"إنّ والدي، من شدّةِ حرْصِه، أرسل قبل حضوره إلى الدنيا استطلاعيْن!"[2]
لعّلَ هذا كان أطرفَ تعليقٍ لهاني عن إحدى صفات أبيه.
ليس خفيًّا على المقرَّبين أنّ هاني دُعي على اسم أحدِ رفاقِ أبيه - وأحدِ مؤسّسي حركة القوميّين العرب - وهو هاني الهندي،[3] الذي تولّى لاحقًا مسؤوليّةَ العلاقات العربيّة في "الحركة،" وبالأخصّ العلاقة بالنظام الثوريّ الناصريّ في مصر. وكان هاني الهندي قد درس في الجامعة الأمريكيّة في بيروت (قسم العلوم السياسيّة)؛ ومن هنا نشـأت العلاقةُ الخاصّة بالحكيميْن جورج حبش ووديع حدّاد (من فلسطين)، والحكيم أحمد الخطيب (من الكويت)، وصالح شبل، وغيرهم. نشـأت "الحركة" من هذه المجموعة الصغيرة، التي عُرفتْ أوّلًا بحركة "الشباب القوميّ العربيّ،" المُتشكّلة بعد تخرّج مؤسّسيها من الجامعة، وكانت ردًّا مباشرًا على النكبة الفلسطينيّة (الممتدّة إلى اليوم). وتأثّر الطلبةُ العربُ في الجامعة بالفكر القوميّ لقسطنطين زريق، رئيسِ "جمعيّة العروة الوثقى" في تلك الفترة الحرجة.
***
عَملتْ سامية، بعد ارتباطها بوديع وانتقالها من الشام، في مدرسة الأونروا للّاجئين الفلسطينيّين في منطقة الحدث. وكانت مسؤولةً عن تعليم اللغة العربيّة للصفوف المتوسّطة ، فضلًا عن اهتمامها بالبيت وبتربيةِ هاني.
التحق هاني صغيرًا بمدرسة "الروضة" التي أسّسها عمُّه قيصر في العام 1960 في رأس بيروت مع شريكه أحمد الجرّار. ونشأ محاطًا برفاق والده القوميّين العرب، وبنشطاءَ عديدين متعدّدي الانتماءات والثقافات.
هاني ووديع في البيت الصغير في منطقة الملّا في بيروت
كان البيت مقرًّا للعديد من اللقاءات والنقاشات حول فلسطين واليمن والجزائر ومصر وسوريا، وقضايا كالوحدة العربيّة والاشتراكيّة. فأكسبه هذا الجوُّ إدراكًا للكثير من القضايا والمشاكل التي تعانيها بلدانُنا ومجتمعاتُنا العربيّة. كما أكسبتْه زياراتُه المتكرِّرة إلى الشام، حيث انتقلتْ عائلةُ والدته بعد النكبة، ومن ثمّ إلى القاهرة في العاميْن 1966 و1968،[4] أبعادًا فكريّةً واجتماعيّةً أوسع.
***
في إحدى ليالي تمّوز/يوليو من العام 1970، وكان هاني في السابعة من عُمرِه، استُهدِفَ بيتُهم بستّة صورايخ، أصاب اثنان منها غرفةَ نوم والديْه، حيث كان هاني يرقد مع والدته. وبسبب صراخهما، اقتحم والدُه الغرفةَ المشتعلة لإخراجهما.
وقتَها، تعهّدت المناضلة ليلى خالد بنقل هاني، الدامي، إلى المستشفى، وتولّى وديع الاهتمامَ بسامية. لكنْ، خلال تلك اللحظات المليئةِ بالقلق، ارتبكتْ ليلى، فدخلتْ شقّةَ أحد الجيران - حيث كان يُقام عرسٌ - بدلًا من الذهاب إلى المستشفى، وجلستْ على أحد الكراسي. فما كان من هاني إلّا ان أشار إليها بالقول: "ليس على الفدائيّ الارتباكُ في وسط المعركة!" فسارعتْ ليلى إلى الخروج به نحو مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت.
خلال تلك الفترة، تحوّلتْ ردهاتُ مستشفى الجامعة في رأس بيروت إلى ملتقًى لكلّ معارف الدكتور وديع ومحبّيه، ومنهم أصدقاؤه من الجامعة الأمريكيّة و"مجتمع" رأس بيروت. وقد تنبّه الدكتور وديع خلال في أحد تلك الأيّام إلى أنّ الطفلة التي كانت تشارك هاني الغرفةَ كانت تعاني مرضًا نفسيًّا ذا سماتٍ بيولوجيّة تؤدّي إلى أوجاعٍ معويّة مؤلمة، لكنّ هذه الأوجاع كانت تختفي فور حضور أحد الاشخاص حين يسرد الحكايات على هاني ومن معه في الغرفة. على الفور، شخّص الدكتور وديع مرضَها بـ"الحالة الأرمنيّة،" وهي حالةٌ نفسيّةٌ مرتبطة بالمجازر الأرمنيّة التي حصلتْ أوائلَ القرن العشرين. فعولجت الفتاة وخرجتْ من المستشفى.
بعد استهداف البيت بالصواريخ، اضطُرّت العائلة، حرصًا على سلامتها، إلى التنقّل بين العديد من الشقق المستأجَرة. فعانى هاني غيابَ الوالد، ودفءَ البيت، وقلقَ الوالدة والأهل.
***
في صيف العام 1972، وعلى ضوء نقاشٍ داخليٍّ طويل عن أمن النشاط الفدائيّ الفلسطينيّ في بيروت، دعا د. وديع إلى عدم تركيز كلّ قوى الثورة في هذه المدينة. وعليه، فقد اتَّخَذَ قرارًا بنقل العائلة إلى بغداد، برفقة المناضل العروبيّ المحامي جهاد ضاحي.[5]
في بغداد عاش هاني مع والدته، متحمّلًا صعوبةَ التنقل بين حياتيْن، سرّيَّةٍ و"عاديّة،" وهو بعدُ طفلٌ في التاسعة. فأكمل تعليمَه الابتدائيّ في مدرسة نجمة الصبح في المنصور ببغداد، ومن ثمّ في ثانويّة المدرسة النموذجيّة للبنين في المنصور أيضًا .
ثمّ سَمحَ التحالفُ مع الحكم الاشتراكيّ في جنوب اليمن بالتحاق العائلة بالدكتور وديع أثناء عُطلِ هاني الصيفيّة. فعاش هاني فترةً أطولَ مع والده، مشاركًا في نشاطات حياته اليوميّة.
***
هاني ووالدُه د. وديع في غابات إفريقيا سنة 1975
حين صار هاني فتًى، رافق أبويْه إلى جمهوريّة الصومال الاشتراكيّة، حيث أشركاه مغامرةَ استكشافِ المناطق البعيدة. فتعرّف إلى الثروة الطبيعيّةِ الأفريقيّة، وتعلّم احترامَها وتقديرَها. ولقد حاول الأبُ أن ينقل إلى ابنه حبَّه الشديدَ للطبيعة، ولمكوّناتِها الحيوانيّةِ والنباتيّة. وربّما أراد أن يغرسَ في وعيه أيضًا بعضًا من الذكريات التي لا يمكن أن تُمحى بعد غياب الأب؛ ومنها الركضُ وسط الغابات، ومعايشةُ الترقّب والخطر عبر مرافقة الأدلّاء الأفارقة في تتبّع آثار القطعان، على الرغم من الأشواك[6] ولسع الحشرات. ولقد صادف أنّ الدكتور وديع كان في تلك الفترة يقرأ كتبَ الباحث البريطانيّ دزموند موريس عن تحديد الطبيعة البيولوجيّة للأجناس البشريّة نوعيّةَ الحضارات الإنسانيّة. [7]
هذا من جهة. ومن جهة ثانية فإنّه يرجَّح أنّ هاني بدأ حينها، وبسبب اختلاطه بحياة أبيه اليوميّة في أفريقيا، يتلمّس أهمّيّةَ التحالفات الخارجيّة التي ساهم النضالُ الفلسطينيّ الخارجيّ، وعلى رأسه نضالُ أبيه وديع، في دعمها ضدّ نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا وغيرها من الدول الأفريقيّة.
***
بعد سنوات تعرّضت العائلة إلى أزمةٍ كبيرة، وذلك حين مرض د. وديع وتوفّي في نهاية آذار (مارس) 1978. كان هاني حينها في الخامسة عشرة من عمره. وقد حضر جنازةَ والده في بغداد، وشوهِد ملتفعًا الكوفيّةَ الفلسطينيّة.
لكنْ، على الرغم من قساوة تلك الشهور، فقد استطاع هاني بعد ثلاثة أشهر النجاحَ في امتحاناته المدرسيّة؛ ما شكّل شيئًا من العزاء لوالدته.
هاني في جنازة والده ملتفعًا الكوفية
***
بعد حصول هاني على الشهادة الثانويّة، عادت العائلة إلى بيروت، وإلى البيت الذي كانت تقيم فيه حينها عمّتُه نصرة.
انضمّ هاني سنة 1981 إلى الجامعة الأمريكيّة في بيروت في مساقٍ لدراسة الطبّ. غير أنّه سرعان ما بدّل خيارَه بعد الاجتياح الإسرائيليّ للبنان عام 1982 باتجاه العلوم السياسيّة.
***
على أثر سيطرة الميليشيات اليمينيّة اللبنانيّة على رأس بيروت، واعتقال العديد من الفلسطينيّين هناك، ومن ضمنهم قيصر حدّاد، عمُّ هاني وأحدُ مؤسّسي ثانويّة الروضة ومديرُها، غادر هاني بيروتَ بترتيبٍ من بعض الأصدقاء، وانضمّ إلى جامعة الكويت.
لكنّه، على ضوء انتفاضة 6 شباط 1984 ضدّ الرئيس أمين الجميّل، عاد إلى بيروت ليُكمل دراستَه في الجامعة نفسها والتخصّصِ نفسِه، وليشاركَ رفاقَه في الجامعة حياتَهم اليوميّة.
***
سعى هاني إلى استكمال دراسته الجامعيّة في العاصمة البريطانيّة في مساق العلوم السياسيّة. وهناك تعرّف إلى الشهيد ناجي العلي وعائلته، وعايش أزمةَ اغتيال ناجي عام 1987 ووفاته في شهر آب (أغسطس) من تلك السنة. وقد أثّرت تلك الحادثة في نفسيّة هاني، إذ كان يتوجّه يوميًّا لعيادة ناجي خلال فترة علاجه.
بعد عودته من لندن، انضّمَ إلى إدارة ثانويّة الروضة مساعدًا إداريًّا لعمّه قيصر.
***
عانى هاني صعوبةَ العيش في عالمٍ كان كلُّ مَن يحيطُ به فيه يسعى إلى حمايته أو الوصايةِ عليه. وكان هاني يحاول باستمرارٍ التمرّدَ على ذلك بالسخرية السوداء واللاسعة. وقد استطاع خلقَ عالمه الخاصّ، الملتزمِ بأدبيّات الحركة التقدّميّة العربيّة. وربّما كان حجمُ مكتبته الشخصيّة أكبرَ دليلٍ على ذلك، إذ اهتمّ بقراءة معظمِ ما يصدر من تلك الأدبيّات، فضلًا عن تجميع العديد من نوادر الكتب العربيّة والأجنبيّة. ذلك لأنّ هاني كان ينتمي إلى تلك البئية الصفديّة الفلسطينية التي شكّل التعليمُ والبحثُ العلميّ جزءًا من قناعتها بأنّ التحدّي الثقافيّ أساسٌ لتحرير فلسطين والأمّة.
في حضرة غيابِكَ يا هاني، السلامُ لروحك.
بيروت
[1] وُلدَ هاني وديع حدّاد في العاشر من تشرين الثاني 1963، و توفّي في صباح الثامن من أيلول 2020.
2] وديع هو الأخ الأصغر بين توائمَ ثلاثة، وُلدوا في صفد ، الجليل الأعلى، فلسطين، في تمّوز 1928.
[3] وزير سوري خلال فترة الوحدة، والدُه كان قائدًا ميدانيًّا في جيش الإنقاذ في معارك فلسطين خلال حرب 1948.
[4] أنيس صايغ، أنيس صايغ عن أنيس صايغ (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2006). يتحّدث صايغ عن المؤتمر الوطنيّ الفلسطينىّ المنعقد في القاهرة عام 1966 وكيف التقى وديعًا وهاني الصغير في ردهة فندق شبرد في القاهرة، وكان وديع ينوي أخذ َهاني إلى حديقة الحيوانات.
[5] وزير سابق ومناضل عربيّ من حمص. محامٍ متمرّس قاد حملات الدفاع عن المعتقلين الفلسطينيّين في أوروبا.
[6] من المعروف أنّ طبيعة الغابات في أراضي شرق افريقيا تتكوّن من أشجار البونساي المليئة بالأشواك الطويلة والمتعدّدة.
[7] أنظر دزموند موريس: The Naked Ape وThe Human Zoo.