(أجراه: بشّار اللقيس)
أفرزت الأحداثُ الأخيرة، الناجمة عن قرار وزير العمل اللبنانيّ كميل أبو سليمان، جملةً من الأسئلة عن العمالة الفلسطينيّة في لبنان، وعن الوضع الحقوقيّ للفلسطينيين فيه. ولئن طفت تلك الأسئلة إلى سطح "الكباش" السياسيّ في لبنان اليوم، فإنّ ثمّة تاريخًا طويلًا من الاشتغال والسجال حولها. ولعلّ ما قامت به "لجنةُ الحوار اللبنانيّ - الفلسطينيّ" في السنوات القليلة الماضية يدفعنا إلى حوار مكثّف وضروريّ مع رئيسها الوزير السابق الدكتور حسن منيمنة.
*المجتمع اللبنانيّ منقسمٌ تجاه قضيّة الوجود الفلسطينيّ في لبنان، بل أحيانًا تجاه القضيّة الفلسطينية بأسْرها. كيف قاربتم الوضعَ الفلسطينيّ عامّةً في "لجنة الحوار اللبنانيّ - الفلسطينيّ"؟
- في البدء، لا بدّ من أنْ نشير إلى أنّ "لجنة الحوار" هيئةٌ تابعةٌ لرئاسة مجلس الوزراء، ويكمن أحدُ أدوارها في أن تقدّم التصوّرات لمساعدة الحكومة على رسم سياساتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين.
وتُعنَى اللجنة أيضًا بأنْ تكون صلةَ الوصل بين اللاجئين وإدارات الدولة اللبنانيّة. فكما تعلم، ثمّة الكثيرُ ممّا يمكن أنْ يكون عالقًا في الدوائر والسجلّات والمديريّات ذاتِ الصّلة بالمجتمع الفلسطينيّ في لبنان، على مستوى السائقين والصيّادين والأونروا مثلًا.
وكانت اللجنة قد بدأتْ عملَها سنة 2005، وترأّستُها شخصيًّا سنة 2014. وكان أوّل ما سعينا إليه هو توحيدُ الموقف اللبنانيّ من قضايا اللجوء الفلسطينيّ، ولو بالحدود الدنيا. لذا عملنا أوّلَ الأمر على تشكيل فريقٍ باسم "مجموعة العمل اللبنانيّ حول قضايا اللجوء الفلسطينيّ،" وهو عبارة عن ممثّلين عن الكتل الأساسيّة في البلد (حزب القوّات اللبنانيّة، وتيّار المستقبل، والتيّار الوطنيّ الحرّ، وحزب الكتائب، والحزب التقدّميّ الاشتراكيّ، وحركة أمل، وحزب الله). ثمّ عقدنا نقاشاتٍ مفتوحةً على مدى سنتين، وتوصّلنا إلى وثيقة عمل عن قضايا اللجوء الفلسطينيّ في لبنان، وأصدرنا خمسَ توصياتٍ ملحقةٍ بها، رفعناها جميعَها إلى مجلس الوزراء، على أمل أن تُقرَّ حتّى يُبدأَ العملُ بها.
"لجنة الحوار" هيئة تابعة لرئاسة الوزراء، وصلة الوصل بين اللاجئين وإدارات الدولة
الأمر الثاني هو التعدادُ السكّانيُّ الذي قمنا به، وهو أهمُّ مسحٍ سكّانيّ جرى في تاريخ لبنان الحديث. فكما هو معلوم، ثمّة أزمةٌ في لبنان مع علم الإحصاء، وتعود بجذورها إلى تاريخ التأسيس السياسيّ للبنان. لكنّنا، مع بدء اجتماعاتنا كمجموعة عمل، وقبلها كـ"لجنة حوار،" صرنا نستشعر أهمّيّةَ الإحصاء السكّانيّ في أيّ نقطةٍ من نقاط العمل ذاتِ الصّلة. ولأنّنا لم نكن نعرف بالضبط عددَ الفلسطينيّين المقيمين في لبنان، فقد أصدرنا توصيةً (من ضمن التوصيات الخمس التي أقرّتها مجموعةُ العمل اللبنانيّة سنة 2015 في وثيقة رؤية لبنانيّة موحّدة لقضايا اللجوء الفلسطينيّ في لبنان) بإجراء التعداد، وكُلّفتْ به الإدارةُ الرسميّةُ المختصّة في لبنان، وهي إدارةُ الإحصاء المركزيّ اللبنانيّ، بالإضافة إلى إدارة الإحصاء المركزيّ الفلسطينيّ.
استغرق هذا التعدادُ سنتين من العمل. وكنّا جادّين جدًّا في محاولة ضبط الأرقام بشكلٍ كلّيّ. فجاءت الإحصاءات لتؤكّد، إضافةً إلى المخيّمات الـ12، وجودَ نحو 156 تجمّعًا سكّانيًّا فلسطينيًّا في لبنان، بإجماليٍّ تعدادُه 174442 نسمة. وهذا التعداد أظهر مجموعةَ حقائق، منها الأرقامُ المتباينةُ بين ما هو مسجّلٌ في الأونروا، وما هو فعليّ على أرض الواقع. والفارق الرقميّ يكمن في أنّ هذا الإحصاء لا علاقةَ له بالمسجَّلين لدى الأونروا، أو في دوائر الدولة اللبنانيّة. فالموجودون من الفلسطينيين على الأرض اللبنانيّة أقلُّ عددًا من المسجَّلين في الدوائر الرسميّة. وسببُ حفظ كلّ أسماء اللاجئين الفلسطينيين في الدولة هو أنّ هذه السجلّات قد تكون المستندَ الوحيدَ الذي يحفظ حقَّ الفلسطينيّ في الوجود وفي العودة إلى أرضه.
في الشهر المقبل سنقوم بنشر دراسة مهمّة للوقوف عند الأرقام الخاصّة بالإحصاء الذي أجريناه، تحت إشراف خبير هنديّ ودوليّ مختصّ بهذه المسائل.
*لنبتدئْ، سعادةَ الوزير، من الأزمة الأخيرة، وأعني قرارَ وزير العمل اللبنانيّ بخصوص العمالة الفلسطينيّة. ما الذي جرى؟ ولماذا كلّ هذه التأويلات لقانون العمل ووضع الفلسطينيّ فيه؟
- في العام 2010 صدر تعديلٌ لقانون العمل اللبنانيّ، اعترف بخصوصيّةٍ للّاجئ الفلسطينيّ؛ وهذه نقطة أولى مهمّة في الحقيقة. فبموجب قانون العمل اللبنانيّ ما قبل التعديل، كانت الدولة اللبنانيّة تشترط مبدأ "المعاملة بالمثل" على كلّ العمال الأجانب. ولمّا كان الفلسطينيون لا يملكون دولةً مُعترفًا بها بشكلٍ رسميّ دوليًّا، فقد ألغى التعديلُ ذلك المبدأ.
أما النقطة المهمّة الثانية فهي أنّ هذا القانون أعفى الفلسطينيّين - - وليس كلّ العمال الأجانب - - من الرسوم المتوجّبة عليهم للاستحصال على إجازة العمل.
عمليًّا، اعترف هذا القانونُ بخصوصيّة العامل الفلسطينيّ نتيجةً لوضعه الاستثنائيّ؛ وهذه الخصوصيّة محقّةٌ في رأيي. عدا عن أنّ صفة الفلسطينيّ الأساسيّة هي صفة "لاجئ"؛ وهذه الصفة تمنحه خصوصيّةً على مستوى القوانين المنظِّمة لحقوق اللاجئ وواجباته، المعترفِ بها من الأمم المتحدة.
غير أنّ القانون، من جهةٍ أخرى، طلب إلى اللاجئ الفلسطيني الحصولَ على إجازة عمل. والقانون هذا، مثله مثل أيّ قانون آخر، بحاجةٍ إلى مرسوم تنظيميّ صادر عن مجلس الوزراء، أو إلى تعميم من الوزير يُصْدره بقرار وفقًا للقانون العامّ، ويبيّن فيه آليّات تطبيق القانون. وكان من الأفضل في هذه الحالة أن يكون هناك مرسومٌ يُلزم كلَّ الدوائر والإدارات المتتالية بنحوٍ موحّدٍ باعتماد سياسات تنفيذيّة محدّدة، كي لا يبقى الموضوعُ رهنَ المزاجيّة والاجتهادات الخاصّة بكلّ وزير في هذا الموضوع. لكنّ ذلك لم يحصلْ منذ العام 2011 إلى اليوم.
أمّا الوزير الحاليّ، فقد جاء ليقول إنّه يريد أن يطبّق القانون. وهذا ما لا اعتراضَ لنا عليه. ونحن في "لجنة الحوار" أصدرنا، كما أشرتُ، مجموعةَ توصيات سنة 2015، من بينها توصيةٌ لمجموعة العمل اللبنانيّة، بمشاركة القوى السياسيّة اللبنانيّة كلِّها، تؤكّد ضرورة تطبيق القانون. وإذا قرأتَ التوصية فستعرف أنّها الحلُّ الأكيدُ للأزمة الراهنة، على الرغم من أنها طُرحتْ آنذاك ولم يكن هناك أيُّ مؤشِّر لحصول أزمة بين الأطراف المختلفة.
إذًا، نحن لسنا ضدّ تطبيق القانون. لكنّ القانون يستوجب إمّا اصدار تعميم خاصّ من الوزير، أو مرسوم تنظيميّ يتضمّن عناصرَ واضحةً مثل شرائط الحصول على إجازة العمل (إخراج قيد، بطاقة صحيّة،...). والغاية من الأمر وضعُ جملة من المسائل التي تسهِّل للعامل من أبناء المخيّمات دخولَه سوقَ العمل، أو تشرّع له دخولَ هذه السوق من دون عوائق، ولا تمنعه من حقّه في ممارسة حياته الإنتاجيّة.
الوزير يريد تطبيق القانون، وهذا يستوجب تقييمًا أو مرسومًا
لذا كان ينبغي عند الشروع في مسألة تنظيم العمل الفلسطينيّ، أو تفسير قانون عمل اليد العاملة الفلسطينيّة، الالتفاتُ إلى خصوصيّة الواقع الفلسطينيّ، وعدمُ شمول الفلسطينيين ضمن غيرهم من الجنسيّات الأجنبيّة في لبنان.
كما كان ينبغي الانتباهُ إلى أنّنا إذا طبّقنا قانونَ العمل، بما في ذلك الحصول على عقد عمل مسبّق، فإنّنا سنمنع الفلسطينيَّ عمليًّا من العمل. فعقدُ العمل تتجنّبه الكثيرُ من المؤسّسات الاقتصاديّة الصغرى (محلّات البقالة، صنائع العمل اليوميّ،...)، بل المتوسّطة أيضًا، نظرًا إلى ما يُلزمها من شرائطَ ثقيلةِ الوطأة: لناحية التسجيل في الضمان، ودفع الاشتراكات المتوجّبة، والتصريح عن الموظّفين، وتطبيق الحدّ الأدنى للأجور عليهم، وغير ذلك. فكأنّنا نقول لربّ العمل اللبنانيّ: "لا تشغّل الفلسطينيّ" أو "سندفّعك الأثمانَ الغاليةَ إنْ شغّلتَ اللاجئَ الفلسطينيّ!"
لذا نحن نقول إنّنا نريد صيغة توفيقيّة. وهذا ما نادينا وننادي به في "لجنة الحوار" منذ العام 2015. والحقيقة أنّه إذا وُجدتْ صيغةٌ توفيقيّةٌ، كالتي أعددناها في لجنة الحوار بصيغة مشروع مرسوم تنظيميّ لقانون العمل، خاليةٌ من الصيغ التعقيديّة، فإنّ الأزمة ستُحَلّ.
مسألة أخرى تترتّب على خصوصيّة العامل الفلسطينيّ التي اعترفنا بها، وهي مسألةُ الإقامة. فإذا كانت الحكومة تشترط على الأجنبيّ إجازةَ العمل من أجل إقامته، فإنّ تطبيقَ القانون على الفلسطينيّ باعتباره عاملًا أجنبيًّا يعني إلغاءَ وضعيّتِه أو امتيازِه القانونيّ كلاجئ؛ الأمرُ الذي يربط الإقامةَ الخاصّةَ به على الأراضي اللبنانيّة بعقد العمل - - وهذا يعني عمليًّا إسقاطَ الإقامة منه.
وعليه، فإنّنا أمام خياريْن: 1) إمّا أنْ نحترم خصوصيّة الفلسطينيّ، أيْ خصوصيّة اللجوء. وهذا يفرض احترامَ كلّ ما له صلة بهذا الشأن. 2) وإمّا أن نحدّد ضوابطَ لتأويلنا القانون من خلال مرسوم صادر عن مجلس الوزراء.
*كثر الحديث عن المِهن الممنوعة على الإخوة الفلسطينيين: بين مَن يقول إنّ عددَها يقارب السبعين، ومَن يقول إنّ عددها لا يتجاوز الأربعين. هل الفلسطينيّ ممنوع من مهن محدّدة حقًّا بموجب قانون العمل؟
- هذه تخضع لتأويلات الوزير للقانون، وغالبًا ما تخضع المسائل لتأويلات الوزراء. لكنْ هناك مسألتان يجب التفريقُ بينهما:
المسألة الأولى هي المِهن الحرّة (أطبّاء، مهندسون، محامون،...). بعض هذه المهن تمنع قوانينُها الداخليّةُ الأجنبيَّ من مزاولة المهنة. ومعالجة هذا الأمر تحتاج إلى الحوار الجادّ مع النقابات المعنيّة، لا مع الدولة.
أما المسألة الثانية، فتشمل الوظائف خارج نطاق المهن أعلاه. هنا، الوزير هو المعنيُّ الأوّلُ بتحديد المهن التي يستطيع الفلسطينيُّ العملَ فيها.
في رأيي أنّ الهواجس من قوّة اليد العاملة الفلسطينيّة وحجمِها مسألةُ ابتزازٍ سياسيّ لا أكثر. نحن في "هيئة الحوار،" عندما أجرينا مسحًا دقيقًا لقوّة اليد العاملة الفلسطينيّة وحجمها (شملت الدراسة الفلسطينيين الذين تتراوح أعمارُهم بين 15 و64 عامًا)، تبيّن لنا أنّ عددَ العاملين من الفلسطينيين لا يتجاوز 60 ألفًا من أصل ما يُقارب 175 ألف فلسطينيّ مقيم في لبنان! وإذا ما وزّعنا هذا العدد على عشرات المهن، بل مئات المهن، فلن يكون الرقمُ مؤثّرًا على نحو كبير في سوق العمل واتجاهاته. الرقم المطروح صغير جدًّا إذا ما قيس بسعة استيعاب السوق اللبنانيّة، أو لناحية تأثيراته التنافسية والاقتصاديّة في وضع العمالة اللبنانيّة.
*هل يؤثّر عملُ الفلسطينيين في وضعهم القانونيّ لدى الأونروا؟ هل لأيّ تغيير في وضعهم القانونيّ أيّ تأثير في وضعهم الحقوقيّ كلاجئين؟
- تُعتبر مسألتا الإغاثة وتشغيل الفلسطينيين مهمّتَي الأونروا الأساسيّتين، إلى جانب حمايتهم كلاجئين. لكنّ الأونروا حصرتْ عملَها في الغوث، بل اقتصرت عمليّاتُها في هذا المجال نفسه على الحدود الدنيا من متطلّبات المعيشة والطبابة والتعليم.
أمّا على مستوى التشغيل، فالأونروا لا تمتلك القدراتِ المادّيّةَ لتشغيل عموم الفلسطينيين؛ وهذا الأمر كان ولا يزال على حاله منذ 70 عامًا. والمشكلة أنّ أزمات الأونروا تتفاقم يومًا بعد آخر على المستوى الماليّ؛ وآخرُها كان الانتقالَ الأميركيّ من التهديد إلى وقف المساهمة في تمويل الاونروا، فضلًا عن العمل على إنهاء وجودها أصلًا. لذا بتنا نرى اليوم انخفاضًا ملحوظًا في كمّيّة الخدمات المقدَّمة من الأونروا ونوعيتها؛ ففي قطاع التعليم مثلًا، وصل عددُ الطلّاب في الصف الواحد إلى نحو 50 تلميذًا، بداعي "تقليص النفقات."
*هل قمتم بأيَّ دراسة استشرافيّة في ما لو أُنجزتْ "صفقة القرن" وتأثير ذلك في فلسطينيي لبنان؟
- نحن نعمل حاليًّا على الإعداد لمثل هذه الدراسة. لكنّ الأمر يتطلّب قدرات كبرى وهيئات ولجانًا متنوّعة: قانونيّة، ودستوريّة، وثقافيّة، وتقنيّة. كما أنّنا نعمل ضمن مسؤولياتنا على إعداد كلّ ما من شأنه رفد الحكومة اللبنانيّة بالتوصيات اللازمة للبتّ بمثل هذا الموضوع.
بيروت