(حاوره: بشّار اللقّيس)
يتميّز الدكتور أسامة سعد بتجربة سياسيّة فريدة. فعلى غير عادة العائلات السياسيّة في لبنان، ينطلق "الحكيم" في تجربته من الفقراء؛ والجالس معه يلمس مركزيّةَ "الشعب" في رؤيته وتفكيره. وهو، عكس سياسيين لبنانيّين كثر، غيرُ متخوّف البتّة من الانتفاضة الشعبيّة اللبنانيّة الأخيرة، بل يرى فيها مدخلًا حتميًّا إلى بناء الدولة المعاصرة المدنيّة. وسعد هو نائب في البرلمان اللبنانيّ عن دائرة صيدا، وأحدُ مؤسِّسي "التنظيم الشعبيّ الناصريّ" ورئيسُه بعد رحيل أخيه مصطفى معروف سعد.
***
* دكتور أسامة، من أيّ زاويةٍ تقرأ الحدثَ اللبنانيَّ اليوم؟
- ما حدث يتجاوز المسألةَ الاقتصاديّة، ويطول البنيةَ السياسيّةَ بأسْرها. فمنطقُ السلطة الذي مورس منذ العام 1992 هو منطقُ الإقصاء، لا من خلال الاستحواذ على السلطة فحسب، بل من خلال الاستحواذ على المعارضة أيضًا! فقد اتّبعت السلطةُ سياسةَ "تفريغ" هذه المعارضة من مضمونها، والاستيلاء على كلّ الفضاءات التي يمكن أنْ تشكّل نوعًا من المعارضة لها ولسياساتها المجحفة. ومن هنا، فإنّ لنزول الناس إلى الشارع في هذه الانتفاضة المباركة هدفًا سياسيًّا هو: توسيعُ المشاركة السياسيّة، وإعادةُ تصحيح المسار السياسيّ المنحرف الذي وصلنا معه إلى حائط مسدود.
يضاف إلى ذلك أنّ السياسات الاقتصاديّة التي سارتْ بها السلطةُ السياسيّة، منذ العام 1992، كانت كارثيّةً. فلقد جرى تحييدُ جميع قطاعات الاقتصادات المنتِجة في الدولة لصالح رأس المال الجشع، الذي نهب الناسَ وأفقرَهم، وهمّش الطبقةَ الوسطى وأعجزَها عن الصمود في وجه الغلاء والأوضاع المعيشيّة الصعبة. بل لعلّي أقول إنّ النظام الطبقيّ اللبنانيّ مشوَّهٌ بالكامل، إذ لم يعد واضحًا حجمُ كلّ طبقة ومستواها واتجاهاتها.
كلُّ ذلك انفجر في هذا الحراك على مستوى مطالب الناس: فطالبَ البعضُ بحقوقٍ أساسيّةٍ كحقّ الاستشفاء والتعلّم، في حين طالب آخرون بإصلاح النظام السياسيّ الطائفيّ برمّته. إنّ التعثّر السياسيّ والاقتصاديّ معًا هو ما أوصل البلادَ إلى هذه الحال، ودفع الناسَ إلى الشارع.
* ما هو دورُكم، وما هي الخطوات التي تتطلّعون إليها؟
- منذ البداية قلنا إنّ ثمّة حاجةً إلى حركة تقدّميّة تنقذ الوضعَ الراهن. وكنّا دائمًا وأبدًا بين الناس، وإلى جانب الفقراء، وإلى جانب المطالب المحقّة في ضرورة إيجاد منظومةِ عملٍ سياسيّة واقتصاديّةٍ مختلفة. وكان ذلك يقتضي منّا أن نركّز جهودَنا على مسألتين أساسيّتين في تصحيح مسار العمل السياسيّ اللبنانيّ.
الأولى: إيجادُ قانون عادل يمثِّل، بشكلٍ منصفٍ، قوى الشعب اللبنانيّ المختلفة.
والثاني: تصحيحُ مسار اتفاق الطائف من خلال ايجاد صيغةٍ، على مستوى الحكم التنفيذيّ، تسمح للشعب بأن يكون أكثرَ حضورًا في الجهاز التنفيذيّ للدولة.
من هنا، عندما رأينا الشارعَ ينتفض اليوم، بتنا أكثرَ إصرارًا على ضرورة تصحيح المسار السياسيّ للبلد، وذلك من خلال مرحلة انتقاليّة تُقْدم عليها السلطةُ إنقاذًا للبلد.
والحديث عن "مرحلة انتقاليّة" ليس بالأمر النظريّ؛ فثمّة تحوّلٌ نعيشه اليوم فعليًّا من خلال ما رأيناه من غضب الناس الذي انفجر على شكل ثورة أو انتفاضة. وهو ما يعني أنّنا دخلنا واقعيًّا في مرحلةٍ انتقاليّةٍ يجب على السلطة أنْ تعترف بها. ولهذه المرحلة الانتقاليّة خطوتان لا بدّ من المرور بهما:
- حكومة انتقاليّة مصغّرة لمدّة قصيرة لا تتجاوز الستّة أشهر مثلًا؛
- الإعدادُ لقانونٍ انتخابيّ معاصر يكون من خارج القيد الطائفيّ، على أساس لبنان كلّه دائرة انتخابيّة واحدة.
نحن نطرح ما يمكن أن تستقيمَ به العمليّةُ السياسيّة، ويحصِّن مجتمعَنا من العدوان الإسرائيليّ، وذلك بإعادة إنتاج السياسة على أساس المواطَنة (لا الطائفيّة أو المذهبيّة أو المناطقيّة) والدولةِ العصريّة والتوزيعِ العادل للثروة.
* دائمًا ما أجد هذه النقاطَ مشتركةً بين مختلف ألوان الطيف التقدميّ والوطنيّ واليساريّ. لكنّني، إلى اليوم، لا أجد نيّةً لدى أيٍّ منهم للعمل بشكل مشترك لتحقيق هذه الأهداف! فهل المشكلة في"التيّار اليساريّ" عامّة، أمْ ماذا؟
- نعم، ثمّة مشكلة على مستوى العمل التكامليّ الوطنيّ بين مجموع القوى التقدميّة! لكنّ ذلك يعود، بشكل رئيس، إلى طبيعة السلطة التي مارستْ سياسةَ "تجفيف منابع" هذه القوى وتهميشِها. ونحن كنّا، ولا نزال، نمدّ أيديَنا إلى الصادقين والوطنيّين من أبناء القوى والتيّارات المختلفة للعمل معًا. ونحن حاضرون، ولم نغب عن الساحات، وشبابُنا اليوم يعملون بجدّ مع مختلف القوى من أجل إنضاج مطالب هذا الحراك والوصول بهذه المرحلة الانتقاليّة نحو برّ الأمان.
شخصيًّا، أحكي مع الأطراف المختلفة في ضرورة التعاون من أجل تحقيق مطالب الناس، ولقطع الطريق أمام من يريد التسلّقَ على أوجاعهم سعيًا إلى تحقيق غايات سياسيّة.
* في الحديث عن بعض الجهات التي تسعى إلى تسلّق الحراك، ثمّة مخاوفُ أن نكون قد دخلنا مرحلةَ "البازار السياسيّ،" وأنّ الشارع أمسى مطيّةً للعديد من الجهات الطامعة في تحسين وضعها في السلطة. كيف السبيلُ إلى إبعاد هذه الفئات عن مطالب الناس ووجعها؟
- يتميّز الشارعُ اللبنانيُّ اليوم بكونه متجاوزًا للطوائف والخصوصيّات التي اعتدناها في بلادنا. وهذا ما يجعل الناسَ على درجة عالية من الوعي، أخرجهم من بيوتهم، بل دفعهم أيضًا إلى طرد ممثّلي السلطة عندما حاولوا ركوبَ موجة الحراك.
هذا ما يمكن الرهانُ عليه اليوم. فالناس ليست بالبساطة التي يعتقدها البعض. هذه الناس كلّها نزلت اليوم لتقول إنّنا لن نسمحَ بتجاوزاتٍ تعيدنا إلى ما قبل 17 تشرين؛ كما أنّنا لن نسمح بأن تنطفئ جذوةُ هذا الحراك من دون تغيير حكوميّ وانتخابات نيابيّة مبكّرة خارج القيد الطائفيّ؛ بالإضافة إلى العمل على تحقيق احتياجات الناس: كالاستشفاء، وضمان الشيخوخة، وفرص العمل.
بمعنى آخر، الناس يطالبون السلطةَ الحاكمةَ بدولةٍ عصريّةٍ فيها الكثيرُ من مقوِّمات العيش الكريم، في حين تتعاطى السلطة معهم بتجاهل تامٍّ وكأنّ شيئًا لم يكن.
*ثمة مفارقة لافتة، حكيم، وهي أنّ السياسات الاقتصاديّة التي مورستْ في لبنان هي السياساتُ التي مورست في غالبيّة الوطن العربيّ بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وهي قائمة على الريعيّة وتخلّي الدولة عن مسؤوليّاتها تجاه المجتمع. هل تجد في الحراك اللبنانيّ، وعمومِ الحَراك العربيّ، نوعًا من العودة الشعبيّة إلى الناصريّة وإنْ لم تُسمَّ؟
- لعبد الناصر تجربةٌ رائدةٌ على مستوى التنمية الوطنيّة في مصر. لكنّي، ومن منطلق المصارحة، أعترفُ بأنّ التجربة تلك افتقدتْ إلى شيءٍ من الديمقراطيّة. ما نحتاجه اليوم في الوطن العربيّ مزيجٌ من التنمية والديمقراطيّة. وهاتان المسألتان هما ركنا الدولة العصريّة الحديثة. ثمّة حاجة إلى دولة قادرة على ممارسة عمليّة التحرير وعمليّة التنمية على حد سواء. ولا أجد سبيلًا إلى ذلك بغير تحرير العمليّة السياسية نحو آفاق ديمقراطيّة يعبّر فيها الناس عن آرائهم بحريّة؛ كما لا أرى ذلك ممكنًا بغير التوزيع العادل للثروة بين الناس.
إنّ أهميّة التجربة الحاصلة في لبنان اليوم، مع ما يمكن أنْ تتركه في الوطن العربيّ، تكمن في أنّ مسارَ التكامل العربيّ لا يمكن أنْ يتجاوز البعدَ الوطنيّ. لطالما قلنا: الوطنيّة والعروبة لا تتضادّان. ثمة حاجة إلى تكامل عربيّ، ينطلق من قاعدة وطنيّة متينة، فيها حيّزٌ ديمقراطيّ، ونظامٌ سياسيّ عادل يعطي الناسَ حقوقَها.
صيدا