لم أقرأ شعرَها كما يجب حتى الآن. لكنّها تكتب كلَّ يوم تقريبًا، وتغدِق نصوصَها (أو ما تظنّه خلاصات) على صفحات الوجهِ الأزرق البارد: الفيسبوك.
نور صفيّ الدين شاعرة وصحافيّة لبنانيّة، تعمل مشرفةً على موقع مجلة الآداب منذ شهور، وتنجز رسالةَ الماجستير بعنوان: تغيّر شكل التديّن لدى الشباب في مجتمعاتنا... ولها مجموعتان شعريّتان أيضًا: أردتُكَ عندما رحلتَ، وحين تراكم الموتُ ولم يأتِ.
فقدتْ نور والدَها وأختَها في عامٍ واحد: الوالد قُتل في حادث سرقةٍ في أفريقيا، والأختُ رحلتْ في حادث سيرٍ اعتادته طرقُ لبنان.
لكنّ نور لم "تمتْ" معهما، بل راحت تسابق الزمنَ، متّخذةً من الركض في شوارع بيروت، قرب البحر، ملاذًا ممكنًا لحياةٍ ما:
"عم بركض لكفّي، ولخلّي الحياة تضحكْلي ولو بكّتْني؛ أو فعليًّا لحتّى ما مُوتْ من بعد ما صارت فكرة الانتحار تتنفّس بقلب راسي، وتاكل كلّ أحلامي، لصار كلّ عِرْق فيّي عم يلفّ ع رقبتي. يمكن لو ما عم حارب، كنت من زمان صرت مع يلي بحبّن بعالَم تاني."
كأنّ الموت، إذ يَقصم ظهرَنا حينًا، يغدو مصدرَ قوةٍ واندفاعٍ وحياةٍ حينًا آخر. لكنْ، إذا كان المتعَبون "لا يموتون دفعةً واحدةً،" كما تقول نور في أحد منشوراتها على الفيسبوك، فإنّهم لا يولَدون إلّا على دُفعات: من سردٍ، وتنهيداتٍ، وإحساسٍ بالأمل بعد الإحساس بلاجدوى الحياة.
من ديوان صفي الدين بعنوان "أردتك عندما رحلت"
لي تجربةُ فقْدانٍ لم أفقهْ كُنْهَها حتّى اليوم: تلك الساعة التي أدركتُ فيها موتَ أختي قبل سنوات. نور الهدى طفلةً كانت؛ قصيدةً؛ تُغنّي، تَلعب، تَضحك. لا أذكر تلك التجربةَ إلّا وأذكرُ دمعي وقد احتبس في قلبي أيّامًا طويلة.
أَدركَ الموتُ نورَ الهدى رويدًا رويدًا، فنال منّا جميعًا: أنا وأمّي وأبي وشقيقتي الأخرى وعائلتي كلَّها. عايشتُه لحظةً بلحظة: من لحظةِ فقدانها الإحساسَ بأعضائها، يومًا تلو يوم، إلى أن أتى على جسدها كلِّه.
لقد ذَهَبتْ نورُ الهدى إلى حياتها الأخرى، أو إلى عدمها. وتركتني أكتبُ هذا الرثاءَ، لها ولكلّ الموتى، كوالدِ نور وشقيقتِها.
***
لم أجرّبْ موتي بعد. ولم يجرِّبْ حيٌّ موتَه بعد. ما جرّبناه، جميعُنا، هو موتُ الآخرين: رحيلُهم، واصطفافُنا لوداعهم من دون إذنٍ منهم، ومن دون أن ندركَ إنْ كانوا يبكون علينا أو يضحكون لنا.
ودّعتُ شقيقتي في قبرها. كنتُ وحدي معها، وكانت وحدها تراني كيف أشتعل هجرًا ــ ــ في برزخٍ بين الوجود والعدم، أو بين العدم والعدم، نحو سكينةٍ بهيجةٍ، أو ضجيجٍ ضجر.
***
في معظم الكتابات التي تتناول الموت، وضمنها ما كتبته صفيّ الدين، حياةٌ تسير من الكلام إلى الصمت. فغالبًا لا يكون العدمُ عمادَ الكلام، بل تحريضٌ على السؤال المضني عن الأنا، بكلّ تجلّياتها البهيّة. تقول:
"تقفل العتمةُ نافذتَها على القمر،
ويَسْكر السوادُ من كثْرِ قتامته.
سريرُنا حبيسُ التعب،
وأجسادُنا جثثٌ تتقيّأ ما تبقّى من ذاكرةِ اللمس.
ألهثُ غبارَ رئتيّ
في تَهجئةِ اسمك.
يُشْبه الأملُ في انتظارِك
منجلًا يَحرثُ في العروق
سُنبلةً."
النقطة التي وردتْ بعد كلمة "سنبلة" في نصّها هذا ليست إنهاءً للنص، ولا افتتاحًا جديدًا له؛ إنها ــــ كما أظنّ ــــ بديلُ استيضاح، كالسؤال الذي يطرحه مريدٌ على شيخه في التصوّف. هذا السؤال الذي أفترضه، كما غيرُه من الأسئلة التي يمكن إيجادُها في نصّ صفيّ الدين، محاولةٌ لخلق حكمةٍ أحيانًا، أو حيرةٌ في أكثر الأحيان ــ ــ لديها أولًا، ولدى من يقرأها ثانيًا.
وما سأوردُه من نصّ صفي الدين محاولةٌ لإكمال ما قلته أعلاه: "كيف لنا أن نكبحَ رغبةَ الشوق في التمدّد؟ كيف لنا أن نلتقطَ الشوقَ من عنقه كي يحتضر؟ يجيبني الشوقُ أنّه من دونِه تموتُ الذاكرة."
هل تجربةُ الموت هي التي أثْرت نصَّ صفيّ الدين؟ أمْ أنّ الموت هو الذي هيّأ نفسَه للقدوم إلينا كي يقدّم مُرافعةً كافيةً لتقديم الأعذار عن فعلته اللئيمة ــ ــ فِعلَتِه التي ردّتنا إلى الولادة، إلى حقيقةِ أنّ ما بعد الموت معجزةً تنتظرنا، سندركها، لكننا سنتوقّف عن السرد، فنترك لبقيّة الأحياء أن يتعلّموا الدرسَ في كتاباتهم وضحكاتهم ورقصاتهم ونضالاتهم وهمساتهم للبحر، كما للموت، الذي وصفه محمود درويش بأنّه كان "...أَبطأَ/ كان أَوْضَح/ كان هدْنَةَ عابرين/ على مَصَبِّ النهر"؟
هل الموت هدنةُ حربٍ نُمضي حياتَنا في التمرّن على خداعها؟ سأعتبر أنّ الحياة تجربةٌ للنصر كما روتها نور: "أكاد ألمسُ يدَ الموت على عنقي/ عنقي هو الموت/ اليدُ هي الحياة/ فلتخنقْني هذه اليدُ، علّه يموت فيّ الموت."
سيموت الموتُ لئلّا يَسعدَ بانتصاراته المتواصلة علينا. وحتى إعلان هذا النصر، سأكتفي بهذه الكتابة... وبالدعوة إلى الحياة.
بيروت