في ذلك الزمن كان الكتابُ هديّةً حلوة
17-04-2016

 

بالقربِ من سوق الخضار القديم، في قلب اللاذقيّة، تنبعث رائحةٌ غريبة. إنّه منتصفُ ظهيرة يومٍ من تسعينيّات قرنٍ بعيد.

عشراتُ السرافيس (سيّارات الأجرة الكبيرة) تملأ الشوارعَ جيئةً وذهابًا، والناسُ عائدون من أعمالهم يمسحون العرقَ بمناديلهم أو أكمامِ قمصانهم أو راحاتهم. ومن بين تلك النهود الفتيّة، أو المترهّلة، أو المستثارة بفعل الحرّ والهرمونات المتدفّقة، تنبعث رائحةٌ غريبة.

يا إله العرش، يا إله اللاذقيّة التي كانت.

ـــــــ ما الذي نفعله هنا؟

سألتْ عفاف البيطار، ابنةُ السابعة عشرة، بينما كنتُ أشتري علبةَ سجائر "حمراء" طويلة من صاحب البسطة الصغيرة عند زاوية الشارع الصاعد باتّجاه ساحة الشيخ ضاهر.

كانت ترتدي بذلة الفتوّة (وهي لباس شبهُ عسكريّ رماديّ يلبسه طلّابُ الثانويّات السوريّة من الجنسين)، وشعرُها البنّيّ الطويل مربوطًا كذيل الحصان. وعلى وجهها الحنطيّ تساقطتْ ثلاثُ خصلات، ظلّت بين الحين والحين ترفعها بيدها ذاتِ الأصابع الصغيرة. وفي عينيها العسليّتين خوفٌ ولهفةٌ وقلقٌ زادتهما جمالًا وأنوثة. أمّا حقيبتها المدرسيّة السوداء فكانت مرميّةً بلامبالاةٍ فوق كتفها اليمنى.

منذ وصولنا ما برحتْ تعضّ شفتها السفليّة بعصبيّةٍ حاولت إخفاءها تحت رداء الحبّ، لكنّها لم تُفلح. غير أنّها ما عرفتْ، حتّى اليوم، كم كانت شهيّةً وهي تفعل ذلك.

ـــــــــ أحبّ هذا المكان.

قلتُ وأنا أشعل سيجارةً وأتنفّس دخانَها بكلّ خليّةٍ من خلايا دمي. تمتمتْ بشيءٍ لم أفهمه، وراحت تتلفّتُ حولها: شجرة زنزلخت محنيّة بفعل الزمن؛ أبنية قديمة، في جدرانها المتآكلة الطلاء حفرٌ عديدةٌ، ترسم من بعيدٍ أشكالًا لوجوهٍ كئيبة.

أمام دكّان صغير للبهارات، راح مسنّان يرميان النردَ فوق طاولة. وعلى الرغم من أنّ شارعين يفصلاننا عن فلافل "برهان،" فقد كان بمقدورنا استنشاقُ تلك الرائحة الغريبة الممزوجة بالرطوبة والفلافل ودكاكين البهارات والبلاستيك.

ـــــــ لا أفهم ما الذي تحبّه؟

لم أجب، لكنّني أمسكتُ بيدها، فابتسمتْ، وسحبتْها بهدوء.

ـــــــ أخاف أن يرانا أحدٌ يعرفني.

عن يسار الساحة التي تجتمع فيها سرافيسُ الشاطئ وأوغاريت ورأس شمرا، مكتبةٌ. طلبتُ إليها أن تنتظر خارجها، ودخلتُ. كنتُ أعرفُ ما أريد، فلم أطِلِ المكوث.

خرجتُ وفي يدي كتابٌ مغلّفٌ بورق الهدايا. أعطيتُها إيّاه.

ـــــــ أخبريني رأيكِ بعد أن تنهي قراءته.

كادت عيناها تطيران من الفرح.

في ذلك الزمن، كان الكتابُ هديّةً حلوة.

***

بعد ثلاثة أيّام، رنّ هاتفُ المنزل رنّةً واحدةً عند الواحدة فجرًا. كنتُ أنتظرها بكامل اللهفة والشوق. طلبتُ رقم منزلها برنّةٍ واحدة، فأعادت الاتّصالَ، وجاء صوتُها من الطرف الآخر للسمّاعة كنسمةِ صيف.

ـــــــ "اشتقتلَكْ."

قالت بصوت خفيض ناعم حنون شهيّ شهوانيّ، يختصر تاريخَ الأنوثة منذ عشتار وحتّى يومنا هذا.

في هذه اللحظة بالذات، وكان هاتفُ منزلنا موضوعًا في الصالون طبعًا، استيقظ أبي ووقف أمام الباب يتأمّلني بصمت.

كنتُ قد حشرتُ نفسي قرب الشبّاك كي لا يَعْبق الصالون بدخان السيجارة، مادًّا ساقيَّ على كرسيّ خشبيّ، وبقربي طاولةٌ صغيرةٌ عليها كأسٌ من "المَتّة" وعلبةٌ من السكّر ومنفضة.

ـــــــ "اشتقتلَك،" أعادت عبارتها.

كنتُ حائرًا في كيفيّة التصرّف؛ فوالدي كان يضبطني للمرّة الأولى وأنا أدخّن السجائر وأمارس العشق على أثير الهاتف. هل أغلق السمّاعة في وجهها؟ هل أرمي السيجارة؟ هل أعتدل في جلستي؟

لسببٍ ما قرّرتُ أن أتجاهل والدي كليًّا، وواصلتُ التدخين من دون أن أعتدل في جلستي. وحين غادر الصالون عاقدًا حاجبيْه، سمعتُه يقول:

ـــــــ يلعن أبوك عا أبو هيك ترباية يا كلب.

تظاهرتُ بعدم الاكتراث، بينما زادت دقّات قلبي عن الألف.

ـــــــ وأنا اشتقت إليك أكثر ممّا تتصوّرين، قلتُ بعد أن بلعتُ ريقي وأشعلتُ سيجارةً جديدة.

ـــــــ اسمعْ قليلًا... هذه لك.

صمتتْ لبرهة، ووضعتْ سمّاعة الهاتف بالقرب من المسجّلة، فجاءني صوتُ أم كلثوم:

"أهواك في قربك وف بعدك... واشتاق لوصلك وأرضى جفاك... وإنْ غبت أحافظ على عهدك... وافضل على ودّي ويّاك..."

كان هذا أجملَ ما أسمعتني إيّاه أنثى يومًا. رحتُ أحلّق في عالمٍ موازٍ. ولم يوقظني إلّا صوتُها مرّةً أخرى وهي تقول:

ـــــــ شكرًا على الهديّة الرائعة.

ثمّ أغلقت السمّاعةَ على وعدٍ مع الغيم الغريب.

كان الكتاب في ذلك الزمن، قبل الرسائل النصّيّة القصيرة والواتسابات ورسائل الماسينجر والهانغاوت، هديّةً حلوةً.

اللاذقيّة

حازم شحادة

شاعر وقاصّ من سوريا. حاصل على إجازة في الإعلام. نشر العديد من القصائد والقصص في صحف سوريّة وعربيّة. صدر له ديوان بعنوان: أوراق نساء.