاستقلال وأيّامَ الذكرى التي تحتفل الدولةُ بها: "أ) يومُ الاستقلال هو اليومُ الوطنيّ الرسميّ للدولة. ب) يومُ شهداء حروب إسرائيل، والهولوكوست، ويومُ ذكرى البطولة، هي الأعيادُ الرسميّة للدولة." نلفت انتباهَ القارئ إلى أنّ "يومَ الاستقلال" الإسرائيليّ هو يومُ النكبة الفلسطينيّة، في منتصف أيّار (مايو) 1948، ذكرى تهجيرِ أكثر من 750 ألف فلسطينيّ، وهدمِ أكثر من 500 قرية وبلدة فلسطينيّة. أمّا الأعياد الرسميّة للدولة فتنحصر في إحياء ذكرى ضحايا اليهود في أوروبا النازيّة، وتمجيد "شهداء" إسرائيل و"أبطالها" في حروبها ضدّ الفلسطينيين والعرب عامّةً. ثمّ لا يتوانى القانونُ في الفقرة العاشرة في تحديد السبت "يومَ راحة" لدولة إسرائيل (هل توهّم أحدُكم أنّ يوم الراحة قد يكون الجمعة مثلًا؟).

 

"قانون العودة" العنصريّ يَسمح لأيّ "يهوديّ،" في أيّ بقعةٍ من المعمورة، بـ"العودة" إلى فلسطين

 

رُبّ قائلٍ بعد قراءة هذا القانون: وما الجديدُ فيه؟ ولماذا صرفنا الجهدَ والوقتَ في ترجمته والتدليلِ على عنصريّته؟

لا جديدَ في هذا القانون فعلًا... سوى في مأسسة العنصريّة الطائفيّة الحصريّة في كيان العدوّ. غير أنّ هذه المأسسة تستتبع نتيجةً بالغةَ الأهمّيّة، ألا وهي: ضربُ "الرهان" على إمكانيّة قيام دولةِ "مواطنةٍ ومساواة" في إسرائيل.

لقد غضب النوّابُ العرب في الكنيست بعد إقرار القانون، ومزّق بعضُهم مسوَّدةَ القانون، ورفع رئيسُ "القائمة العربّية المشتركة" أيمن عودة رايةً سوداءَ خلال جلسة الكنيست، وقال النائب أحمد الطيبي إنّ إقرار القانون "موتٌ للديمقراطيّة."[5]

ولكنْ متى كانت الديمقراطيّة حيّةً في إسرائيل كي تموت؟ وهل القانون "الجديد" انعكاسٌ لمشاعر النخبة اليمينيّة الفاشيّة الحاكمة في دولة الاحتلال الصهيونيّ، أمِ انعكاسٌ لاتّجاهات المجتمع الإسرائيليّ أيضًا ــ ــ بغالبّيته على الأقلّ، كي لا نظلمَ حفنةً ضئيلةً جدًّا من مثقّفيه المعادين للصهيونيّة (على الرغم من تنعّمهم بمنافع الدولة الصهيونيّة)؟

فلنراجعْ معًا، يا سادة، خلاصاتِ حلقاتٍ قليلة، من سلسلةٍ طويلة، من التقارير الغربيّة والإسرائيليّة عن العنصريّة ضدّ الفلسطينيين العرب داخل المجتمع الإسرائيليّ، وخصوصًا على الصعد الآتية: السكن، والتعليم، والنظرة إلى العرب والفلسطينيّين.

ــــ في العام 2007 صدر تقريرٌ عن "جمعية الحقوق المدنيّة في إسرائيل" يؤكّد أنّ ثلثي الإسرائيليين المراهقين يَعتبرون أنّ العربَ "أقلُّ ذكاءً، وبلا ثقافة، وعنيفون،" وأنّ ما يزيد عن ثلثهم "يخافون العربَ جميعًا،" وأنّ 50 % من الإسرائيليين الذين استُفتوا قالوا إنّهم "لا يقبلون بأن يعيشوا في مبنًى واحدٍ مع عرب، ولن يصادقوا عربًا، ولن يَسمحوا لأولادهم بمصادقةِ عرب، ولن يسمحوا لعربٍ بدخول منازلهم،" وأنّ 50 % من المستفتين قالوا أيضًا إنّ على إسرائيل "أن تشجِّع مواطنيها العرب على الهجرة."[6]

ــــ تقرير في العام نفسه لـ"المركز المعادي للعنصريّة" خرج بنتائجَ أشدَّ بؤسًا: 75 % من اليهود الإسرائيليين الذين جرى استفاتُهم "لا يوافقون على أن يسكنَ عربٌ ويهود في مبنًى واحد،" و60 % "لن يَسمحوا لعربيٍّ بدخول منزلهم،" و55 % يرون ضرورةَ "فصل العرب عن اليهود في مواقع التسلية والترفيه،" وأكثر من نصف اليهود "لا يواقفون على أن يكون ربُّ عملهم عربيًّا." كما أنّ النسبة الأخيرةَ نفسها ترى أنّ زواجَ امرأةٍ يهوديّةٍ برجلٍ عربيّ أمرٌ يرقى إلى مصاف "الخيانة الوطنيّة."[7]

ــــ تقرير في آذار 2010، صدر من جامعة تل أبيب، وجد أنّ 49،5 % من الطلّاب اليهود الثانويين يروْن أنّ على "العرب الإسرائيليين [المقصود فلسطينيّو 48] ألّا يحصلوا على الحقوق نفسها التي تعطى اليهودَ في إسرائيل،" و 56 % يعتقدون أنّ "العرب ينبغي ألا يُمنحوا الحقَّ في أن يكونوا في الكنيست."[8]

ــــ تقرير هيومن رايتس واتش سنة 2001 كشف أنّ الطلّاب الفلسطينيين العرب يتلقّوْن تعليمًا أدنى من اليهود، وأنّ "مدارسَهم مزدحمة، وموظَّفيها قلائل، وبناءها بائس، وصيانتَها مزرية..." وأنّها كثيرًا ما تفتقر إلى "المكتبات والحواسيب والمختبرات العلميّة...،" وأنّها جميعًا خاليةٌ من المسارح واستوديوهات الأفلام. وهذا كلُّه ينعكس على نتائج الطلّاب "البائسة نسبيًّا."[9]

وهناك عشراتُ التقارير الإسرائيليّة والعربيّة والأميركيّة والأوروبيّة الأخرى التي تفضح التمييزَ العنصريَّ الواسع في كلّ مجالٍ يمكن تخيّلُه من مجالات حياة العرب في دولة الكيان الصهيونيّ. تضاف إلى تلك التقارير تقاريرُ أخرى عن الصورة الدونيّة التي تُغرس في الطالب الإسرائيليّ عن العرب (إحدى الباحثات الإسرائيليّات ترى أنّ العرب في الكتب المدرسيّة الإسرائيليّة "منحرفون، مجرمون، لا يدفعون الضرائبَ، يعيشون على حساب الدولة، لا يريدون التطوّر..." وأنّ صورَهم في تلك الكتب محصورةٌ بـ"اللاجئين، والمزارعين البدائيين، والارهابيين").[10] ناهيكم بعشرات المقالات عن حوادث الاعتداء والقتل المتصاعدة، التي طاولتْ وتطاول فلسطينيّي 48 في القدس وصفد والخليل وتل أبيب وغيرها، وكان مرتكبوها يتلقّوْن عقوباتٍ هزيلةً ــ ــ ما شجّعهم هم وغيرَهم على تكرارها.

كلّ هذه الحقائق والوقائع معروفةٌ لكثيرين، ولكنْ يبدو أنّهم نسُوها أو تناسَوْها. كلُّها كانت معروفةً منذ عشرات السنين، إلى حدّ أنّ الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة ساوت، سنة 1975، بين الصهيونيّة والعنصريّة والتمييزِ العنصريّ عبر القرار 3379، قبل أن يتصاعدَ الضغطُ الأميركيّ (برئاسة جورج بوش الأب) وضغطُ حلفاء العدوّ الإسرائيليّ، فيُلغى القرار سنة 1991. ثم عادت منظّمةُ الإسكوا في تقريرٍ شهيرٍ صدر في آذار (مارس) 2017 (وهو من إعداد ريتشارد فالك وفيرجينيا تيللي)،[11] فوصفت السياسات الإسرائيليّة  بـ"الهندسة الديمغرافيّة" الهادفة إلى الحفاظ على إسرائيل "دولةً يهوديّة،" قبل أن يمارس العدوُّ وحلفاؤه الضغط من جديد، فيُسحب التقريرُ، وتستقيل الأمينةُ العامّة التنفيذيّة للأسكوا ريما خلف من مهمّاتها.[12]

 

في العام 2007 صدر تقريرٌ يؤكّد أنّ ثلثي الإسرائيليين المراهقين يَعتبرون أنّ العربَ "أقلُّ ذكاءً، وبلا ثقافة

 

لماذا ننسى أو نتناسى؟

بل لماذا نجد اليوم وسائلَ أعلامٍ عربيّةً تُبرز تصريحاتِ صهاينة "ناعمين،" مثل دانييل بيرينبويم، الذي بات "يخجل من كونه إسرائيليًّا" بعد صدور هذا القانون؟[13] لماذا تجهل أو تتجاهل أنّه افتخر، وما زال يفتخر، بـ"الآباء المؤسِّسين" لدولة إسرائيل؟

هل كانت إسرائيل يومًا غيرَ ما هي عليه بعد صدور القانون "الجديد"؟

لنعدْ إلى الآباء المؤسِّسين يا سيّد بيرينبويم، ويا أيّها الإعلام العربيّ المتباهي أو الجاهل أو المتجاهل. ثيودور هرتزل (ت 1904) هو صاحبُ كتاب دولة اليهود (هل يكفي العنوان؟)، ورئيسُ المؤتمر الصهيونيّ العالميّ (هل تكفي الصفة؟). ديفيد بن غوريون (ت 1973)، مؤسِّسُ دولة إسرائيل ورئيسُ وزرائها الأوّل حتى العام 1963 وقارئُ "إعلان الاستقلال" في 14 أيّار (مايو) 1948، لم يؤسّس أوّلَ مزرعةٍ جماعيّةٍ في فلسطين (على ما يركّز بعضُ "الاشتراكيين" اليهود وغير اليهود السُّذّج) فحسب، بل كان أيضًا من مؤسّسي فرقة مسلّحة للدفاع عن النفس، وجَمَعَ العصاباتِ الصهيونيّة المسلّحة في ما سيصبح لاحقًا "جيشَ الدفاع الإسرائيليّ،" وأشرف على "حروب الاستقلال." أمّا غولدا مائير (ت 1978) التي عملتْ في كيبوتس إسرائيليّ "اشتراكيّ،" فكانت من بين الموقِّعين على "إعلان الاستقلال،" أيْ على نكبة الشعب الفلسطينيّ، وجمعت المالَ من الولايات المتحدة من أجل "حروب الاستقلال" ضدّنا. وأمّا حاييم وايزمان (ت 1954)، أوّلُ رئيسٍ للكيان (سنة 1949)، فاهتمّ بـ"عودة" اليهود من الشتات، وبالنموّ الاقتصاديّ للدولة ــ ــ وكأنّ هذيْن الأمريْن ليسا جزءًا حاسمًا ولا يتجزّأ من ديمومة احتلال فلسطين.

المتباهون بالآباء المؤسِّسين يجمِّلون الخطيئةَ الأصليّة: خطيئةَ تأسيس الكيان الصهيونيّ. في مقالٍ عن فاغنر، يزعم بيرينبويم، "الخجلانُ" اليوم من كونه إسرائيليًّا، أنّ هرتزل لم يتجاهلْ وجودَ شعبٍ آخر في فلسطين حين طرح قيامَ "دولةٍ لليهود،" وإنّما "تصوّر حقوقًا سياسيّةً متساويةً للسكّان العرب وغيرِ اليهود." كثّر اللهُ خيرَكَ يا سيّد بيرينبويم؛ أنتَ إذنْ لست معاديًا لاستعمار فلسطين، بل معادٍ فقط "لانحراف" هذا الاستعمار عن هدفه الإنسانيّ المساواتيّ النبيل المزعوم! أنتَ أصلًا لا ترى في الاستعمار الصهيونيّ إلّا "ضرورةً مطلقةً لليهود إذ لم يكن ثمة أيُّ خيار آخرَ [أمامهم]."[14] وفي المقال نفسه يشِيد بيرينبويم بكلمات مارتن بوبر في المؤتمر الصهيونيّ الثاني عشر (1921): "إنّ رغبتنا القوميّة في تجديد حياة شعب إسرائيل في وطنهم القديم ليس موجَّهًا ضد أيّ شعبٍ آخر... إنّنا لا نتطلّع إلى العودة إلى أرض إسرائيل... من أجل قمع شعبٍ آخر أو السيطرة عليه." كثّر اللهُ خيرَكَ من جديد يا بيرينبويم؛ فأنتَ تريد استعمارًا لا يؤْذي السكّانَ الأصليين!

الاستعمار والإنسانيّة دونت ميكس (don’t mix)، أيّها الإنسانويّون الصهاينةُ الناعمون. وهذا الكلام يمكن توجيهُه أيضًا إلى كلّ المراهنين على "تليين" الدولة الإسرائيليّة، أو فتحِ ثُغَرٍ إنسانيّةٍ مساواتيّةٍ في جدارها العنصريّ الصلب منذ تأسيسها قبل 70 عامًا.  لم تُبنَ إسرائيل كي تساعدَ السكّانَ الأصليين على العيش والنموّ، بل كي تستخدمَهم في حلمها الإنسانيّ "الجميل." فإنْ وافقوا فأهلًا وسهلًا بهم، وإلّا فمصيرُهم أن يكونوا مواطنين من الدرجة العاشرة، أو أن يخضعوا للتهجير، أو الإفناء. طبعًا، بإمكانهم أن "يشاركوا" الإسرائيليين المتحضّرين مجلسَهم النيابيّ، ولكنْ عليهم أن يصمتوا حين يقرِّر الإسرائيليُّ ما هو في صالح دولته العليّة. وأمّا "جيرانُ" هذه الدولة، فصحيحٌ أنّ الآباء المؤسِّسين وَعَدوا "بتتبع السلام والعلاقات الجيّدة معها،" كما يقول بيرينبويم، ولكنْ على أساسٍ واحدٍ فقط: هو انصياعُهم إلى استعمارها من البداية إلى النهاية.

***

يبقى أن نوجّه سؤالًا أخيرًا إلى أنفسنا، نحن الفلسطينيين والعرب: ماذا ننتظر أكثرَ من ذلك؟ وعلامَ نراهن في استمرار وجودنا في الكنيست؟ وماذا نتوقّع من الاستمرار في "عمليّة السلام"؟ وأين سيقودُنا التطبيعُ المتصاعد، المترافق مع اشتداد الهجمة لإلغاء قضيّة فلسطين برمّتها على يد حلف أميركيّ ــــ صهيونيّ ــــ رجعيّ عربيّ؟

إنّ القانون الإسرائيليّ "الجديد" ليس جديدًا على الإطلاق. لكنْ عسى أن يكون فرصةً جديدةً كي نَخرجَ من أوهامنا المتزايدة، فنبنيَ استراتيجيّة نضاليّةً متينةً قوامُها المقاومةُ والمقاطعةُ الشاملتان من أجل تحرير فلسطين وسائرِ الأراضي العربيّة المحتلّة.  

 

 

بيروت

[1] https://www.timesofisrael.com/final-text-of-jewish-nation-state-bill-set-to-become-law/

[2] ترجمة القانون من الإنكليزيّة إلى العربيّة هي لكاتب هذا المقال

[3] الجدير ذكرُه أنّ نجمة داود، تاريخيًّا، لم تكن محصورةً باليهوديّة وحدها، خلافًا لما هو شائعٌ اليوم.

[4] ترجمتي عن الإنكليزيّة.

[5] https://bit.ly/2N9HYZg

[6] https://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-3480345,00.html

[7] https://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-3381978,00.html

[8] https://www.haaretz.com/1.5040299

[9] https://www.hrw.org/reports/2001/israel2/ISRAEL0901-01.htm

[10] https://www.theguardian.com/world/2011/aug/07/israeli-school-racism-claim

[11] https://www.middleeastmonitor.com/wp-content/uploads/downloads/201703_UN_ESCWA-israeli-practices-palestinian-people-apartheid-occupation-english.pdf

[12] https://www.annahar.com/article/555726-%D8%B1%D9%8A%D9%85%D8%A7-%D8%AE%D9%84%D9%81-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D9%82%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%BA%D8%B7

[13] https://www.theguardian.com/commentisfree/2018/jul/23/israel-racist-new-law-ashamed-apartheid-daniel-barenboim

[14] مقابلة على قناة NPR في 27/12/2002، وراجع مقالي: https://bit.ly/2OoPwsm

 

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.