مع مرور حوالى نصف قرن على هزيمة الخامس من حزيران 1967، من المفيد أن نعود إلى سلسلة الحروب العربيّة ـــ الإسرائيليّة لقراءتها، ودراسةِ متغيّراتها من حربٍ إلى أخرى، ومحاولةِ استخلاص دروسها من أجل دراسة مستقبل الصراع العربيّ ـــ الإسرائيليّ ومآلاته. ذلك أنّ كلًّا من هذه الحروب، بدءًا بالحرب الأولى سنة 1948 وحتى يومنا هذا، جاءت مختلفةً عن الأخريات، سواء من حيث الظروف التي أحاطت بها، أو من حيث أداءُ الجانب العربيّ فيها.
ففي الحرب الأولى بين العرب والعصابات الصهيونيّة في فلسطين سنة 1948 دخلت الجيوشُ العربيّةُ الحربَ من دون أيّ إرادةٍ سياسيّةٍ لدى القيادات العربيّة الحاكمة آنذاك في خوض مواجهةٍ حقيقيّةٍ لمنع اغتصاب فلسطين. وقد انعكس انعدامُ الإرادة على سوء تهيئة هذه الجيوش، ومن ثمّ على سوء أدائها أثناء هذه الحرب التي انتهت بالنكبة. وكان هذا الأمر من أهمّ الأسباب التي حَدَت بجمال عبد الناصر إلى القيام بثورته والقضاء على النظام الملكيّ الفاسد في مصر سنة 1952.
بحلول عبد الناصر في السلطة لم تنوجد إرادةُ مواجهة "إسرائيل" فحسب، بل إرادةُ ممارسة الاستقلال الحقيقيّ في وجه الولايات المتحدة الأميركيّة أيضًا، وهي التي لم تكن لترضى بأقلّ من التبعيّة التامّة لها. وقد خاض عبد الناصر معركةً مستمرّةً طوال فترة حكمه من أجل التنمية الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة في الداخل المصريّ، ومن أجل الحفاظ على دور مصر القياديّ والمستقلّ في الوطن العربيّ وفي العالم الثالث برمّته؛ كما سخّر الدورَ المصريّ المذكور لمواجهة "إسرائيل" والولايات المتحدة، مستغلًّا الـتوازنَ الدوليّ الذي حكم العالمَ في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
لكنّ هذه المعركة المستمرّة اضطرّت عبد الناصر إلى "إطفاء الحرائق" الداخليّة والخارجيّة بشكلٍ دائمٍ، ومنعتْه من بناء نظامٍ قائمٍ على مؤسّساتٍ حقيقيّةٍ للدولة في مصر. فارتبطتْ كلُّ أجهزة الدولة بشخص عبد الناصر، أو بأشخاصِ مَن ولاّهم على بعض القطاعات. وكانت النتيجة أنّ مشروعه لمواجهة "إسرائيل،" بل المشروعَ الناصريَّ بأكمله، عانى عدمَ الإعداد الجدّيّ للجيش المصريّ كي يتمكّن من أداء دوره، إذ يبدو أنّ موازين القوى التي نشأتْ داخل النظام الناصريّ ـــ بعد الصراع الذي حصل مع محمد نجيب في بدايات الثورة ـــ أجبرتْ عبد الناصر على ترك الجيش المصريّ في يد مجموعةٍ من الضبّاط الذين بلغ بهم الفسادُ حدًّا لم تعد معه مواجهةُ "إسرائيل" عسكريًّا مسألةً مطروحةً لديهم. وعندما وقعت الحربُ في الخامس من حزيران تُرك الجنودُ المصريّون في صحراء سيناء لمصيرهم، وتحوّلتْ هذه الحرب إلى مجزرةٍ بشعةٍ ومُذلّةٍ في حقهم، وفي حقّ سلاح الطيران المصريّ الذي "أبيدت" طائراته وهي مرصوفةٌ على الأرض من دون أيّة حماية (سيَكتب الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكّراته أنّ مصر كانت "محظوظةً" يومها لأنّ إبادة الطائرات على الأرض عنت عدمَ خسارتها هي وطيّاريها معًا لو كانت في الجو).
إذن، ما واجهه عبد الناصر في فلسطين سنة 48 مع الجيش المصريّ في العهد الملكيّ، عاد وواجهه في سيناء مع جيشه هو في العام 67. وأيًّا كانت الأسبابُ التي أجبرته على تسليم الجيش المصريّ إلى المجموعة الفاسدة المذكورة، فإنّ طبيعة النظام الناصريّ توجب القول إنّ المسؤوليّة الكاملة في هذا الموضوع تقع على عاتق عبد الناصر شخصيًّا ـــ وقد تحمّلها فعلًا عندما تقدّم باستقالته غداة الكشف عن الهزيمة، قبل أن تعيدَه جماهيرُ الشعب المصريّ إلى السلطة؛ وتحمّلها أيضًا عندما أقدم فورًا على محاسبة مجموعة الضبّاط المسؤولة عن انحلال الجيش المصريّ في الحرب وضرب نفوذَهم دفعةً واحدةً.
لكنّ عبد الناصر مضى أبعدَ من ذلك بكثير. فقد تجلّت الإرادة السياسيّة لديه للمضي حتى النهاية في مواجهة "إسرائيل" بعد الهزيمة من خلال تأمينه إجماعًا عربيًّا على رفض مجرّد التفاوض معها. كما عمل على إعادة بناء الجيش المصريّ بواسطة قياداتٍ من نوعيّة الفريقين عبد المنعم رياض ومحمد فوزي، بحيث تمكن الجيشُ المصريّ من الدخول في حرب الاستنزاف خلال سنة واحدة من الهزيمة؛ كما تمكن من عبور قناة السويس والانخراط في حرب تشرين بعد ذلك بستّ سنوات.
لكنّ حرب تشرين 73 جرت في ظروفٍ معاكسةٍ تمامًا لحرب حزيران 67. ففي حرب 73 تمتّع الجيشُ المصريّ بالإعداد الجدّيّ بقيادة الفريق الشاذلي، وتمكّن من الإبلاء بلاءً حسنًا، وبخاصّةٍ في النصف الأول من الحرب. لكنّ مصرَ أنور السادات، الذي خلف عبد الناصر سنة 1970، عانت انعدامَ الإرادة السياسيّة للمواجهة مع العدوّ، بل عانت قرارَ السادات المسبّق بإنهاء هذه المواجهة بأيّ ثمن. وبالرغم من أداء الجيش المصريّ الجيّد نسبيًّا، فقد أنهى السادات حربَ تشرين بإطلاق مسار "الصلح" المنفرد مع العدوّ وخروج مصر من الصراع العربيّ ـــ الإسرائيليّ.
غير أنّ هذا الصراع لم يتوقّف على الرغم من استغلال "إسرائيل" لخروج مصر منه عبر محاولة إنهاء المقاومة الفلسطينيّة صيف العام 1982. فإن نجح الاجتياحُ الإسرائيليُّ للبنان في إنهاء هذه المقاومة بشكلها العسكريّ المعروف يومها، فإنّه أدّى إلى خروج أشكال جديدة من المقاومة بقيتْ ناشطةً حتى أواخر الثمانينيّات. ومع انخراط حزب الله في المواجهة العسكريّة مع "إسرائيل" بدأتْ تظهر، لدى الجانب العربيّ لأول مرّة، آثارُ التكافؤ: ما بين الإرادة الحقيقيّة للمواجهة، والإعداد العسكريّ الجديّ لها. ففي هذه المواجهة، التي بدأتْ في نهاية الثمانينيّات ومازالت مستمرّة، التقت الإرادة الحقيقيّة والقيادة الجدّيّة الصلبة مع الإعداد الممتاز للمقاومة ككلّ، ومع الاهتمام الشديد بتهيئة الظروف الكفيلة بتمكين المقاوِم من إعطاء أقصى ما يمكن إعطاؤه في المعركة. وقد ظهرتْ نتائجُ هذا الأمر في العمليّات المعقّدة التي واظبت المقاومةُ على شنها ضدّ الجيش الإسرائيليّ في جنوب لبنان حتى انسحب من دون قيد أو شرط ربيعَ العام 2000، في سابقةٍ لم يشهدها الصراعُ العربيّ ـــ الإسرائيليّ من قبل ولم تتكرّر من بعدها حتى الآن.
أما قمّة أداء حزب الله فقد كانت في حرب تمّوز 2006. فقد واجه الجيشُ الإسرائيليُّ هنا عدوًّا لم يقابلْ مثله منذ قيام "إسرائيل" في العام 1948، وأثبتت المقاومة أنّها تتمتّع بمستوًى رفيعٍ من الحِرَفيّة يوازي مستوى أيّ جيشٍ محترفٍ في العالم. وأظهرت هذه الحربُ اعتمادَ المقاومة على المقاتل الفرد، سواء على مستوى قدراته التقنيّة واستيعابه للوسائل التكنولوجيّة المتطوّرة، أو على مستوى ثبات إرادة القتال لديه. وهذا ما مكّن المقاومةَ من الصمود حتى نهاية الحرب، ومن توجيه الإهانة الشديدة إلى الجيش "الأقوى في الشرق الأوسط." ولعلّ مردّ هذه الإرادة الثابتة للقتال عند مقاومي حزب الله يعود إلى العلاقة الوطيدة والاحترام المتبادل بين هؤلاء المقاومين وقيادة حزبهم.
لكنّ حزب الله، بعد تألّقه في مواجهة العدوّ بشكلٍ لم يسبقه اليه أيُّ جيشٍ عربيّ منذ العام 1948، وقع في مطبٍّ لم يكن في الحسبان قبل اندلاع الحرب الأهليّة المذهبيّة في المشرق العربيّ. فقد تورّط، بدفاعه عسكريًّا عن النظام السوريّ الاستبداديّ، في المواجهة المذهبيّة المقيتة الدائرة في المنطقة منذ أكثر من أربع سنوات، فتصدّعتْ، أمام الرأي العامّ العربيّ، صورتُه كمقاومةٍ رادعة وكقوّة توازنٍ نسبيّ في وجه "إسرائيل،" وتحولتْ لدى جزء كبير من هذا الرأي العامّ ـــ للأسف الشديد ـــ إلى قوّةٍ مذهبيّةٍ مدافعةٍ عن الاستبداد. والمقلق أكثر في الموضوع هو احتمالاتُ التأثير السلبيّ لاشتراك حزب الله في الحرب السوريّة في ميزان الردع الحقيقيّ بين الحزب والعدوّ الإسرائيليّ.
***
إنّ النتيجة الأساسيّة التي يتبيّنها المرءُ من العودة إلى شريط الحروب العربيّة ـــ الإسرائيليّة، منذ العام 1948 وحتى يومنا الحاضر، هي أنّ الهزيمة ليست قدرًا عربيًّا، وأنّ إمكانات الصمود بوجه "إسرائيل،" بل والانتصار عليها في المدى البعيد، هي إمكاناتٌ حقيقيّةٌ ومتاحة. ويبيّن هذا الشريط أيضًا أنّ الجانب العربيّ يتطوّر في الاتجاه الصحيح مع الوقت، كما ظهر بوضوح في حرب تمّوز 2006. لكنّ حرب تمّوز لم تمثّل "نهاية التاريخ" بالنسبة إلى الصراع العربيّ ـــ الإسرائيليّ: فالانتصار الذي حدث فيها هو انتصارٌ نسبيّ، وفي معركةٍ واحدةٍ فحسب من هذا الصراع الطويل؛ أما الانتصار الحاسم في الصراع فيَلزمه ـــ إلى جانب التقاء الإرادة مع الإعداد الجديّ ـــ التغلّبُ على العاهات الداخليّة في المجتمعات العربيّة، وعلى رأسها عاهةُ المذهبيّة التي تهدّد بالقضاء على نسيج مجتمعاتنا. فالحالة المأساويّة التي وصل إليها الوضعُ العربيّ بسبب التناحر المذهبي تؤكّد أنّ استكمال المواجهة مع "إسرائيل" غيرُ ممكن من دون حلّ هذه المسألة.
وغنيّ عن القول إنّه ما يزال أمامنا طريق طويل جدًّا قبل الوصول إلى الحالة المنشودة. لكنّ طولَ الطريق لا يعني استحالة حصول الأمر إلى الأبد. ففي عصرنا الحاليّ يستحيل أن تنتصر الظلاميّة على روح هذا العصر مهما كان الوضع الآنيّ متدهورًا داخل مجتمعاتنا العربيّة. أما بالنسبة إلى "إسرائيل" فإنّ بقاءها كان وما يزال مرتبطًا بالتدفّق الدائم لمستوياتٍ خرافيةٍ من الدعم، بجميع أنواعه، من قِبل الولايات المتحدة والغرب الإستعماريّ بشكلٍ عامّ. لكن وضع الاقتصاد الأميركيّ يشي بأنّ كلفة الإمبراطوريّة بدأتْ تتخطّى مردودَها، وبأنّ قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في تأمين بقاء "إسرائيل" ليست بلا نهاية. وإذا تمكّن العرب من تحقيق توازن ردع حقيقيّ معها، فإنّ الرأي العامّ الأميركيّ والغربيّ سوف يجبر أنظمته الحاكمة، في النهاية، على إجراء حسابات الربح والخسارة النابعة من "استثمارها" في "إسرائيل." ساعتئذٍ، سوف تبدأ رحلة نهاية هذه الدولة، تمامًا كما حدث مع دولتي التمييز العنصريّ في روديسيا وجنوب أفريقيا من قبل.
من حقّنا، إذًا، أن نظلّ دائمًا "محكومين بالأمل."
بيروت