اتفاق أبراهام ... واقتراحات لمواجهة التطبيع
25-08-2020

 

سأنطلق في مداخلتي[1] من الاتفاق الإماراتيّ-الإسرائيليّ-الأميركيّ الأخير، فأتحدّث عن سياقِه التاريخيّ، وبعضِ مسبِّباته وأهدافِه المحتملة، وأختمُ بتوصياتٍ قد تفيد في مواجهة التطبيع على المستوى الثقافيّ.

***

ينبغي ألّا نعتبرَ الاتفاقَ المذكور مفاجئًا، وإنّما هو تتويجٌ لسلسلةِ "تعاونات،" منها السرّيُّ منذ عقود، ومنها العلنيُّ. أبرزُ التعاونات العلنيّة ما جرى منذ العام 2010. ففي ذلك العام، شارك وزيرُ البنى التحتيّة الإسرائيليّة في مؤتمرٍ في أبو ظبي. وبعده بأعوام (2014)، شارك وزيرُ الطاقة الإسرائيليّ في مؤتمرٍ هناك أيضًا. وبعدها بعام، افتُتِحتْ ممثِّليّةٌ لكيان العدوّ في الإمارات تحت ستار عضويّته في "الوكالة الدوليّة للطاقة المتجدّدة." وفي العام 2017، شارك سلاحُ الجوّ الإماراتيّ في مناوراتٍ مع سلاح الجوّ الإسرائيليّ والأميركيّ والإيطاليّ واليونانيّ. وبعدها بسنة، زارت وزيرةُ الثقافة والرياضة في الكيان، ميري ريغيف، دولةَ الإمارات على رأس وفدٍ رياضيّ. ثمّ تلقّت "إسرائيلُ" في العام الماضي دعوةً للمشاركة في إكسبو دُبي. وفي العام الجاري شارك فريقٌ إسرائيليّ في مسابقةٍ في الإمارات لركوب الدرّاجات الهوائيّة. وفي هذا العام أيضًا، وقّع الطرفان اتفاقًا مشتركًا لمواجهة وباء كوفيد-19، وأرسلت الإماراتُ مساعداتٍ طبّيّةً إلى تل أبيب. وهلمَّجرًّا. [2]

لاحظوا أنّ هذه التعاونات مختلفةُ الاهتمامات: فمنها الثقافيّ، ومنها الرياضيُّ، أو العلميُّ، أو الطبّيّ، أو الاقتصاديُّ، أو العسكريّ. وهذا يعني أنّها كلّها مهمّةٌ ومترابطة. بل لعلّنا نقول إنّ التعاونات ذاتَ الطابع غيرِ العسكريّ "تسهِّل" قبولَ التعاون العسكريّ والسياسيّ (المباشر): إنّها "فازلينُ" الخيانة.

الثقافة والفنّ والرياضة واللقاءاتُ العلميّة تطبِّع الخيانةَ قبل أن تحصلَ "فعليًّا،" أيْ قبل أن تُعلَنَ في اتفاقٍ رسميٍّ سياسيّ. لذا، فإنّ الخيانةَ الرسميّةَ العلنيّة، حين تحصل، تبدو وكأنّها أمرٌ "طبيعيٌّ،" غيرُ صادم، لأنّ عشراتِ الخطوات "الناعمة" سبقتْها ومهّدتْ لها الطريقَ. (وبالمناسبة، فإنّنا نقول "الخيانة" أو "الصلح" أو "الاستسلام" في هذا السياق دونما تفريقٍ أو تمييز؛ إذ لا صلحَ حقيقيًّا في ظروف انعدام التوازن بين القاتل القويّ والقتيلِ الضعيف).

وهذا يعني ضرورةَ رفض أيّ لقاءٍ ثقافيّ أو علميٍّ أو أكاديميّ أو طبّيّ أو سياحيّ أو رياضيّ أو بيئيّ مع العدوّ، لا لأنّه "يلمِّع" صورةَ الاحتلال فحسب، بل لأنّه لا بدّ كذلك من أن يقودَ إلى خيانةٍ كاملةِ الأوصاف لاحقًا. بكلامٍ آخر: ينبغي عدمُ التهاون مع أيّ خطوةٍ تطبيعيّة في أيّ مجال لأنّه سيجرُّ إلى ما هو أفدح.

طبعًا، النظام الإماراتيّ لا يقول بنظريّة التتويج، أيْ بالنظريّة التي تقول إنّ التراكمات التطبيعيّة، على مختلف المجالات، مراحلُ من خُطّةٍ واعيةٍ تهدف في نهاية المطاف إلى الإعلان الرسميّ السياسيّ الراهن. وإنّما يَطْرح نظريّةً هزيلةً اسمُها "اللحظةُ المناسِبة."

لكنّها لحظةٌ مناسِبةٌ لمن؟

***

نظامُ الإمارات يزعم أنّها مناسِبةٌ "للقضيّة الفلسطينيّة" التي تواجه مؤامرةً إسرائيليّةً جديدةً تقضي بضمّ أكثر من 30% من الضفّة الغربيّة إلى فلسطين المحتلّة في العام 48.

غير أنّ ذلك الزعمَ لا يستقيم وواقعَ الأمور، بدليليْن:

- الأوّل أنّ نتنياهو أقرَّ، بعد فترةٍ بسيطةٍ من الزعم الإماراتيّ، بأن الضمَّ "تأجّل مؤقّتًا" ولم يتوقّف.[3]

- الثاني أنّ نتنياهو، الذي كان يُفترض أن يُعلنَ الضمَّ في الأوّل من تمّوز(يوليو) 2020، أيْ قبل ستّة أسابيع من الاتفاق الرسميّ مع الإمارات، لم يعلنْه. وهذا الإحجامُ عن الإعلان لا يمكن عزوُه إلى "جميل" الإمارات وحبِّها الجمِّ للقضيّة، بل إلى الرفض الأوروبيّ بشكلٍ واضحٍ وحاسم: من ألمانيا إلى الفاتيكان، مرورًا ببريطانيا وفرنسا وبلجيكا. كما أنّ 1080 نائبًا أوروبيًّا وقّعوا رسالةً ضدّ خطّة الضمّ، بينهم 240 نائبًا من بريطانيا وحدها.[4]

لحظةُ الإعلان "مناسِبةٌ" لمن، إذًا؟

1) إنّها مناسِبةٌ بالتأكيد لدونالد ترامب، الذي يسعى من وراء هذا الإعلان إلى كبح التدهور الحاصل في شعبيّته قبل الانتخابات الرئاسيّة في نوفمبر. فهو لم "ينجِزْ" إلّا المزيدَ من الفقر في بلاده، والمزيدَ من الاحتقانِ الداخليّ بين الأعراق (خصوصًا بعد جريمة قتل جورج فلويْد على يد الشرطة). ولم يستطع الحدَّ من إصابات كوفيد-19 الهائلة، خصوصًا بسبب استهتاره بالوباءِ بادئَ الأمر، وإيثارِه استمرارَ عجلةِ "الإنتاج" على الصحّة العامّة (مَن يَذْكر، بالمناسبة، اقتراحَه الأبلهَ بحقْن المصابين بالمُطهِّرات؟!).[5] ولم يُفلحْ في سياسته الخارجية في أيّ مكانٍ في العالم: من سوريا إلى لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها.

لهذا كلّه، فربّما ظنّ ترامب أنّ إهداءَ الكيان الصهيونيّ "نصرًا" ما، ولو في مكانٍ قصيٍّ من العالم، وغيرِ متاخمٍ لهذا الكيان أصلًا، قد يعزِّز شعبيّتَه في صفوف الناخبين، المتصهينين بين الإنجيليّين على الأقلّ، ممّن يهمُّهم أمرُ هذا الكيان أكثرَ ممّا يهمّهم أمرُ أميركا نفسِها. وهو كان يتوق إلى تسمية الاتفاق الإسرائيليّ- الأميركيّ باسمه شخصيًّا، كما أقرَّ بلسانه، "لوْلا أنّ الصحافةَ لن تتقبّل ذلك!"[6] ولعلّه طمع في أن ينالَ جائزةَ نوبل للسلام بفضل رعايته هذا الاتفاقَ: ألم يدعُ مستشارُ الأمن القوميّ للبيت الأبيض، روبرت أوبراين، قبل أيّام، إلى ذلك؟[7]

2) وهي لحظةٌ مناسِبةٌ لنتنياهو، الذي سيَستخدم الإعلانَ مع الإمارات لتعزيز شعبيّته المتراجعةِ، هو أيضًا، خصوصًا في مواجهة قضايا الفساد التي يُحاكَم عليها. ولذلك فإنّه يسوِّق هذا الإعلانَ في وصفه خرْقًا استثنائيًّا للعدوانيّة العربيّة تجاه "إسرائيل،" ويعمل على حَرْفها باتجاهِ إيران.[8]

3) لكنْ هل لحظةُ الإعلان مناسِبةٌ للإمارات؟ الإمارات في الواقع أقلُّ المستفيدين للوهلة الأولى: فهي ليست بحاجةٍ الى أموالٍ خارجيّةٍ لتقوّي اقتصادَها، ولا تحتاجُ إلى استرجاع أراضٍ تحتلُّها "إسرائيلُ" منها. لكنّ هناك فائدةً تسلّحيّةً بالتأكيد من وراء الإعلان. فقد اتّضح أنّ هذا الأخيرلم يكن على أساس "السلام مقابل وقف الضمّ،" بل على أساس "السلام مقابل أسلحةٍ متطوّرة" تتضمّن مقاتلاتِ أف 35، ستتلقّاها الإماراتُ من الولايات المتحدة بقيمة عشرة مليارات دولار.[9]

لكنْ لماذا تريد السلطةُ الإماراتيّةُ هذا السلاحَ المتطوِّر، وهي تَعْقد سلامًا مع عدوِّ الأمّة؟ الجواب بسيط: لأنّها لم تعد تعتبر (أو هي لم تعتبر يومًا) أنّ "إسرائيل" كذلك، بل ترى أنّ العدوَّ الأوّلَ والأخيرَ هو... إيران.

وهنا نأتي إلى الكلام على لحظةٍ مناسبةٍ مشتركة محتملة للإمارات وأميركا و"إسرائيل" معًا من أجل تعزيز المواجهة مع العدوّ الجديد. إذ ليس مستبعَدًا أن نَشهدَ، قريبًا، تناميًا للحديث عن الجُزُر المتنازَعِ عليها بين إيران والإمارات منذ السبعينيّات، عنيْنا طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، بما يمكّن الإسرائيليّين والإماراتيين من عقد اتفاقِ دفاعٍ مشترك أو بناءِ قواعدَ إسرائيليّةٍ داخل الإمارات لمواجهة "الاحتلال الإيرانيّ" للجُزر. فهنا قد تؤدّي صفقةُ الأسلحة الأميركيّة الضخمة إلى الإمارات دورَها المنشود.[10]

لكنّ الإعلانَ قد يجد ذرائعَ أخرى لتجسيد التحالف الجديد على الأرض. فالحال أنّنا إزاء فصلٍ آخرَ من فصول الصراع بين أميركا و"إسرائيل" وبعضِ الأنظمةِ العربيّة (السعوديّة، الإمارات، البحريْن، قسم من اليمن،[11] ...) من جهة، ومحورِ المقاومة الذي تقوده إيرانُ من جهةٍ ثانية. ولن يَعدم المحورُ الأوّلُ التقاطَ أيّ فرصةٍ للهجوم على المحور الثاني. بيْد أنّ السؤالَ الأكبرَ والأهمّ، بالنسبة إلينا، نحن الحريصين على دم كلّ عربيّ وإيرانيّ: هل كلُّ سلاح أميركا المتطوِّر، بل هل الوجودُ الإسرائيليُّ العسكريُّ المباشرُ في الإمارات، سيَحميان هذه الدولةَ الصغيرةَ من الدمار الهائل في حال نشوب حربٍ مع إيران؟

الجواب: كلّا كبيرة! وهو ما يدفعنا إلى تأكيدِ ما هو بديهيٌّ للبعض، وطوباويٌّ للبعض الآخر: كلُّ الخلافات داخل منطقتنا العربيّة-الإسلاميّة، أيًّا كانت، ينبغي أن تُحَلَّ سلميًّا، ومن دون استدخالِ العنصر الإسرائيليّ.

***

أنتقلُ في القسم الثاني والأخير إلى الإدلاء بملاحظات/توصيات سريعة في موضوع التطبيع الثقافيّ والفنّيّ والعلميّ بشكلٍ خاصّ.

1) الملاحظة الأولى هي ما سبق الإلماعُ إليه في البداية، وأعني: وجوبَ عدم الاستهتار بالثقافة والفنّ والرياضة والسياحة و"التعاون" الطبّيّ والعلميّ بوّابةً للاستسلام والخيانة. نعم، علينا اليومَ أن نحاسِبَ كلَّ مَن استخفَّ بتحذيرات حركات المقاطعة ضدّ نشاطاتٍ تطبيعيّةٍ من نوع مهرجان "تومورولاند" الفنّيّ، مثلًا، الذي شاركتْ فيه دُبي (الإمارات) وجبيْل (لبنان) وريشون لزيون (الكيان الصهيونيّ) صيفَ العام 2017 تحت شعار "مدّ الجسور بين الشعوب" بهدف اتّحادها في حلمٍ موحَّدٍ على "أرض الغد."[12]

حين كانت حملةُ المقاطعة في لبنان وغيرِه تتحدّث، منذ العام 2002 أو قبله، عن مخاطر التطبيع الرياضيّ والفنّيّ والثقافيّ والأكاديميّ في وصفه مقدّمةً للتطبيع السياسيّ والعسكريّ والأمنيّ العلنيّ، كان بعضُ المستهتِرين يَسْخرون قائلين: "وما دخْلُ الرياضةِ والموسيقى بالسياسةِ والعسكر؟!" غير أنّنا، بعد سنوات، بتنا نسمع عددًا من هؤلاء يُعْربون عن "صدمتهم" بوجود وزيرةِ الرياضة والثقافة في كيان العدوّ على رأس وفدٍ رياضيّ إسرائيليّ في دولة الإمارات مثلًا، أو يُعْربون عن "ذهولهم" من الاتفاق الإماراتيّ-الإسرائيليّ الأخير.

والواقع أنّ "الصدمة" و"الذهول" يعبّران عن ضعفِ اطّلاعٍ، بل عن تكبُّرٍ وتعالٍ، على كلّ أدبيّاتِ المقاطعة في الوطن العربيّ والعالم. إذ ليس ثمّة نظامُ احتلالٍ أو عنصريّةٍ أو استعمارٍ في العالم إلّا و"يُلمِّعُ" صورتَه بالثقافة والفنّ والرياضة والعلم والطبّ. ونظامُ الأبارتهايد في جنوب أفريقيا أبلغُ برهان. الصادمُ والمذهل، فعلًا، هو صدمةُ أولئك المستهتِرين وذهولُهم!

2) الملاحظة الثانية هي أنّ التطبيعَ مع "إسرائيل" كثيرًا ما يتوسّل البوّابةَ الدينيّةَ، لكون منطقتِنا "مهدَ الأديان السماويّة" على ما يعيد المطبِّعون ويُكرِّرون، ولأنّ اليهوديّةَ "جزءٌ من الديانات الإبراهيميّة" التي تشمل الإسلامَ والمسيحيّةَ أيضًا. وليس مصادفةً، في هذا الصدد، أنّ الإعلانَ الإماراتيّ-الإسرائيليّ حمل اسمَ "اتفاق أبراهام،" نسبةً إلى النبيّ إبراهيم، ذي المكانةِ الجليلةِ في تلك الديانات. التضليلُ في الإعلان واضح: فصراعُنا مع "إسرائيل" لم يكن يومًا صراعًا دينيًّا كي "نتّفقَ مع اليهود" على السلام، وإنّما كان ويبقى صراعًا نخوضه كأصحاب أرضٍ ضدّ استعمارٍ استيطانيٍّ إحلاليٍّ عنصريّ.

لذا، فإنّ من موجبات مناهضة التطبيع رفضَ مماهاة اليهوديّة بالصهيونيّة، بل التشكيكَ أحيانًا في مبدأ "حوار الأديان" وورشاتِه المموَّلةِ الكثيرة إذا كانت ذا هدفٍ سياسيٍّ جليٍّ، هو التقاربُ مع كيان العدوّ أو دمجُه في منطقتنا.

3) من موجبات مقاومة التطبيع العاجلة، في اعتقادي، الوقوفُ في وجه حملات تشويه فلسطين والفلسطينيّين. منذ سنةٍ أو أكثر، ثمّة حملةٌ مسعورةٌ، يقودُها بعضُ مطبِّعي الخليج بشكلٍ خاصّ، عبر فيديوهاتٍ وتغريداتٍ ومنشوراتٍ فيسبوكيّة، تزعم أنّ الفلسطينيّين "باعوا أرضَهم" للاحتلال سنة 48، وتدّعي أنهم تنكّروا لـ"المساعدات الهائلة" من السعوديّة وغيرِها. والحال أنّ التطبيعَ مع الكيان يصبح أسهلَ بكثيرٍ، ذهنيًّا، حين يتحوّل الفلسطينيُّ المناضلُ والصابرُ إلى بائعٍ لأرضه وعِرضِه وناكرٍ للجميل. ولذلك، فإنّ من واجبنا الردَّ على هذه الأبواق المسعورة، مستخدمين المعلوماتِ الموثَّقةَ، وبعضُها يعود إلى مؤرِّخين إسرائيليّين، بدلًا من اللجوء إلى السبابِ والغوغائيّة.

هذا، ويضيف بعضُ التطبيعيّين إلى شيطنة الفلسطينيّ "تذكيرًا" بأنّ "الفلسطينيين" هم أوّلُ مَن طَبّع مع الإسرائيليّين عبر اتفاق أوسلو سنة 1993. وهذا كلامُ حقٍّ يُراد به باطل: فمَن وقّع آنذاك لم يكن "الفلسطينيين،" وإنّما قيادة متنفّذة لا تمثّل كلَّ الشعب الفلسطينيّ ولا كلَّ فصائله المقاومة؛[13] ومَن يمارس "التنسيقَ الأمنيَّ" مع العدوّ اليوم شرذمةٌ ضئيلةٌ لا يُعتدُّ بها. ومع ذلك، فمن الضروريّ أن نكرِّرَ أنّ مسؤوليّة (ما تبقّى من) القوى الوطنيّة والجذريّة الفلسطينيّة أكبرُ من مسؤوليّةِ أيّ طرفٍ عربيٍّ آخر، لأنّها في "بوز المدفع" كما يقال. لكنْ علينا، في الوقت نفسه، أن نكرّر أنّ صراعَنا مع الصهيونيّة ليس من باب "التضامن" مع الفلسطينيين، ولا "يَتْبع" هذا القائدَ الفلسطينيَّ أو ذاك الفصيلَ، وإنّما هو صراعُ كلّ فردٍ كريمٍ وحرٍّ في أمّتنا.

4) إحدى بوّابات التطبيع هي كراهيةُ الذات، والإفراطُ في حبّ الآخر الغربيّ "الحضاريّ." وعليه، فإنّ من مقوِّمات مناهضة التطبيع مع المستعمِر نشْرَ كلِّ ما يؤدّي إلى الاعتدادِ بالذات -- وهذا لن يكون تبجُّحًا أو تجاوزًا للحقيقة أصلًا: فثمّة إنجازاتٌ عربيّةٌ حتى على المستوى العسكريّ، أهمُّها طردُ العدوّ من لبنان، وإجبارُه على الخروج من غزّة. أمّا جلْدُ الذات، واحتقارُ التاريخ العربيّ بكلِّ مراحله، فلا مفرَّ من أن يقودا إلى الهجرة، أو إلى الانبطاحِ أمام أميركا وأوروبا وأمام دعاوى "السلام" مع المحتلّ والمستعمِر.

ودورُ الثقافة هنا بالغُ الأهمّيّة، خصوصًا حين نستعرض أمام ناسنا محطّاتٍ ناصعةً من مقاومة التطبيع. صحيحٌ أنّ في تاريخنا أمثالَ سعيد عقل، الذي امتدح "الإسرائيلياني" ودعا مناحيم بيغن الى "تخليصنا من العنصريّة الدمويّة الفلسطينيّة الّلي هِيّ راس الإرهابْ بالعالم"؛[14] لكنّ في هذا التاريخ أيضًا أمثالَ بيرم التونسي وسيّد درويش في مقاطعة المحتلّ الإنجليزيّ، وأمثالَ غسّان كنفاني وسعيد تقيّ الدين ورضوى عاشور ولطيفة الزيّات وسيّد البحراوي وسهيل إدريس وآلاف الكتّاب والفنّانين والسينمائيّين العرب في مقاطعة المحتلّ الإسرائيليّ. وعلينا في هذا الصدد ألّا نكتفيَ بتراثنا العربيّ المقاوم وحده، بل نضيف إليه نماذجَ من تراث سائر مقاطعي "إسرائيل" في العالم. فنحن لسنا وحدنا، و"فلسطين" هي شعارُ عشرات آلاف الأحرار في المعمورة - - من سُودٍ وسُمرٍ وشعوبٍ أصليّةٍ في أميركا وكندا وأستراليا وغيرها، ومن يسارٍ ونسويّاتٍ وحقوقيّين وبيئيّين وفنّانين وأكاديميّين وممثّلين وكنسيّين...

ولعلَّ أكبرَ دليلٍ على فعّاليّةِ ما تقوم به حركاتُ المقاطعة ومناهضةِ التطبيع هو سعيُ الرجعيّة العربيّة والعدوّ والولاياتِ المتحدة إلى تكريس التطبيع رسميًّا في اتفاقيّاتٍ كالاتفاق الإماراتيّ-الإسرائيليّ-الأميركيّ الأخير، ومعاقبةُ مناهضي التطبيع في غير بلدٍ عربيّ، وخصوصًا في منطقة الخليج.

5) من مقوِّمات مواجهة التطبيع أيضًا كشفُ الخبث الليبراليّ الذي يتلطّى وراء التغنّي بـ"التعدّديّة" و"الحوار مع الآخر." العدوّ الصهيونيّ ليس "آخرَ" كي نستمعَ إليه ونحاورَه ونصلَ معه إلى قواسمَ مشتركة، وإنّما هو مجرمٌ ومحتلٌّ يعمل منذ عقودٍ على إلغائنا والتوسُّعِ على حسابنا. وإلى حين خروجِه من كلّ أرضنا العربيّة، فإنّ علينا أن نرفضَ تطبيعَ علاقتنا به، أيًّا كان توجُّهُه السياسيّ، ومهما نَعَتَنا "ديموقراطيّو" آخرِ زمنٍ بالتحجُّر والتخشّب.

6) لا رهانَ على الأنظمة العربيّة، على اختلافها، في مواجهة التطبيع مواجهةً جذريّةً ومستديمةً. لكنْ، ماذا عمّا تبقّى من قوًى وطنيّةٍ وقوميّةٍ وتقدّميّةٍ في أمّتنا؟ هل هناك مهمّةٌ أعظمُ لدى اليسار الوطنيّ والقوميّ، على سبيل المثال، من تلك المهمّة، بدلًا من أن يَغْرق في الحرتقات الداخليّة والتنافسِ على المقاعد الهزيلة إلى ما لا نهاية؟ ألا ينبغي أن تكون "مقاومةُ التطبيع" على رأس أولويّات كلّ حزبٍ قوميّ ويساريّ عربيّ؟

نقول ذلك من دون أن نقصدَ، بالتأكيد، أن نؤجِّل معركةَ التغيير الوطنيّ الديمقراطيّ الداخليّ إلى ما بعد تحرير أرضنا من الاحتلال الإسرائيليّ. المعركتان مترابطتان ومتكاملتان، أو يجب أن تكونا كذلك، على ما كتبنا مرارًا. ونحن لا نحرِّر أرضَنا من المحتلّ المستعمِر كي ننصِّب جزّارًا محلِّيًّا مكانَه.

وماذا عن "المثقّفين"؟ أمْ أنّ كثيرين منهم استعذَبوا العزلةَ واليأسَ والإحباطَ، أو استمرأوا الالتحاقَ بالأنظمةِ والطوائفِ ومنابرِها ومغانمِها، أو آثروا الانضواءَ في منظّمات المجتمع المدنيّ "المُدْهِنة" والمتهاونةِ مع قضيّة تحرير كامل فلسطين؟

7) وأخيرًا، فإنّ من أهمّ موجبات مقاومة التطبيع: التثقيفُ الذاتيّ المرهَف. لا نستطيع أن نقاومَ الإعلامَ المطبِّعَ، وفضائيّاتِ النفطِ الجبّارة، بخطابٍ تقليديٍّ مكرورٍ يَقتصر على "الثوابت" والكليشيهات، ومن دون ابتكار الوسائل الأكثر جذبًا للجيل الجديد، ولاسيّما الوسيلة السمعيّة البصريّة. ويُستحسن ألّا نتعاملَ مع حالات التطبيع دونما تمييزٍ بين "تطبيعٍ قسريّ" و"تطبيعٍ إراديّ أو طوعيّ،" ودونما إدراكٍ للفويْرقات والخصوصيّات؛ وإلّا نفّرْنا بعضَ مَن يسمعُنا (مع أنّه قد لا يكون ضدَّنا في المبدأ)، وخسِرْنا معركةَ مواجهةِ التطبيع في منتصف الطريق!

بيروت

 


[1]النصّ الكامل لمداخلة رئيس تحرير الآداب في ندوةٍ رقميّةٍ من تنظيم شبكة "صامدون" وحملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان مساء 22/8/2020.

[11]على نقيض سبعينيّات القرن الماضي وثمانينيّاته، حين كان اليمنُ الجنوبيّ الاشتراكيّ معقلًا لفصائل المقاومة الفلسطينيّة، ولرفاق الشهيد وديع حدّاد بشكلٍ خاصّ، يبدو "المجلسُ الانتقاليُّ الجنوبيّ" على تقاربٍ مخزٍ مع الكيان الصهيونيّ. مؤخّرًا، هاجم نائبُ رئيس هذا المجلس، الشيخ هاني بن بريك، القياداتِ الفلسطينيّةَ التي رفضت التطبيعَ الإماراتيّ-الإسرائيليّ، وأعلن استعدادَه للسفر إلى "إسرائيل" فور توقيع "السلام" بين الطرفيْن، وذلك بدعوى "زيارة اليهود الجنوبيين والذهاب برفقتهم للصلاة في المسجد الأقصى!" راجعْ:

https://al-akhbar.com/Palestine/292765/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B5%D8%AF%D9%82%D8%

A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D9%

86%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%A3

%D9%87%D9%84%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9

[13]راجع ما كتبتُه هنا بعيْد اتفاق غزّة-أريحا، في نهاية الصفحة 10 وكامل الصفحة 11:

http://al-adab.com/sites/default/files/aladab_1993_v41_09-10_0008_0012.pdf

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.