القبطان
31-07-2016

 

تقدّمتُ بطلب توظيف لدى شركة بحريّة تمتلك أكثر من سبع عشرة سفينة تجاريّة، فحدّدوا لي مقابلة مع قبطان إحداها صباحَ الخامس من نيسان.

توجّهتُ في الموعد المقرَّر إلى الرصيف البحريّ، حيث كانت السفينة راسية. سألتُ عن القبطان، فأرشدوني إلى قمرتهِ.

كان رجلًا فارعَ الطولِ، في الخمسين من عمره، أنيقَ الملابس، حليقَ الذقن. يشعُّ من عينيه الزرقاوين بريقٌ عجيب. وتفوحُ منه رائحةُ عطرٍ زكيّة.

سألني عن خبرتي في الإبحار، فكنتُ صريحًا معه:

ـــــــــ نظريًّا، خبرتي رائعة في هذا المجال؛ فقد سبقَ لي أن أبحرتُ مع مينة وملفيل وستيفنسون آلافَ الأميال في صفحات الكتب. أمّا عمليًا، يا حبيب، فأبعدُ مسافة اجتزتُها داخل البحر كانت على متن "حسكة" بمجذافٍ واحد.

ضحكَ القبطان. وضحك أكثر عندما علم أنّ في حوزتي شهادةً في الصحافة، وأنّني أعمل في هذا المضمار منذ ما يقارب العقد.

ـــــــــ ألا تجد ذلك غريبًا بعض الشيء؟ لديك عملُكَ الذي تتقنه، وحياتُكَ التي بنيتَها خلال تلك السنوات. والآن، ها أنت تريد الإبحار بعيدًا عن كلّ ذلك؟!

ـــــــــ ربّما...

أجبتُ وأنا أقدّم له سيجارة أشعلتها، ثمّ أشعلتُ واحدة لنفسي. وتابعت:

ـــــــــ منذ ثلاثة وثلاثين عامًا أيّها القبطان، وأنا أعيشُ على البرّ. ولا أخفيكَ أنّ الأمر مرهقٌ جدًّا.الناسُ يتكاثرون كالفيروسات. الأحقاد تملأ الأرجاء. حروبٌ لا تنتهي. لصوصٌ، كلّما مات أبرياء زادت أرصدتُهم في المصارف. رجالُ دينٍ يبيعون الجهلة قصورًا في السماء ليفجّروا أنفسَهم بين الناس. عاهراتٌ بمرتبة "فنّانات." قوّادون بمرتبة "رجال أعمال." عقلي لم يعد يسعفني أيّها القبطان.ففكّرت بيني وبين نفسي: لمَ لا أجرّبُ البحر والعيشَ على سطح باخرة، علّني أنقذ نفسي من هذا الجحيم؟

كان القبطان يصغي بانتباه، ولم يقاطعْني.

في نهاية المقابلة انشغل بالكتابة على قصاصة ورقيّة وضعها في جيبي بعد أن صافحني مودّعًا. اعترتني لهفةٌ كبيرةٌ وأنا أخمّنُ ما كتبه؛ أتكون توصيةً منه بقبولي كي أسلّمها لأصحاب الشركة؟ عليّ، إذًا، أن أجهّز نفسي منذ الآن. سأقدّم استقالتي، وأحزم أمتعتي لألتحق بطاقم الباخرة قبيل الإبحار.

دسستُ يدي في جيبي، ما إن ابتعدتُ عن الرصيف البحريّ، وأخرجتُ القصاصة الورقيّة.

فيها اسمٌ ورقمُ هاتف. وفي الزاوية اليسرى من القصاصة تعريفٌ مقتضبٌ بصاحب الاسم:

الدكتور......

طبيب نفسيّ محترم.

مع خالص الأمنيات بالشفاء العاجل!

اللاذقيّة

حازم شحادة

شاعر وقاصّ من سوريا. حاصل على إجازة في الإعلام. نشر العديد من القصائد والقصص في صحف سوريّة وعربيّة. صدر له ديوان بعنوان: أوراق نساء.