التطبيع في لبنان: نستطيع المواجهة
15-09-2020

 

بدعوةٍ من "جمعيّة إنعاش الأسرة" في فلسطين المحتلّة، أقيمت في 9/9/2020 ندوةٌ رقميّةٌ بعنوان "التطبيع: صعوبةُ المسارات وضرورةُ الخيارات." تحدّث في الندوة كلٌّ من هديل إبراهيم كمال الدين (البحرين)، وعمر البرغوثي (فلسطين)، ورئيس تحرير الآداب وعضو حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان د. سماح إدريس. هنا كلمة إدريس في نسختها الموسّعة.

***

ملاحظات أوّليّة مترابطة

مؤخّرًا، أفاد استطلاعُ رأيٍ أجراه "معهدُ واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" بأنّ 9% فقط من السعوديّين تتّفق على أنّ "مَن يرغب في مزاولة الأعمال أو إقامةِ علاقاتٍ رياضيّةٍ مع الإسرائيليّين يجب السماحُ له بذلك."[1]وهناك استطلاعٌ آخرُ للمعهد نفسِه يفيد بأنّ نحو 80% من الإماراتيّين لا يوافقون على مقولة "إنّ مَن يرغب من الشعبِ [الإماراتيّ] في أن تربطَه علاقاتُ عملٍ أو روابطُ رياضيّةٌ مع الإسرائيليّين يجب أن يُسمح له بذلك."[2]

بمعنًى آخر، أقلّيّة في دولة الإمارات، وحفنةٌ ضئيلةٌ في السعوديّة، توافقان على التطبيع مع العدوّ. الاستطلاعان أجراهما في 10 آب و20 تمّوز، على التوالي، معهدٌ غيرُ محسوبٍ على دول "الممانعة،" ومستشاروه معروفون بيمينيّتهم (هنري كيسنجِر، جورج شولتز، كوندوليزا رايْس،...). [3] وهذا ما دفعني قبل أيّام إلى أن أختمَ أحدَ منشوراتي على صفحتي على موقع فيسبوك بالآتي:

"لا تُصدِّقوا الفضائيّاتِ الكاذبة. لا تُصدِّقوا إعلاميّي النفط. على الرغم من كلِّ شيء، على الرغم من تهاوي غالبيّةِ الأحزاب، وشحّةِ مواردِ حركاتِ المقاطعة ومناهضةِ التطبيع، وخيانةِ عشراتِ المثقّفين؛ وعلى الرغم من السجونِ المكتظّةِ بعشرات المناضلين الرافضين للتطبيع، فثمّة حقيقةٌ راسخة، وهي أنّ الناس العاديّسن لا يريدون أيَّ تطبيعٍ مع العدوّ. استندوا إلى هذه الحقيقة، واعملوا على أساسها. ولا تضلِّلنَّكم الصورُ والتصريحاتُ والمصافحاتُ والزياراتُ والتهويلات. فغالبيّةُ ناسنا تبصق على المطبِّعين، كما فعل أطفالُ القدس بأحدِ المطبِّعين السعوديّين."[4]

 

علينا، كمناهضين للتطبيع في المشرق، أن نعزّز تواصلَنا مع حركات مناهضة التطبيع في الخليج

 

لذا، ملاحظاتي الأوّليّة هي أنّ علينا في المشرق العربيّ أن نتخفّفَ من نزعتنا الفوقيّة تجاه "أهل الخليج." فهؤلاء ليسوا، في غالبيّتهم الساحقة، راضين بالتطبيع مع العدوّ، وإنّما هم مغلوبون على أمرهم بالقمع والكبتِ والقهر. لا حريّةَ لدى شعبنا في الجزيرة العربيّة، مثلًا، لكي يعبِّر بشكلٍ علنيّ عن رفضه للتطبيع والمطبِّعين. ومَن يَفعل ذلك، فمصيرُه السجنُ الطويلُ على أقلّ تعديل (ثلاثةٌ من أصدقائي القوميّين والتقدميّين في "السعوديّة،" على سبيل المثال، ما يزالون يَقْبعون في السجون منذ سنوات، بتُهمٍ واهيةٍ لا تنطلي على أحد).

وعلينا، في المشرق العربيّ، وفي لبنان خصوصًا، أن ندركَ أنّنا لسنا أكثرَ وطنيّةً وشجاعةً من أهلنا في الخليج. فنحن في لبنان، مثلًا، لم نستطعْ أن نتخلّصَ من نظامٍ متعفّنٍ لا يقلّ سوءًا عن أسوإ السلطاتِ تخلّفًا في الخليج؛ عنيتُ نظامَ المحاصصةِ الطائفيّة الذي أوصلنا إلى الحروب المزمنة والخراب الاقتصاديّ. صحيحٌ أنّنا حرّرنا القسمَ الأعظمَ من لبنانَ من الاحتلال الإسرائيليّ بعد كفاحٍ عظيمٍ استمرّ عقودًا، لكنّنا لم نحرّرْه من الطائفيّة والفساد والسرقة -- وهذه كلُّها تنهش في جسد إنجازاتنا ضدّ "إسرائيل" بشكلٍ يوميّ.

وعلينا، كعاملين في مجال مناهضةِ التطبيع في لبنان والمشرق العربيّ، أن نعزّز تواصلَنا مع حركات مناهضة التطبيع في الخليج، أيًّا كان حجمُ هذه الحركات، وأيًّا كانت عقائدُها، ما دام الهدفُ واضحًا، والبوصلةُ واضحةً. المهمّ في عملنا هو: 1) التفاني والإخلاص. 2) التماسكُ داخل كلّ حملة على حِدة. 3) الحوار الودّيّ بين الحملات العربيّة المناهضة للتطبيع.

 

كيف نقاوم التطبيعَ في لبنان؟

التطبيع هو السعيُ الحثيثُ إلى إقناعنا بأنّ ما نؤْمن أنّه غيرُ طبيعيّ، كالاحتلال، مجرّدُ وهمٍ، أو هو ناجمٌ عن غسلِ دماغٍ أو حواجزَ نفسيّةٍ لا غير. لذا، كلّما قبِلْنا أيَّ علاقةٍ مع الاحتلال وإفرازاتِه، أكانت هذه العلاقةُ ذاتَ طابعٍ اقتصاديّ أمْ ثقافيّ أمْ فنّيّ أمْ علميّ...، فقد تقدّمنا خطوةً نحو قبول الاحتلال كجزءٍ من سيرورة "الحياة" ومسار "الطبيعة."

 

التطبيع هو السعيُ إلى إقناعنا بأنّ الاحتلال مجرّدُ وهْم، أو ناجمٌ عن غسلِ دماغٍ وحواجزَ نفسيّة

 

أنواعُ التطبيع المنتشرة في لبنان ليست قليلةً، على الرغم من وجود مقاومةٍ مسلّحةٍ جبّارة، وحالةِ عداءٍ "رسميّةٍ" (وشبه شعبيّة) طويلةٍ مع الكيان الصهيونيّ، وقانونٍ ضدّ أيّ تعاملٍ معه. لكنّ المقاومة غيرُ مُجْمَعٍ أو متَّفَقٍ عليها، لأسبابٍ بعضُها داخليٌّ، يتعلّق بالتجاذبات الطائفيّةِ والمذهبيّةِ والإقليميّة. وأمّا حالةُ العداء فقد جرى تقويضُ جزءٍ منها في نفوسِ اللبنانيين، بالدعاية والإعلامِ والمالِ وعملِ بعض المنظَّمات غير الحكوميّة والتربيةِ المشوَّهة. وأمّا القانون فقديمٌ جدًّا، يعود إلى العام 1955، ولم يجدَّدْ، لأسبابٍ قد نناقشُها في مناسبةٍ لاحقة.

من أنواع التطبيع في لبنان:

1) التطبيع الاقتصاديّ غير المباشر: كتسريب بضائعَ إسرائيليّةِ الصنع عبر الحدود اللبنانيّة مع فلسطين المحتلّة، أو عبر بلدانٍ أخرى (تركيا،...)، وأحيانًا بتعليبٍ جديدٍ (repackaging) يَطْمس هويّةَ بلدِ المنشأ ("إسرائيل"). وعادةً ما تكون هذه البضاعةُ أرخصَ ثمنًا من البضائع المتداولةِ في السوقِ اللبنانيّة، ما يبرِّر لبعض المستهلِكين شراءَها، خصوصًا بسبب تدهور أوضاعهم الاقتصاديّة. ومع تزايد التعامل الاقتصاديّ غير المباشر مع العدوّ، تتطبّع في الأذهان، رويْدًا رويْدًا، فكرةُ التعامل الأشمل مع العدوّ، و"محاسنُ" هذا التعامل.

2) التطبيع الأكاديميّ. وله أوجهٌ عديدةٌ في لبنان:

- كأن يُعيَّنَ في جامعةٍ في لبنان أستاذٌ أمريكيٌّ سبق أن عمل مستشارًا لقسم الفلسفة في جامعةٍ إسرائيليّةٍ مبنيّةٍ على أرضٍ مسروقةٍ من الشعب الفلسطينيّ.[5] وحجّةُ التطبيعيّين هنا: وما دخلُ عملِه هناك بعمله هنا؟! أو: فلنفْحصْ مواقفَه "المعتدلة" المؤيِّدةَ لحلّ الدولتين أو تلك التي تدين "العنفَ الإسرائيليّ" (بالتوازي مع "عنف" حركة حماس). وكأنّ مواقفَه "المعتدلة" تفرض علينا أن نتسامحَ مع تلميعِه لتلك الجامعة الإسرائيليّة المحتلّة.

- أو كأن يقرِّرَ أستاذٌ جامعيٌّ لبنانيٌّ على طلّابه مقالًا لكاتبٍ إسرائيليٍّ يعلِّم في جامعةٍ إسرائيليّة، مع أنّ ذلك الأستاذ كان في مقدوره أن يقرِّرَ مقالاتٍ ذاتَ مضمونٍ شبيهٍ أو خلاصاتٍ مماثلة لكاتبٍ غير إسرائيليّ ولا يعلِّم في الكيان الغاصب. ولو فعل ذلك لَمَا خلّف في أذهان طلّابه انطباعًا أنّ الكاتبَ والجامعيَّ الإسرائيليّ مجرّدُ "كاتبٍ آخر،" لا كاتبٌ جامعيٌّ محتلٌّ ويستفيد من الاحتلال ومن منافعه.

 

يقدّم "الجامعيون" الإسرائيليون إلينا بصرف النظر عن انتمائهم إلى جامعاتٍ سرقتْ أرضَنا وشاركتْ في قتلنا

 

المشكلة هنا ليست في أن نقرأَ لجامعيّين إسرائيليّين (فمِن واجِبنا أن نفعلَ ذلك متى استطعنا إلى ذلك سبيلًا، ولكنْ عن طريق القرصنة مثلًا، كما أوضحتُ في غير مقال). المشكلة تكمن في أن يجري تقديمُ ما يكتبونه وكأنّه جزءٌ طبيعيٌّ من "عالم البحث الأكاديميّ،" بصرف النظر عن هويّتهم، أو عن انتمائهم إلى جامعاتٍ سَرقتْ أرضَنا أو شاركتْ في تصميم أسلحةٍ فتّاكةٍ تَقتل شعبَنا أو طَوّرتْ عقائدَ إجراميّةً كـ"عقيدة الضاحية."[6]

- أو كأن يشاركَ لبنانيٌّ في ورشة عمل في الخارج، عن المياه أو البيئة أو الأدبِ أو العمران أو غيرِ ذلك، إلى جانب أكاديميٍّ إسرائيليّ، ثم يدور "نقاشٌ" في الموضوع، يتجاذبُ فيه المشاركون أطرافَ الحديث، وكأنّ الإسرائيليَّ لم يسبقْ أن خَدَمَ في الجيش الإسرائيليّ سنتيْن، أو كأنّه ليس جزءًا من كيانٍ يحتلُّنا ويقتلُنا ويمارس العنصريّةَ ضدّنا حتى اللحظة. هنا أيضًا تبدو ورشةُ العمل وكأنّها تنتمي إلى عالمٍ منفصلٍ عن العالم الذي نحيا ونموت ونناضل فيه، ويبدو المشاركون فيها كائناتٍ منفصلةً عن واقع الاحتلال والظلم والقهر والمقاومة.

3) التطبيع التربويّ أو المدرسيّ: كأنْ يُعتمَدَ في مدرسةٍ في لبنان أطلسٌ جغرافيٌ فرنسيّ، يتضمّن خارطةَ فلسطين، لكنْ بعد تسميتها "إسرائيل" (وأحيانًا بضمّ "يهودا والسامرة" وغزّة إليها، بما يناقض "القانونَ الدوليَّ" نفسَه). وحجّةُ إدارةِ المدرسة أنّ هذا الأطلس هو المعتمَدُ لاجتياز امتحاناتٍ رسميّةٍ فرنسيّة.[7] الأسوأ أن لا يقومَ الأستاذُ أو المدير بإيضاح شيءٍ للطلّاب عن تاريخ نشوءِ هذا الكيان وإجرامِه المتواصل، فتَعْلَق "إسرائيلُ" في رؤوسهم وكأنّها جزءٌ طبيعيٌّ من العالم المحيطِ بهم، إنْ لم تكن محضَ "جارٍ" كسوريا مثلًا.

- أو كأنْ يأتي درسٌ عن الهولوكوست النازيّة في الكتاب الأجنبيّ المعتمَدِ في المدرسة في لبنان، لكنْ من دون أيِّ ذكرٍ لكيفيّة استغلال "إسرائيل" لهذه الهولوكوست من أجل تبرير ممارسة التطهير العرقيّ ضدّ الفلسطينيّين وشنِّ الحروب المتواصلة ضدّ العرب "العدائيين" منذ العام 1948. الأدهى أن لا يقومَ الأستاذُ في المدرسة بإضافة أيّ توضيحٍ لطلّابه عن ذلك الاستغلال، فينشأ عندهم تعاطفٌ مع ضحايا الهولوكوست، من دون أن يُدرِِكوا أنّ عددًا من أبناءِ هؤلاء الضحايا أو أحفادِهم قد تحوّلوا إلى جلّادين بدورهم؛ أو قد ينشأ عندهم ما تروِّج له الصهيونيّةُ العالميّةُ من "استثنائيّة المظلوميّة اليهوديّة" في الكون، بما يبرّر لها قمعًا استثنائيًّا لأعدائها.

 

من أشكال التطبيع الفنّيّ أن نوافق على استقبال مغنّيةٍ زارت الكيانَ وعانقتْ بيريز

 

4) التطبيع الفنّيّ: كأن يحاول البعضُ في لبنان أن يبرِّرَ حفلةً فنّيةً في لبنان (أحبطتْها حملةُ المقاطعة) لمغنّيةٍ أوروبيّةٍ غنّت في الكيان الصهيونيّ، وغنّت في فرنسا في ذكرى تأسيسه (أيْ ذكرى نكبة شعبنا الفلسطينيّ)؛[8] أو أن نرحِّبَ بمغنٍّ أنشدَ النشيدَ "الوطنيّ" الإسرائيليّ داخل ذلك الكيان؛[9] أو أن نصفِّق لمغنّيةٍ أنشدتْ قصيدةً تمجِّد "استعادةَ" العدوّ لكامل "أورشليم" سنة 1967؛[10] أو أن نستقبلَ مغنّيةً أخرى (لم يحصلْ هذا الاستقبال بسبب نشاط حملة المقاطعة على الرغم من إنكار البعض) زارت الكيانَ والتقت مجرمَ الحرب شيمون بيريز ("بطلَ" مجزرة قانا الأولى في نيسان 1996) وعانقتْه والتقطتْ مع الجنود المجرمين الصورَ؛[11] أو أن نتهافتَ في لبنان على حضور حفلاتِ مغنٍّ جهر برغبته في القتال في صفوف الجيش الإسرائيليّ سنة 1967.[12]

ويندرج في هذا الإطار أيضًا التسامحُ مع قضاءِ مُخْرج لبنانيّ 11 شهرًا في تلّ أبيب من أجل تصوير فيلم؛[13] والسماحُ (الذي لم يتحقّق لاحقًا بسبب عمل حركة المقاطعة) بأن تَدْخلَ لبنانَ أفلامٌ لممثّلةٍ إسرائيليّةٍ هي أيضًا ملكةُ جمال "إسرائيل" وجنديّةٌ في جيش الاحتلال إبّان حرب تمّوز 2006؛[14] أو أن تدخلَه أفلامٌ لمُخْرجٍ تبرَّع بمليون دولار لهذا الكيان أثناء الحرب المذكورة -- وكأنّه يُفترضُ بنا أن نفْصلَ بين هذا المُخرج كتقنيٍّ باهرٍ، وبينه كداعمٍ فعليٍّ للقتلة.[15]

5) التطبيع من البوّابة الدينية: كأن يَحْضرَ رجلُ دينٍ لبنانيّ مؤتمرًا لحوار الأديان إلى جانب الحاخام الأكبر السابق للكيان الصهيونيّ؛[16] أو أن يباركَ رجلُ دينٍ لبنانيّ بارزٌ عملاءَ "إسرائيل" الفارّين إلى هناك بعد التحرير سنة 2000 وأن يصلّيَ لهم، وأن يتجوّلَ بحماية رجال أمنٍ إسرائيليين.[17] ويترافق ذلك النوعُ من التطبيع مع تزييفٍ لمقاومة التطبيع بتصويرها وكأنّها معاديةٌ لليهود.

6) التطبيع الإلكترونيّ: طبعًا هناك تعاملٌ من هذا النوع أفضى بأصحابه إلى الخيانة والعمالة (على ذمّة أجهزةِ الدولة الأمنيّة والقضائيّة). لكنّ ما نقصدُه هنا هو أنْ يُجْري بعضُ اللبنانيين "نقاشًا" على وسائل التواصل الاجتماعيّ مع إسرائيليّين، أمثال أفيخاي أدرعي (الناطقِ بالعربيّة باسم جيش الاحتلال)، أو أن يشتموه ويشتموا "إسرائيلَ" نفسَها، متوهِّمين أنّهم بذلك يسجِّلون نقاطًا عليه لصالح المقاومة. والحقيقة أنّه هو الذي سجّل نقاطًا عليهم، في "معركتهم" الوهميّة ضدّه، لأنّهم طبّعوا علاقتَهم به بأن حوَّلوه من عدوٍّ نقيضٍ لحياتهم ووجودِهم إلى مجرّد "مُحاوِرٍ" على نقاطٍ خلافيّةٍ قد تُحلّ بالتفاوض والأخذِ والردّ من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة.[18]

- أو كأن يَستخدم اللبنانيّون موقعًا إلكترونيًّا إسرائيليًّا يسهِّل عليهم بناءَ موقعهم الشخصيّ أو المهنيّ مجّانًا (يا لَسَخاءِ الإسرائيليين!)، لكنّه يعرِِّض معلوماتِهم الشخصيّةَ والمهنيّةَ لخطر التغلغل الاستخباراتيّ الصهيونيّ. [19]

7) التطبيع الرياضيّ: ومن نماذجه في لبنان أن يتعاقدَ نادٍ رياضيٌّ لبنانيّ مع لاعبٍ أجنبيّ سبق أن شارك عدّةَ مواسم في أنديةٍ إسرائيليّة. هنا يبدو لبنانُ، لهذا اللاعب، محضَ مجالٍ للتكسُّب والارتزاق، ولا فرقَ لديه بين أن يلعبَ في صفوفِ قاتلٍ أو ضحيّة. وهنا أيضًا يُرادُ للمشاهدين اللبنانيّين أن يطبِّعوا هذه الصورةَ "المتسامحةَ" في أذهانِهم وقلوبِهم، فيتناسَوْا أنّ هذا اللاعب "لمّع" صورةَ الكيان رياضيًّا، ليُركّزوا على أدائه الرياضيّ الجميل وحده![20]

8) التطبيع الإعلاميّ: ومن مظاهره أن تُذْكرَ "إسرائيل" في بعض نشرات الأخبار اللبنانيّة وكأنّها كيانٌ طبيعيّ (من دون إضافة صفة المحتلّ أو العنصريّ أو الغاصب أو القاتل أو اللاشرعيّ)؛ أو أن تُستخدمَ محطّاتٌ إعلاميّةٌ لبنانيّةٌ منصَّةً لترويج تطبيع العلاقة معه أو لتمرير رسائل إلى المقاومة اللبنانيّة.[21] وقد تندرج في هذا الإطار أيضًا مساواةُ بعض الإعلاميّين "إسرائيلَ" بأيّ نظامٍ عربيٍّ أو إقليميّ، بل أن تُفضَّلَ عليهما، على أساس الخلافات المستجدّة معهما، بدلًا من التركيز على العداء الوجوديّ الصميم للكيان الصهيونيّ.

 

تصدّت حملةَ المقاطعة في لبنان للتطبيع على قدر إمكاناتها المحدودة

 

كلُّ ما ذكرتُه غيضٌ من فيضِ الحالات التي واجهتْ حملةَ المقاطعة في لبنان منذ تأسيسها سنةَ 2002. وقد تصدّت لها الحملةُ، على قدر إمكاناتها المحدودة، بجرأةٍ ودرايةٍ ودقّةٍ، مبتعدةً عن الإثارة الإعلاميّة والغوغائيّة. وطبعًا ما سبق ذكرُه لا يشمل تصدّي ناشطيها الدائمَ لتصريحاتٍ سياسيّةٍ عوجاءَ تتساهل مع "إسرائيل": كقول رئيس التيّار الوطنيّ الحرّ إنْ "لا مشاكلَ إيديولوجيّةً" معها؛ أو كتأكيدِ رئيس الجمهوريّة أنّ ما بيننا وبينها "مشاكل" ولذا فلن نقيمَ "سلامًا" معها قبل حلّ هذه المشاكل.

 

عوائق

أمّا العوائق التي تواجه حملة المقاطعة في لبنان فكثيرةٌ جدًّا، وأحيلُكم - لضيق الوقت - على مقالٍ طويلٍ لي بعنوان: "التطبيعُ في لبنان: أحدَ عشرَ تحدّيًا."[22] لكنّني سأختصرُ بعضَها هنا:

- عدم تفعيل قانون المقاطعة الصادر سنة 1955.

- ضعف "مكتب مقاطعة إسرائيل" التابع لوزارة الاقتصاد.

- طغيان جوّ ليبرالي متغربِن يروِّج أنّ مقاومةَ التطبيع "اعتداءٌ على حرّيّة الفكر."

- انتشار فكر أنجيأوزيّ (من NGOs) يرفض المقاومةَ والمقاطعةَ وأيَّ شيءٍ لا يَخْضع لمسطرة "المجتمع الدوليّ" و"الشرعيّة الدوليّة."

- الأحزاب، ليس فقط اليمينيّة، بل أيضًا بعض أحزاب الممانعة التي تستخفّ بفكر المقاطعة وبجدواها، أو لا تشاركُ في فعّاليّات المقاطعة ومناهضةِ التطبيع كما يجب.

- تغريب طلّاب المدارس عن القضيّة الفلسطينيّة بذريعة أنّ "الفلسطينيّين" كانوا جزءًا من الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1982).

- ضعف إمكانات حملة المقاطعة البشريّة والمادّيّة.

وعليّ أن أضيف إلى التحدّيات التي ذكرتُها في مقالي ذاك ملاحقةَ الفيسبوك وغوغل للحملة، سواءٌ بمنع تطبيقها الهاتفيّ الخاصّ بالشركات الداعمة لكيان العدوّ،[23] أو بتهديدها مؤخّرًا بحجب صفحتها عن الفيسبوك.

وللحديث صلة.

بيروت

 


سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.