قلّما جاد التاريخُ علينا بشخصٍ يَجمع التفاني، إلى الذكاءِ، والاختراعِ، ومَلَكَةِ القيادة. وديع حدّاد واحدٌ من هذه القلّة القليلة التي تمرّ في التاريخ خَطْفًا، لكنّها تترك في الدنيا "دَوِيًّا كأنّما تَداوَلَ سَمْعَ المرءِ أنملُهُ العَشْرُ" (المتنبّي). درس الطبَّ ككثيرين، لكنّه تخصّص في علاج القضيّة. آمنَ بالعنف ككثيرين، لكنّه قَرَنَه بالدقّةِ والهندسةِ والرقمِ والمعلومة. دخل الأحزابَ ككثيرين، لكنّه اختطّ لنفسِه طريقَه الخاصَّ، على غير غرورٍ ولا روحِ انشقاق. أَخلصَ لقضيّتِه ككثيرين، لكنّه ابتعدَ عن الأضواء وآلاتِ التصوير. كان ذكيًّا ككثيرين، لكنّه وَظّفَ ذكاءه في سبيل إيصالِ شعبه إلى المنْعةِ والكرامةِ والحريّة، لا من أجل وصول شخصِه وأفرادِ عائلتِه إلى مواقع الثروةِ والنفوذ.
اليومَ، قد لا نحتاجُ إلى وديع حدّاد إلّا بالمعنى الآنفِ الذكر: تلك "الخلطة" السحريّة شبه الاستثنائيّة. ولعلّي أضيفُ ثنائيّاتٍ أخرى لا تُعدّ ولا تُحصى، انجدلتْ في هذا النبيِّ المسلّح كما لم تنجدلْ ربّما في أيّ فلسطينيٍّ أو عربيٍّ آخر: الكاريزما والتواضع، السيادة والخدمة، العاصفة والنسيم، الرأي والشجاعة (اللذيْن إذا "اجتمعا لنفسٍ حُرّةٍ، بَلغتْ من العَلْياءِ كُلَّ مكانِ" ــــ المتنبّي أيضًا).
نحتاجُ إلى "خلطةِ وديع" لأنّنا مللْنا الانتظارَ بقدْرِ ما مَلَلْنا التهوّر، ومللْنا الزعبرةَ "الواقعيّةَ" بقدْرِ ما مللْنا السذاجةَ "الثورجيّة،" ومللْنا العزلةَ الخانقةَ بقدْرِ ما مللْنا الاحتفاليّات الصاخبة، ومللْنا المزايداتِ الجوفاءَ بقدْرِ ما مللْنا المناقصاتِ الربّيحة.
شعبُنا اليومَ موزَّعٌ بين المخيّمِ والمخيّم، وبين الشتاتِ والشتات. يحلم بالوطن، فيُصابُ بالهجرة. يحلم بالكرامة، فيُسكَتُ بالمعاش.
"سلطتُنا" فيها كلُّ معاني السلطة إلّا الوطنيّة والسيادة والاستقلال والكرامة. وبدلًا من أن تكونَ "وراء العدوّ في كلّ مكان" (كما نظّر وديع)، إذْ بها "وراء إسرائيل في كلّ مكان": تواطؤًا، وتنسيقًا، وتآمرًا، وخنوعًا، واستزلامًا.
و"معارضتُنا" عاجزةٌ في أحسن الأحوال، أو أسيرةُ الوظائفِ والمراتبِ في أسوإها. معظمُها لا يمارس العنفَ الثوريَّ، ولا المقاطعةَ المدنيّة. يوهمُ الناسَ بأنّه "يعارض من الداخل" بلا أملٍ ولا رجاء، ولكنّه يمارسُ سياسةَ تخدير الناس بأوهام "الوحدة الوطنيّة"!
نحن الآن في حاجةٍ ماسّةٍ إلى "خلطةِ وديع،" وإنِ اتّخذتْ أسماءً أخرى لا تقلُّ عن اسمه شرفًا وذكاءً وإخلاصًا وثقافةً مشتبكةً مع الاحتلال الإسرائيليّ والاختلالِ العربيّ: جورج حبش، غسّان كنفاني، باسل الأعرج،...
نريد قيادةً فلسطينيّةً تخوض معاركَ متعددةَ المستويات ضدّ العدوّ الصهيونيّ: في البرّ، وفي البحر، وفي الجوّ، وفي الجامعات، وفي المنتديات، وفي النقابات، وفي مجالس الطلبة؛ قيادةً تجمع بين تكتيكات المقاومة المسلّحة وأساليبِ المقاطعة الشعبيّة (بما في ذلك ثقافةُ مناهضة التطبيع).
نريد قيادةً فلسطينيّةً حيويّةً، تستنهضُ طاقاتِ شعبنا الفلسطينيّ الغزيرةَ في الداخل والشتات، وترسمُ ــــ وإيّاه ــــ برامجَ عملٍ تراعي خصوصيّاتِ كلِّ ساحةٍ من ساحات الاشتباك، وتبثّ فيه الأملَ بالانتصار، وتبدِّد مشاعرَ الإحباط واليأس والقرف.
نريد قيادةً فلسطينيّةً تعيد تعريفَ "الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة،" بعد أن لوّثتْها الوظائفُ والمخصَّصاتُ السلطويّة؛ وحدة مع الشريك النظيف لا الفاسد، مع المقاتلِ لا القاتل، مع السجينِ لا السجّان، مع المتظاهِرِ لا الشرطة.
نريد قيادةً فلسطينيّةً تعيد بناءَ علاقاتها العربيّة على أساس الكفاح المشترك ضدّ الصهيونيّة والاستعمار، وضدّ الدكتاتوريّة والفساد، معًا وبالتلازم؛ قيادةً لا تتحالفُ مع الرجعيّة والقمع بحجّة "فلسطين،" ولا مع العمالة والارتهان للأجنبيّ بحجّة "الديمقراطيّة"؛ قيادةً تغادر منطقَ المؤتمرات المغلقة والتوصياتِ المملّة والخطاباتِ الطويلةِ السقيمة، وتغذّي الأطرَ الحيّةَ بالاقتراحات والدماءِ الجديدة.
نريد قيادةً فلسطينيّةً تعيد بناءَ علاقاتٍ متينةٍ مع قوًى جذريّةٍ في العالم، قد لا يكون اسمُها "الجيشَ الأحمرَ اليابانيّ" أو "بادر ــــ ماينهوف،" ولكنّها على استعدادٍ، في كلّ حال، لربط معركتها ضدّ الإمبرياليّة والرأسماليّة المتغوّلة في مجتمعاتها بمعركتنا نحن ضدّ الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة العربيّة الخائنة. فإذا كان عدوُّنا يلاحقُنا في كلّ مكان، فلا مناصَ من أن نلاحقَه في كلّ مكان!
نريد وديعًا يزلزِل العالمَ، كما زلْزَلَنا هذا العالمُ المجرمُ الخالي من كلّ مشاعر الرحمة والعدل والإنسانيّة؛ وديعًا يحرِّر جورج عبد الله من سجنه الفرنسيّ مثلما حرّر جورجًا آخرَ (هو الحكيم جورج حبش) من سجنه السوريّ قبل عقود؛ وديعًا يسحب المالَ (بالملايين!) من جيوبِ الخونة والفاسدين والمستعمِرين وينثرُها على الثورة والثوّار على شكل مؤسّساتٍ نشريّةٍ وثقافيّةٍ وتربويّةٍ وحزبيّةٍ جذريّة؛ وديعًا يعطي دروسًا في حاجةِ الثورة الحقيقيّة إلى السرّيّة والتقشّف، بدلًا من الانفلاش والإسراف.
نريد "غسّانًا" يَنطق بلساننا أدبًا رفيعًا، ومنطقًا فصيحًا، وموقفًا ناصعًا، ويوزِّع علينا برتقالًا يافويًّا شهيًّا.
نريد "حكيمًا" يوازنُ بين الأخلاقِ والسياسة، وبين القيادةِ والناس، وبين المرحليّةِ والأبد.
نريد "ناجيًا" يرسمُ أحلامَنا الهائلةَ البهاءِ، المشبعَةَ عزّةً، ويحرِّضُنا على حكّامنا المتخمين ثراءً وقذارةً وعمالةً وتسوُّلًا.
نريد "باسلًا،" بل بواسلَ، يجوبون القرى والمدنَ مشيًا وفي الباصات، ويعرِّفون شعبَنا إلى تاريخِه وجغرافيّته ونضالاتِه، ويشتبكون مع العدوّ حتى آخرِ قطرةِ دم.
ولأننا نعِمْنا، ذاتَ عصرٍ، بوديعٍ وحكيمٍ وغسّانٍ وناجٍ وباسلٍ (وماهرٍ وليْلى وعيّاشٍ ودلالٍ وتغريدٍ....) وآخرين وأخرياتٍ، فإنّنا لا نستطيعُ إلّا أن نثقَ بأنّنا سننعمُ بالمزيد من هؤلاء. لكنّ دورَنا، كتّابًا وفنّانين وطلّابًا وناشطين ومناضلين، ليس أن نكتفي بتهيئةِ "التربة الصالحة" استعدادًا للزرْع الجديد، بل أن نُسهمَ في بزوغِه المباشرِ أيضًا: أن نخلقَه بدلًا من أن ننتظرَ مَن يخلقُه لنا. ففي زمننا هذا لم يعد يكفي أن ننتظرَ "القائدَ" كي "نواكبَه." علينا، جميعًا، أن نكون القائد.
بيروت