أين نحن الآن من مسار التطبيع؟
خلال الشهورِ الماضية، أَبرم الكيانُ الصهيونيّ اتفاقاتٍ لتطبيع العلاقات مع الإمارات والبحرين والسودان.
وكان نتنياهو قد قال في مؤتمٍر صحافيّ إنّ "اتفاقيّات التطبيع الثلاث مع الدول العربيّة أنهت العزلةَ الجغرافيّةَ لإسرائيل بتوفير رحلاتٍ جوّيّةٍ أقصرَ وأرخصَ ثمنًا." وأضاف، مشيرًا إلى رسومٍ بيانيّةٍ لممرّات الطيران: "نحن نغيّر خريطةَ الشرق الأوسط!"[1]
وعلى مقلبٍ آخر، كان المكتبُ الإعلاميّ لحكومة دُبي قد صرّح بأنّ حجمَ التبادل التجاريّ بين دُبي والكيان الصهيونيّ بلغ 272.3 مليون دولار بين سبتمبر 2020 ويناير2021.[2] جاء ذلك بعد إبرام "اتفاق أبراهام" في الصيف الماضي، وهو اتفاقٌ تبدو فيه الإماراتُ أقلَّ المستفيدين، إلّا إذا اعتبرنا أنّ رهانَها على نيل مقاتلاتِ أف-35 من الولايات المتحدة بقيمة عشرة مليارات دولار مكسبٌ هائلٌ (تستخدمه في مواجهة إيران... وأطفالِ اليمن).[3]
أمّا توقيع السودان اتفاقَ التطبيع مع الكيان فجاء في أعقاب إعلان ترامب شطبَ السودان من قائمة "الإرهاب." وسرعان ما وقّع وزيرُ الخزانة الأميركيّ اتفاقيّةً تتيح للسودان الحصولَ على تسهيلاتٍ تمويليّةٍ تزيد عن مليار دولار سنويًّا من البنك الدوليّ لمساعدته على سداد ديونه المستحقّة إلى هذا البنك.[4]
في هذه الأثناء أيضًا، حصل اتفاقٌ جديدٌ على إعادة فتح مكاتبِ اتّصال في تل أبيب والرباط بعد أن أُغلقتْ عقب انتفاضة الأقصى سنة 2000. و"بشّر" مكتبُ نتنياهو بقرب توقيع اتفاقات تعاونٍ بين البلديْن في العديد من المجالات، ومن بينها "الاستثمارات والفِلاحة والمياهُ والبيئةُ والسياحةُ والعلومُ والابتكارُ والطاقة." وفي المقابل، افتتحت الولاياتُ المتحدة ممثِّليّةً في الصحراء الغربيّة، وذلك في إطار إعلانٍ يَرْبط تطبيعَ العلاقات المغربيّة-الإسرائيليّة باعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربيّة. وتنصّ الاتفاقيّة على تقديم بنك التنمية الأمريكيّ ثلاثةَ مليارات دولار من أجل "الدعم الماليّ والفنّيّ للمشاريع الاستثماريّة الخاصة" في المغرب وأفريقيا وجنوب الصحراء؛ ويضاف إلى ذلك مليارُ دولار لدعم "ريادة الأعمال النسائيّة" في المنطقة.[5]
نحن، إذًا، أمام هجمةٍ تطبيعيّةٍ تستهدف جهاتٍ عدّة، خليجيّةً ومغربيّةً وسودانيّة، بعد مصر والأردن والسلطة الفلسطينيّة (لبنان - بقواه المعارضة آنذاك، وبدعمٍ رسميٍّ سوريّ، وفلسطينيٍّ مُعارض - أسقط التطبيعَ الذي كان مُعَدًّا له بموجب اتفاق 17 أيّار/مايو 1983). وهذه الهجمة ظاهرُها عشقُ السلام، وباطنُها حاجةُ الأنظمة العربيّة المطبِّعة إلى المال أو السلاح أو السيادة والشرعيّة "الدوليّة" على جزءٍ من الأرض.
فهل وقعت الواقعة ولم يعد ثمّة مجالٌ لوقف هذه الهجمة؟
اقتراحاتٌ للمواجهة
لا ريبَ في انّنا نخوض معركةَ وعيٍ لا تقلّ حدّةً وضراوةً عن المعركة العسكريّة والاقتصاديّة. وواجبُنا، كمناهضين للصهيونيّة، أن نتصدّى لمهامَّ كبيرة في ميدان الوعي، بعضُها عاجلٌ، وبعضُها الآخرُ جزءٌ من عملٍ تراكميٍّ طويل لا بدَّ من أن يُؤتي ثمارَه بعد حينٍ إذا أحسنّا التعاونَ والتنظيم.
1) في البدء، من واجبنا التنبيهُ إلى أنّ الوعودَ الأميركيّة، التي كانت دافعًا رئيسًا لعقد الاتفاقات الأخيرة، لا يعوَّلُ عليها البتّة.
- مثلًا، لنا أن نتساءل: ماذا حلّ بطائرات الـ أف 35 التي كان يُفترض أن يشتريها الإماراتيّون من الولايات المتحدة؟ بايْدن علّق الصفقة! بل هناك أنباءٌ تفيد بأنّ الإماراتيّين، في محاولتهم استجداءَ هذه الطائرات، عَرَضوا على الأميركان أن يُشْرفَ الإسرائيليّون على قيادتها لفترةٍ محدّدة، قبل أن يدرِّبوا الإماراتيّين عليها![6] نَذْكر أنّ الإسرائيليّين رفضوا منذ البداية، وعلى الرغم من اتفاق أبراهام، أن يبيعَ الأميركيّون الإماراتيّين تلك الأسلحة، علمًا أنّ مواصفاتِها أقلُّ أصلًا من تلك الموجودة لدى "إسرائيل." (ملاحظة لا بدَّ منها: هناك قانون أميركيّ صدر سنة 2008 بعنوان Qualitative Military Edge يَضْمن ألّا تؤثِّرَ مبيعاتُ السلاح الأميركيّ إلى دول المنطقة سلبًا في "التفوّقَ النوعيّ لإسرائيل").[7]
- وكمثلٍ آخر، لنا أن نتساءل: هل اعترافُ إدارة ترامب بسيادة المغرب على الصحراء سيستمرّ مع إدارة بايدن؟ وهل هو، في المقام الأوّل، ملزِمٌ دوليًّا؟ صحيح أنّ قلقَ نظام المغرب قد تراجع نسبيًّا حين قدّمت السفارةُ الأميركيّةُ في الرباط شريطَ فيديو يؤكّد "مغربيّةَ الصحراء،" لكنْ مَن يَضْمن ألّا تتراجعَ إدارةُ بايدن عن اعترافها عمّا قريب من أجل إرضاء الجزائر في "حربها على الإرهاب"؟[8]
خلاصةُ الأمر في هذه النقطة هي أنّ الاتفاقيّات التطبيعيّة الجديدة، التي أُبرمتْ على عجلٍ إرضاءً لترامب قبيْل الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في نوفمبر 2020، قد تحتاج إلى المراجعة بعد تولّي بايدن الرئاسةَ، وقد لا تُقَرّ مطلقًا. فالأجدى بالمطبِّعين أن يخفّفوا من زحفطونيّتهم وتفاؤلِهم المفرط.
2) من واجبنا أن نُظْهر للمنبهرين باتفاقيّات السلام، من كامب ديفيد إلى أوسلو فوادي عربة، أنّها لم تؤدِّ الى الرَّخاء الموعود. مَن استفاد من هذه الاتفاقيّات، في الحقيقة، لم يكن الفقراء، بل بعض "القطط السمان" أمثال حسين سالم (المتَّهم بهندسة صفقات تصدير الغاز المصريّ إلى الكيان الصهيونيّ بسعرٍ أقلَّ من السعر العالميّ)[9] وعائلة حسني مبارك، وأمثال أصحاب "مدينة روابي" والمستثمرين الفلسطينيّين في المستوطنات وداخل الكيان الصهيونيّ والمتعاقدين الفلسطينيّين مع شركات الأمن والتكنولوجيا المتطوِّرة الإسرائيليّة.[10] فإذا لم تجنِ الغالبيّةُ العظمى من أهلنا في مصر وفلسطين والأردن شيئًا من عوائد "السلام،" فلماذا يجني أهلُنا المغاربةُ أو السودانيّون شيئًا؟!
خذوا مصرَ كمب ديفيد مثالًا. على المستوى الزراعيّ يقول خبيرٌ في هذا المجال إنّ كثيرًا من أمراض الزراعة المصريّة جاءت عبر الكيان الصهيونيّ (كسوسة النخيل والمُبيدات المسرطنة). وعلى مستوى الطاقة، خسرتْ مصرُ ملياراتِ الدولارات بسبب تصدير الغاز إلى هذا الكيان بثمنٍ بخس، قبل أن تبدأ باستيراده منه بفضل صفقةٍ قُدِّرتْ بنحو 19 مليار دولار لمدّة 15 عامًا؛ "بل اضطرّت مصرُ إلى دفع تعويضات بمئات ملايين الدولارات جرّاءَ توقّف تدفّق صادرات الغاز المصريّ إلى إسرائيل عقب ثورة يناير." وعلى مستوى السياحة، كان مردودُ سياحة الإسرائيليّين في مصر ضحلًا بسبب انحصارها في "سياحة السَّفاري (التخييم) واليوم الواحد،" وتركُّزِها في جنوب سيناء بشكلٍ خاصّ.[11]
هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانية، فإنّ اتفاقيّاتِ التطبيع لم تقلِّص الإنفاقَ العربيَّ على التسلّح لصالح تحسين وضع الفقراء، أو لرفع مستوى التعليم والصحّة، وإنّما زاد ذلك الإنفاقُ.[12] لذا، فإنّ إشاعةَ التفاؤل بجنّةٍ اقتصاديّةٍ-اجتماعيّة بعد "السلام" تضليلٌ ينبغي أن يُفضَحَ على الدوام.
3) في هذا الإطار أيضًا ينبغي علينا الردُّ على المطبِّعين الجدُد، ولا سيّما في منطقة الخليج، الذين لا ينفكّون يتغنّوْن بـ"فضائلَ" اكتشفوها من خلال زياراتٍ سريعةٍ (ومصوَّرةٍ بشكلٍ دعائيٍّ فجّ) إلى تل أبيب، في حين لم يجد المصريّون والأردنيّون والفلسطينيّون واللبنانيّون أيًّا من هذه الفضائل المزعومة منذ توقيع اتفاقيّات كمب ديفيد قبل عقود.
4) ينبغي علينا أيضًا أن نواجِهَ منطقَ السلطات العربيّة المطبِّعة التي تصرخ: "كفانا انشغالًا بقضيّة فلسطين! شيلوا فلسطين عن ظهورنا!" في مقال منذ أسابيع، بيّن جوزيف مسعد أنّ الأنظمةَ العربيّة، بما فيها النظامُ الوطنيُّ الناصريّ، لم تحارِبْ كرمى لعيون فلسطين. حروب 56 و67 و68 (الاستنزاف) كانت للدفاع عن مصر، وحربُ 73 كانت لاسترجاع سيناء، والأردن قاتل سنة 67 لأنّ "إسرائيل" احتلّت الضفّة . أمّا أنظمةُ التطبيع العلنيّ الجديدة، ونعني أنظمةَ السودان والمغرب والبحرين والإمارات، "فلا يزال من غير الواضح كيف ومتى وضعت المصالحَ الفلسطينيّةَ فوق مصالحها [!]"[13]
5) وفي إطار مهمّات فضح التضليل في معركة الوعي، أرى من الضروريّ الردَّ على الحملات المسعورة، الصادرة من بعض اللبنانيّين الموتورين بشكل خاصّ، والتي تتّهم الفلسطينيّين بأنّهم باعوا الاحتلالَ أرضَهم، وبأنّهم أوّلُ مَن طَبّع مع الإسرائيليّين عبر اتفاق أوسلو. البائعون، في الحقيقة، ينتمون في معظمهم إلى عائلاتٍ لبنانيّةٍ أو سوريّةٍ معروفة (كسرسق وسلام وتيان وتويني وخوري والقبّاني والمارديني واليوسف والشمعة).[14] أمّا مَن وقّع اتفاقَ أوسلو سنة 1993، فقيادةٌ لا تمثّل غالبيّة الشعب الفلسطينيّ أو فصائله أو شخصيّاته المعتبَرة.[15]
إنّ شيطنةَ الفلسطينيّين، وتحميلَهم وزرَ قياداتٍ بائسةٍ ومستسلمة، يساهمان في تقديم ذرائعَ إضافيّةٍ إلى عربٍ يتحرّقون إلى التطبيع. والردُّ على هؤلاء يساعد في دحض حجّةٍ أساسيّةٍ من حجج التطبيع العربيّ، عنوانُها "لن نكونَ ملكيّين (أو فلسطينيّين) أكثرَ من الملك (أو الفلسطينيّ)."
6) في أقطارنا العربيّة صراعٌ داخليٌّ، سياسيّ-اجتماعيّ، حادٌّ ومتصاعد، خصوصًا منذ العام 2011. وقد احتدم هذا الصراعُ وتوسَّعَ ليشملَ مَحاورَ إقليميّةً ذاتَ امتدادٍ عالميّ. حملة المقاطعة في لبنان ترفض أن يجري تقديمُ عدوٍّ استراتيجيّ آخر مكانَ "إسرائيل" في المنطقة. من حقّ أيٍّ كان أن يعادي أيَّ نظامٍ يشاء بالطبع، لكنْ ينبغي - في اعتقادنا - ألّا يكونَ ذلك على حساب العداء الجذريّ للكيان الصهيونيّ ولمشروعه الاستعماريّ الاستيطانيّ الإحلاليّ الإلغائيّ. وقد يبدو لزامًا على معادي الصهيونيّة، في هذا المجال، إعادةُ الاعتبار إلى التثقيف العميق والمرهَف ضدّ الصهيونيّة بناءً على هذا الأساس الجذريّ، بدلًا من الاكتفاء بنقد سياساتِ إسرائيل "اليوميّة" وحدها، أو شجبِ عمليّاتِ الاستيطان في الضفّة الغربيّة فقط؛ فهذه السياسات والعمليّات مجرّدُ جزءٍ من المشروع الأكبر: مرتبطةٌ ببقائه، وتزول بزواله.
7) في هذا الإطار، إطارِ العداء الجذريّ للصهيونيّة، نرى لزومَ عدم اتّخاذ أنصار مقاومة التطبيع من "قمّة بيروت" (2002) سقفًا لطموحاتهم. فهذه المبادرة، التي لا ينفكُّ يتغنّى بها كلُّ النظام الرسميّ العربيّ، من أقصاه إلى أقصاه، تتخلّى عن 78% من فلسطين، وتبشِّر بالدخول في اتفاقيّة سلامٍ تَحْفظ "الأمنَ لجميع دول المنطقة" وبإنشاء "علاقاتٍ طبيعيّةٍ مع إسرائيل" مقابلَ انسحابها من الأراضي المحتلّة عام 67. ومع ذلك، فقد رفضها هذا الكيانُ فور إعلانها. وهذا يوجِب سحبَها من التداول والنقاش في بلادنا، على المستويات كافّةً، الرسميّةِ والحزبيّةِ والشعبيّة.[16]
8) علينا الضغطُ على المجالس التشريعيّة من أجل تفعيل قانون المقاطعة الذي وضعتْه جامعةُ الدول العربيّة سنة 1950 والتزمتْ به كلُّ الدول العربيّة، إلى أن خرقه أنور السادات بزيارة فلسطين المحتلّة وتوقيعِ كمب ديفيد، ثمّ لحقتْه أنظمةٌ أخرى. هذا القانون يمنع أيَّ تواصلٍ مع الإسرائيليين مهما كانت طبيعتُه.[17] لكنّنا نرى وجوبَ تعديله لجهة استثناء فلسطينيّي 48 من حاملي الجنسية الإسرائيليّة قسْرًا؛ كما نرى لزومَ تحديد أشكال المقاطعة المقصودة، وتغليظِ العقوبات على المخالفين.[18]
9) على مناهضي التطبيع الاهتمامُ بقطاع التربية، المخترَقِ بليبراليّةٍ تهابُ "التسييسَ" (وكأنّ الابتعادَ عن السياسة ليس أقصى درجات التسييس!). طبعًا هناك فرقٌ بين الحشو الغوغائيّ من جهة، والتسييسِ المبنيِّ على المعلومة والصورة والفيديو من جهةٍ ثانية. مقاومةُ الصهيونيّة والتطبيعِ معها عمليّةٌ طويلةٌ ودقيقةٌ وشاملة، تبدأ منذ سنوات المراهقة. وهناك حاجةٌ كبيرةٌ إلى كتّابٍ وفنّانين وتربويّين متمرِّسين في تقديم الصراع العربيّ-الصهيونيّ إلى اليافعين بطريقةٍ سلسةٍ وجذّابة؛ فلا يكونون مجرّدَ أبواقٍ ببغائيّة لضخّ التعاليم "الثوريّة،" من دون أدنى مراعاةٍ لحساسيّة هؤلاء اليافعين، ولدرجاتِ تقبُّلِهم للأفكار المركّبة والأحداثِ المعقّدة.
هذا على المستوى العامّ. أما على المستوى الملموس، فقطاعُ التعليم في بعض المناهج يَشهد خروقًا تطبيعيّةً خطيرةً: كأن تتضمّن عددٌ من الكتب خارطةً لـ"إسرائيل" لا لفلسطين (وأحيانًا بضمّ "يهودا والسامرة" وغزّة إليها!)، أو دروسًا عن الهولوكوست النازيّة من دون التنبيهِ إلى استغلال الصهاينة لهذه الهولوكوست من أجل تسويغ النكبة الفلسطينيّة المتدحرجة.[19]
10) التطبيع مرتبطٌ ارتباطًا عميقًا ببعض الإعلام الفضائيّ العربيّ، تحت ستار معرفة "الآخر." فمِن وراء هذا الستار يُدْعى محلِّلون إسرائيليّون إلى إبداء "وجهة نظرهم" وكأنّهم أناسٌ موضوعيّون لا يستبيحون بيوتًا أو أراضيَ كانت للفلسطينيّين، ولم ينتفعوا - يمينًا و"يسارًا" ووسطًا - من الاحتلال البتّة!
ومن مظاهر التطبيع الإعلاميّ الذي تجدر محاربتُه على الدوام ذكرُ "إسرائيل" من دون إضافة واحدةٍ أو أكثر من الصِّفات التي ينبغي أن تلازمَها: كالمستعمِرة، أو القاتلة، أو اللاشرعيّة، أو العنصريّة.[20] فيَعْلق في ذهن المشاهدين، مع الوقت، أنّ هذا الكيانَ طبيعيّ، وأنّ بقاءه من قبيل تحصيل الحاصل.
11) الأحزاب. غالبيّة الأحزاب العربيّة لا تضع مقاطعةَ "إسرائيل" ومقاومةَ التطبيع معها على رأس أولويّاتها العمليّة (لا اللفظيّة). وأنا لا أقصد أحزابَ اليمين (كالكتائب اللبنانيّة والقوّات اللبنانيّة) التي لا يُرتجى منها أيُّ شيءٍ على هذا الصعيد، بل أعني على نحوٍ خاصٍّ أحزابَ اليسار والمقاومة. فهذه، بشكلٍ عامّ، وعلى الرغم من أدائها المذهل في قتال العدوّ، لم تنشرْ ثقافةَ مقاومة التطبيع في المجتمع، ولا أضعفت النزعاتِ النيوليبراليّةَ التي تروّج الانفتاحَ على "الآخر" طلبًا لـ"الحقيقة" و"الحضارة." لذا نقترح أن تقيمَ هذه الأحزابُ مؤتمراتٍ وورشَ عملٍ متخصّصةً بتعليم أسس الصراع ومراحلِه ومواجهتِه (نعم، الصراع علمٌ وتعليم، ولا تأتي معرفتُه عفوًا وبالفِطرة). ونقترح أيضًا أن تخصِّصَ الأحزابُ لجانًا تَرْصدُ حالاتِ التطبيع الفنّيّ والثقافيّ والأكاديميّ وغيرَها، وأن تضغطَ في الشارع وعلى "النُّخَب" السياسيّة من أجل تجريم التطبيع.
12) علينا، كمناهضي تطبيع، السعيُ إلى تخليق نموذجٍ جديدٍ وجذّابٍ وتقدّميّ، سأحاولُ أن أرسمَ بعضَ ملامحه في ما تبقّى لي من وقت.
أ - على هذا النموذج أن لا يتورّطَ في منطق "تقديم الأولويّات." فالخلاص من الاحتلال والاستعمار يجب ألّا يعني السكوتَ، إلى أبد الآبدين، عن الاستبداد والفسادِ والطائفيّة، خصوصًا إذا أردنا بناءَ مجتمعٍ مقاوِم، لا الاكتفاءَ ببناء حزبٍ مقاوم. وبالمثل، فإنّ الساعي إلى الخلاص من الطائفيّة والعنصريّة والنهب لا يمكن إلّا أن يَلْحظَ أنّ "إسرائيل" هي ذروةُ هذه جميعِها، وأنّ الاستعمارَ يرعى هذا الكيانَ ويدعم عددًا كبيرًا من أنظمة القمع والطائفيّة والعنصريّةِ والذكوريّة -- خصوصًا في دول الخليج.
ب - على النموذج المنشود ألّا يحوِّلَ شعارَ "مقاومة التطبيع،" وهو شعارٌ تحرّريٌّ نبيل، إلى مبرِّرٍ لكمِّ الأفواه. كلُّ الاجتهادات مطلوبةٌ لمواجهة الكيان... ما لم تَخرقْ قانونَ المقاطعة، أو تؤثّرْ سلبًا في قدرة المقاومة على المواجهة.
ج - على النموذج المنشود أن يميِّزَ بين أنظمةِ التطبيع والمواطنين الخاضعين لها. في السنوات الأخيرة سادت لدى بعض المشرقيّين نزعةٌ عنصريّةٌ مقيتةٌ ضدّ أهلنا في الخليج. وهذا لا يعزِّز مقاومتَهم للتطبيع بطبيعة الحال، بل قد يضعهم في موقفٍ دفاعيٍّ تلقائيّ. هنا، علينا التذكيرُ، كما فعلتُ في السابق غيرَ مرّة، باستطلاعَيْ رأيٍ أجراهما الصيفَ الماضي "معهدُ واشنطن لدراسات الشرق الأدنى،" وقد أفادا بأنّ 91% من السعوديّين و80% من الإماراتيّين لا يوافقون على التطبيع التجاريّ أو الرياضيّ مع الإسرائيليّين. وهذا يحتِّم علينا جميعًا أن نكفَّ عن أخذ المواطنين الخليجيّين بجريرةِ أنظمتِهم، وأن نكثّفَ تواصلَنا مع حركات مناهضة التطبيع في الخليج.[21]
د - على النموذج المنشود أن يرفضَ المماهاةَ بين اليهوديّة والصهيونيّة، على الأقلّ كي لا يلِجَ البعضُ عالمَ التطبيع من بوّابة "حوار الأديان الإبراهيميّة." وليس مصادفةً أن يَحملَ الإعلانُ الإماراتيّ-الإسرائيليّ اسمَ "اتفاق أبراهام،" نسبةً إلى النبيّ إبراهيم، ذي المكانةِ الجليلةِ لدى تلك الأديان كافّةً. ومن الواجب دائمًا أن نُصرّ على أنّ الصراع مع العدوّ ليس صراعًا دينيًّا، وإنّما هو صراعٌ ضدّ الاحتلال والاستعمار.
ه - على النموذج المنشود أن يَحْذرَ من تطييفِ التطبيع ومذهبتِه، ومن تطييف مقاومة التطبيع ومذهبتِها. فالتطبيع ومقاومتُه لم يكونا تاريخيًّا (وينبغي ألّا يكونا نظريًّا وعملانيًّا) حِكْرًا على طائفةٍ أو مذهب؛ وإلّا أسهمنا في شقّ مواجهةِ التطبيع، وقدّمنا لأعدائنا سلاحًا مِن صُنعنا نحن.
و - على النموذج المنشود أن يتسلّحَ بطاقاتٍ فكريّةٍ قادرةٍ على الردّ على مزاعم المطبِّعين. وقد سبق أن عرضتُ هذه المزاعم في غير مقال، وهنا أبرَزُها:
أ) أنّ معرفةَ إنتاج كيان العدوّ، على المستوى الفكريّ والأدبيّ والعلميّ، تستوجب التطبيعَ مع رعاياه. وهذا غيرُ صحيح، إذ بمقدورنا معرفةُ ذلك النتاج مقرصَنًا أو عبر اليوتيوب، من دون الاحتكاكِ بالعدوّ مباشرةً أو دعوتِه إلى بلادنا، ومن دون فرضِه رغمًا عن أنف القانون وأهالي الشهداء.
ب) أنّ الأكاديميّين الإسرائيليّين منزَّهون عن الاحتلال. هنا تنبغي العودةُ إلى أدبيّات حركة المقاطعة العالميّة (BDS) التي كشفتْ عن تورّطاتٍ إسرائيليّةٍ أكاديميّةٍ كثيرةٍ في خدمة الاحتلال، ومنها: إسهامُ معهد تخنيون التقنيّ في بناء جدار الفصل العنصريّ، وتصميمُ جامعة تل أبيب عشراتِ الأسلحة الفتّاكة، وتأييدُ جامعة حيفا عمليّةَ "الرصاص المصبوب" ضدّ غزّة، وتزويدُ الجامعات الإسرائيليّة المحاكمَ العسكريّةَ بمتخرّجي القانون.[22]
ج) أنّ التطبيع ضرورةٌ ثقافيّةٌ وأكاديميّةٌ للمشاركة في مؤتمراتٍ عالميّة. وهذا غير صحيح من جديد، لأنّ بإمكاننا المشاركةَ في غالبيّة هذه المؤتمرات، إنّما ضمن شروطٍ تمليها علينا واجباتُنا تجاه قانوننا وبلادِنا وإنسانيّتِنا.
د) أنّ مقاومة التطبيع حَجْرٌ على الحرّيّات. وهذا تجاهلٌ واضحٌ لوجود قوانين في الدول "المتقدّمة" تَحْظر الأفلامَ والكتبَ والمؤتمراتِ التي تُعتبر مروِّجةً، مثلًا، لرُهاب المثليّة أو العنفِ ضدّ الأطفال أو "معاداةِ الساميّة" أو الاغتصاب. بمعنًى آخر، مقاومةُ التطبيع أمرٌ سياديٌّ يخصُّ العلاقةَ بالعدوّ الخارجيّ، ولا دخلَ له على الإطلاق بكبح الحرّيّات في الداخل.[23]
***
ختامًا، فإنّ مواجهةَ مشروع التطبيع تحتاج إلى تنسيق الجهود بين كافّة المقاطِعين ومناهضي التطبيع في الوطن العربيّ والعالم، أيًّا كانت عقائدُهم ومشاربُهم. لم نعد قلّةً في هذا العالم أيّها الرفاق؛ ولولا تأثيرُنا المتنامي لَما تسارعتْ على هذا النحو الهستيريّ كلُّ اتفاقيّات التطبيع، ولا احتشدتْ كلُّ مليارات الدولارات لدعم فضائيّات التطبيع.
بيروت
* كلمة رئيس تحرير الآداب في ندوةٍ أقامتها حركة BDS في تركيا بتاريخ 20/2/2021. لمشاهدة الفيديو (مع الترجمة إلى التركيّة)، أنقرْ هنا.