يُثْبت الإعلامُ الإسرائيليّ، في كلّ محطّةٍ مفصليّة ومواجهةٍ جديدةٍ يخوضها شعبُنا مع الاحتلال، أنّه إعلامٌ مُجنَّدٌ لخدمة الرواية الرسميّة الإسرائيليّة، التي يعمل على تبريرها والدفاعِ عنها؛ كما تغيب عنه الرؤيةُ النقديّة، والتوازنُ في عرض رواية الطرف الآخر.
"إضرابُ الحرّيّة والكرامة" نُظِر إليه إسرائيليًّا على أنّه تحدٍّ لإسرائيل، وإضرابٌ سياسيّ موجّهٌ داخليًّا ضدّ السلطة. وكلُّ هذا من أجل تنصّل "إسرائيل" من مسؤوليّتها، وممّا قد يحدث نتيجةً لقمعها وتنكّرها لمطالب المضربين، ومن أجل تهيئة الرأي العامّ الإسرائيليّ لعدم مقاربة هذه المطالب من زاوية إنسانيّةٍ حقوقيّة تتّسق مع القانون الدوليّ.
استبَقَتْ دولةُ الاحتلال الإضرابَ بالإعلان عن نيّتها عدمَ الرضوخ والتفاوضِ مع الأسرى. ونشر الإعلامُ الإسرائيليّ أكثرَ من تعميم في هذا التوجّه، مع أخبارٍ عن توجّهٍ إلى مساءلة كلّ إسرائيليّ يحاول أن يخرجَ عنه. لم نشهدْ طوال الإضراب تقريرًا إسرائيليًّا واحدًا عن ظروف الاعتقال التي يعيشها الأسرى، ولم نسمعْ صوتًا إسرائيليًّا واحدًا يعبّر عن رسالتهم ومطالبهم ويردّ على حملات التحريض والشيطنة الموجّهة ضدّهم. بل سيطر على الإعلام الإسرائيليّ استعراضٌ واسعٌ وشاملٌ لمديريّة السجون ولمواقف وزير الأمن الداخليّ. وجرى التركيزُ على ما وُصفَ بـ"جرائم" هؤلاء الأسرى، وما "ارتكبوه" من أعمال ضدّ إسرائيل؛ وكأنّ الإعلامَ المذكور يبرّر بذلك إعدامَهم البطيء، ويشرعن الوحشيّةَ المستخدمةَ ضدّهم. أكثر من ذلك: رأينا التغطيةَ المشبعة بالفخر (تزامنًا مع احتفالات "عيد الاستقلال" الإسرائيليّ المزعوم) لوحدات القمع "المختارة" في مصلحة السجون، وعلى رأسها "قوّةُ متسادا"؛ بل فُتحت السجون أمام المحتفلين، وجرت حفلاتُ شواء بالقرب منها.(1)
ولا يكتفي الإعلامُ الإسرائيليّ بالترويج للرواية الإسرائيليّة وتبريرها وحسب، بل يعمل أيضًا على منع إيصال الرواية الأخرى إلى الشارع الإسرائيليّ والعالم، وعلى طمسها وتشويهها. ولا يتوانى في ذلك عن أن يهاجم وسائلَ الإعلام التي تحاول تقصّي الحقيقة.
يقابِلُ ذلك، للأسف الشديد، غيابُ خطابٍ موحّد، واستراتيجيّة إعلاميّة توازن تلك الصورة الإسرائيليّة المنحرفة، وتُعلي صوتَ الأسرى، وتُبرز جرائمَ "إسرائيل" ولاقانونيّةَ التنكيل في حقّ الأسرى ــــ سواء في الإضراب أو قبله.
وهذا ربّما يفسّر النجاحَ النسبيّ الذي تحقّقه "إسرائيل." فهي، عبر العمل المتواصل، تهيّئ الرأيَ العامّ لتقبّل روايتها وتبريرها. أمّا روايتنا نحن فتُثار في "الأزمات" فقط، من دون خلفيّات كافية، أو من دوك تهيئة جيّدة، أو أرضيّة صلبة تنطلق منها لتخاطب عقلَ المتلقّي ووعيَه ــــ مهما كان موقعُه ــــ بلغة مهنيّة وحقوقيّة، وعلى قاعدة نشر الحقائق وفضحِ "إسرائيل" وسياساتها التمييزيّة المنهجيّة.
كما أنّنا لم نجد مَن يتحدّى هذا الإعلامَ، فلسطينيًّا وعربيًّا، ويحاول أن يخترقَه في الوصول إلى الرأي العام الإسرائيليّ، وإثارته ضدّ مؤسّساته، وكشف أكاذيبها وتضليلها؛ ذلك لأنّه لا يوجد عددٌ كافٍ من الناطقين باللغة العبريّة في المؤسّسات الرسميّة العربيّة. وهذه المؤسسات لا تنشر الحقائقَ بأسلوبٍ يحاكي المتلقّي الإسرائيليّ، ويقدر على أن ينفذ إلى وعيه بلغة العدوّ. كذلك لا توجد مواقعُ أو إذاعات أو محطّات إخباريّة باللغة العبريّة يمكنها أن تزعزع قناعات الإسرائيليّ، وتهزَّ رواية مؤسّسته الرسميّة.
ليس كافيًا أن ننتقد الإعلام الإسرائيليّ، بل المطلوب الاستفادةُ من هذه الخلاصات والخروج بقرارات فعّالة وجدّيّة، تعكس توجّهًا استراتيجيًّا بتحدّي الرواية الإسرائيليّة ودحضها أمام العالم، وأمام الإسرائيليّ نفسه. وهذه مهمّة متروكة للأسف، ولا نكتشف الضررَ الفادحَ الذي يصيبنا جرّاء ذلك الترك سوى في الأزمات.
رام الله
1- انظر مثلا:
https://www.facebook.com/MiddleEastEye/videos/1353238094741575/?pnref=story