ــــ إحكِ لي حكاية.
ــــ لم أعدْ ماهرًا في نسجِ الحكايات، قال بصوتٍ مُتعَب.
ــــ عندما كنتُ صغيرةً كنتَ تحكي لي الكثيرَ من الحكايات.
ــــ كنتُ أفعلُ ما هو أعجب، قال ساخرًا.
ــــ هل تتذكّر قصّة "نقطة الحزينة؟"
كان جسدُه مزروعًا بالأنابيب. وكانت الأجهزةُ الطبّيّة الإلكترونيّة على جانبيه: بعضُها يُصدر صفيرًا متقطّعًا، منهِكًا للأعصاب، وبعضُها الآخر يتكتكُ مثلَ ساعةِ الحائط. لولا الأدوية المهدِّئة لما نام دقيقةً واحدة؛ فقد كان حانقًا على الأطبّاء والمشفى والأقارب والأخلاق والقوانين. كان يريد الخلاصَ، وكلُّ ما كانوا يفعلونه في هذا المكان هو إطالة مدّة عذابه.
حفيدتُه حنان هي الوحيدة التي كانت تخفِّف عنه بعضَ عذابه. فما إنْ تدخل الغرفة حتى يبتسم وتعودَ إلى عينيه نظرتُهما الحنونة، فيتحامل على نفسه كي يبدو أفضلَ حالًا، ثمّ يغفو وهو يستمع إلى حكاياتها.
عندما سألته عن قصّة "نقطة الحزينة،" عاد بذاكرته المُتعَبة إلى ذلك الزمن، بحثًا عن أثر لتلك القصّة. لكنها قطعتْ شرودَه قائلةً بمرح:
ــــ سأقصّها أنا عليكَ، ما رأيك؟
ــــ ليتكِ تفعلين، قال وهو يُغمض عينيه كطفلٍ يتحضّر للنوم.
ــــ كان يا ما كان، في قديم الزمان، "نقطة" تعيش في دفترٍ صغير. لا تتذكّر نقطة أن أمَّها، السيّدة دائرة، عانقتْها يومًا أو قبّلتْها؛ وكان ذلك يسبِّب لها الكثيرَ من الحزن. عاشت نقطة وحيدةً معزولة، تحلم بمغادرة بيتها والبحث عن المغامرات. كانت تحبّ اللعب وتحسد رفاقَها، أمثال كرة وأسطوانة، على ذلك. ولم تكن تلك همومها كلَّها؛ فهي لم تُقابلْ والدَها، بيكار، يومًا. ولطالما سمعتْ والدتَها تصفه بـ"الخائن" كلّما ذكره أحدُهم أمامها، فتزداد حزنًا وتبكي في معظم الأحيان ...
***
كان هذا آخرَ حديث بين الدكتورة حنان، أخصّائيّةِ التخدير، وجدِّها التسعينيّ الدكتور صبري، الذي فارق الحياة وهو يستمع إلى تلك الحكاية الغريبة، التي رواها بنفسه لها عندما كانت صغيرة. مات قبل أن يسمع كيف حوّرتْها، فجعلتْ من "نقطة" فراشةً تطير لاكتشاف العالم الذي تتوق إليه.
لم تشعر حنان بالذعر عندما انتبهتْ إلى جدّها وهو يُسْلم الروح. أمسكتْ يده وأخذتْ تمسّدها بهدوء، وهي تخاطبُه بأرقّ الكلمات. كان ينظر إليها بحياد غريب، فشعرتْ أنّ نظراته تخترقها كما لو أنّها جسدٌ شفّاف. لم تنقذه؛ أرادته أن يرحل ـــ كما أراد ـــ بهدوء، بعد أن خَذَلَتْه حين طلب منها قبل أسبوعين أن تساعدَه على الخلاص:
ــــ لا يحتاج الأمر سوى حقنةٍ بسيطة، قال برجاء.
ــــ جدّوووووو!
ــــ أين عقلك العلميّ؟! سألها بصوتٍ واهن.
ــــ عقلي يقول إنّ عليّ إنقاذَ الناس لا قتلَهم، قالت وهي تقبّله على خدّه.
ــــ وأنا أطلب منكِ إنقاذي، قال بنبرةٍ حزينة.
لم تستطع "إنقاذَه" آنذاك، ولا تعلم إنْ كانت تستطيع تنفيذَ وصيّته الآن، وهي أن يُدفَنَ من دون أيّة طقوسٍ دينيّة، على ما جاء في رسالةٍ بعثها إليها قبل سنوات، حين كانت تدرس في لندن:
"... لم أؤمن يومًا بغير العلم والعمل والحبّ ــ ــ هذا ديني، ولا دينَ لي غيره. وحين أموت، لا يهمّني أين أُدفن. لا يهمّني أصلًا أن أُدفن، أو أُحرق، أو أُتركَ في البراري لتأكلَني الوحوش. أرغب في أن يكون يومُ وفاتي فرصةً لاجتماع الأصدقاء وشربِ الأنخاب والاستماعِ إلى الموسيقى والرقص والغناء ..."
لكنّها عندما عرضت الرسالة على والدها قال بغضب: "هذه فضيحة لا وصيّة." ثم مزّقها ورماها في سلّة المهملات.
***
حصلت الوفاة في ساعةٍ متأخّرةٍ من الليل. لم تتصل حنان بأحد، ولم تخبر الطبيبَ المُناوب. أرادت أن تودّعَه على طريقتها: أقفلتْ بابَ الغرفة، وأسدلت الستائرَ، ثم تمدّدتْ قربه في السرير، وكان جسدُه لا يزال دافئًا.
كان الدكتور صبري أخصائيًّا في جراحة القلب، وله سمعةٌ طيّبة في الوسط الطبّيّ. لذا كان يُوصى به لعلاج المسؤولين الكبار أو أُسَرهم. وكان يَعتبر أنّ من واجبه أيضًا مساعدةَ الفقراء، لذا خصّص يومًا في الأسبوع للمعاينة المجّانيّة، ويُجري عمليّة جراحيّة واحدة كلّ شهر بأجر رمزيّ أو بلا مقابل. ومع ذلك فقد كان يُعتبر شخصيّةً إشكاليّةً تدور الزوابعُ حوله أينما ذُكر اسمُه: فبعضُهم يصفه بالملحد، وآخرون ينعتونه بالزنديق أو السكّير. وقد اشتُهر بضعفه أمام النساء، وكانت له مغامراتٌ وفضائحُ دفع ثمنَها لاحقًا. ومن جملة مشاكله أنّه اختلف مع ابنه الوحيد (والدِ حنان) عندما اكتشف أنّه بدأ يميل إلى الفكر الدينيّ، فناقشه ساعات وساعات من دون جدوى، ثمّ أنهى الحوار بأن قال له:
"لا آبه لدينك. ولا يعنيني إلهُك الذي تعبده. فهذا شأنك. واعلمْ أنّك ابني الذي أحبّه، سواء عبدتَ الشيطانَ أو الرحمن. لكنْ عليك، في المقابل، أن تحترمَ أفكارَ غيرك وطريقةَ عيشهم."
أمّا علاقته بزوجته فكانت متوتّرةً بسبب انشغاله الدائم في الجامعة والعيادة والمشفى. لكنّ اهتمامَه بالسياسة، وانتسابَه إلى أحد الأحزاب، بالإضافة إلى سهراته المشبوهة خارج المنزل، كانت كلّها تُخرجها عن طورها. ووصل بها الأمرُ في أحد الأيّام إلى إضرام النار بإحدى بذلاته الرسميّة لأنها شمّت عليها رائحةَ عطرٍ نسائيّ غريب. حينها، لم ينبسْ بحرف عندما رأى بقايا البذلة المحترقة في زاوية الحديقة، بل توجّه إلى الحمّام كأنّ شيئًا لم يكن.
***
تتذكّر حنان الصدمةَ التي عاشتها، وكانت في العشرين، عندما سألتْه لماذا لم يُنجب سوى ولدٍ واحد. فقد أجابها بعد قليل من التفكير:
ــــ كنتُ في السنة الخامسة الجامعيّة حين التقيتُ جدّتك، في سهرة رأس السنة، في بيت أحد الأصدقاء، وكانت تكْبرني بسبع سنوات. وقد حصل أنني شربتُ كثيرًا من الخمر يومها، وفقدتُ قدرتي على التركيز. لم أكن أعرف عنها أيَّ شيء سوى اسمِها الغريب، سالومي. انتهت السهرة ونمتُ في بيت صديقي، أو بالأحرى أغمي عليّ هناك. عندما استيقظتُ صباحًا، وجدتها قربي في السرير، وكنّا عارييْن. وقبل أن أفهم ما حصل، سمعتُ جلبةً في الخارج. وفجأةً، اقتحم الغرفةَ أربعةُ رجال، فأوسعوني ضربًا، وحملوني معهم إلى مبنًى محاطٍ بالحرس. هناك، عرفتُ أنّها ابنة أحد المسؤولين الفاسدين الكبار. كانت جدّتُكِ قد فقدتْ غشاءَ بكارتها في تلك الليلة. وكانت فوهةُ مسدّس تسدّ حلقي، ورجلٌ يخيِّرني بين أمرين: "إمّا أن تتحمّلَ وزرَ فعلتكَ وتتزوجَها، أو أطلقَ النارَ على خصيتيك." وكما تريْن، كانت خياراتي محدودةً، فاحتفظتُ بخصيتيّ.
وتابع الدكتور صبري:
ــــ وكي تكتمل المأساة تبيّن أنّ جدّتكِ حبلى أيضًا. هكذا جاء والدُكِ إلى هذه الحياة. وبالطبع لم أرغب في ولدٍ آخرَ منها. فلم يجمعنا شيء طوال حياتنا سوى ذلك السرير وتلك الليلة الغريبة.
ثمّ أخبرها أنّه حاول مرارًا التملّصَ من هذا الزواج، فكانت تصله تهديداتٌ من والد زوجته؛ حتّى إنه مُنع من السفر. لذا حاول الانتقامَ على طريقته: بمعاشرة النساء، والإفراطِ في شرب الكحول، والسهرِ خارج البيت. ولطالما استُدعي إلى فرع التحقيق كي يفهم أنّه تحت المراقبة. وكان يعامَل باحترام، لا محبّةً به أو خوفًا منه، بل كي لا تحصل فضيحةٌ لا تليق بالعائلة الكريمة. وكانوا يزعجونه حين يقوم بما لا يُعجبهم، فيرسلون إليه عنصرًا من الأمن ليسأله أسئلةً لا معنى لها، قبل أن يغادر بأدبٍ معتذرًا عن الإزعاج.
هكذا بقي يلاعبهم لعبةَ القطّ والفأر، إلى أن عرفوا أخيرًا نقطةَ ضعفه، فهدّدوه بطريقة غير مباشرة بالطرد من نقابة الأطبّاء وسحبِ شهادته. فصار أكثر التزامًا بالبيت والعائلة، وابتعد عن السياسة ومعاشرة النساء.
وفي نهاية الحديث قال الدكتور صبري لحنان:
ــــ هناك أشياء لن أخبركِ عنها الآن.
***
عندما أنهت حنان دراستَها في الخارج، وعادت إلى الوطن أخصّائيةً في التخدير، كان الدكتور صبري قد ترك العملَ في مجال الجراحة بسبب مرضٍ جعل يديه ترتجفان. خلال فترة غيابها توفّيتْ جدّتها. وحين عادت حنان من السفر سمعت الناس يتهامسون ويتهمونه بقتلها. لم تصدّق هذه الأقاويل؛ فلو أراد قتلها لقتلها قبل أربعين عامًا. لكنّ ذلك لم يمنعها من إخباره بما سمعتْه:
ــــ هناك مَن يقول إنّ لكَ يدًا في موت جدّتي.
ــــ هذا صحيح، قال ببرود.
ــــ ماذا قلت؟ سألته متلعثمةً.
ــــ قلت إنّ هذا صحيح.
ــــ لم أفهم، هل قتلتها حقًّا؟
ــــ نعم، لقد فعلت.
أصيبت حنان بالخرس. كانت تنظر إليه غيرَ مصدِّقة؛ فهي تعرف أنه يعجزعن قتل نملة، فكيف سيقتل إنسانةً شاركتْه الحياة، وأنجبتْ ولدَه الوحيد؟ صحيح أنه لم يحبّها يومًا، ولكن لا بدّ من أنّ الحياة المشتركة قرّبتْ بينهما ولو قليلًا. وصحيح أنّ علاقتَه بابنه لم تكن قويّة، لكنّه ابنُه على أيّة حال. كانت مصعوقةً بما سمعتْه، وكان الدكتور صبري يسلّي نفسَه بحلّ الكلمات المتقاطعة في جريدةٍ كانت بين يديه. تركتْه وخرجتْ كي لا تقول شيئًا تندم عليه لاحقًا.
بعد ساعة، اتصلتْ به وطلبتْ لقاءه صباح اليوم التالي في الحديقة العامّة المطلّة على شاطئ البحر.
ــــ صباح الخير، لقد سبقتَني، قالت وهي تضمّه، بعد أن وقف وفتح ذراعيْه لاستقبالها.
طلبتْ فنجانيْ قهوة، ثم أشعلتْ سيجارةً وبدأت تنفث دخانَها بتوتّر.
ــــ لا بدّ أنّكِ لم تنامي طوال الليل، قال بصوت مذْنب.
ــــ لم أنم فعلًا. أريد أن أفهمَ ما قلتَه لي أمس.
ــــ هل تظنّين أنني مجرم؟
ــــ كلّا، بالتأكيد!
ــــ وإذا تبيّن أنني قتلتُ أحدًا عن سابق إصرارٍ وترصّد؟
لم تعرف بمَ تجيبه. طفر الدمعُ من عينيها. كانت تحبّه أكثر من أيّ شخص. كان مَثَلَها الأعلى، وملاذَها الأوحد. وكانت تثق به، ولا تخشى الحوارَ معه في أيّ أمر. تتذكّر تلك الليلة حين كانت طفلةً في الصفّ السابع. فقد شَكَتْ له أنّ رفيقَها في المدرسة غافلها ومدّ يدَه تحت تنّورتها وتحسّس أعضاءها الحميمة. استمع إليها جدُّها بهدوء، وبعد حوار قصير قال وهو يحتضنها: "رفيقُكِ هذا لا يعرف ماذا يفعل، ولكنْ عليكِ أنتِ أن تتعلّمي كيف تتصرّفين في مثل هذه الحالات." ثم اتصل بمدير المدرسة، وعرَف منه عنوانَ بيت التلميذ، وذهب من فوره وقابل والديْه، اللذين وعدا بمعالجة المسألة، والتنبّه إلى سلوك ابنهما.
وتتذكّر أيضًا عندما سرقتْ من الدكّان القريب علبةَ بسكويت كبيرة. لا تعلم إلى اليوم كيف عرف بالأمر، لكنّها تذكر أنه وبّخها، وأخذَها إلى صاحب الدكّان كي تعتذر منه، ثم دفع ثمنَ العلبة للرجل بعد أن اعتذر إليه بدوره أيضًا.
أمّا المرّة الوحيدة التي شكّكتْ في تعاطفه معها (وتبيّن لاحقًا أنّ شكوكها لم تكن في محلّها)، فكانت عندما أخبرتْه أنها حاملٌ في الشهر الثاني من أستاذها في الجامعة. لم تصدّق حين سمعته يقول ببروده المعهود:
ــــ مبروك.
انفجرتْ باكيةً وارتمت في حضنه وهي تشهق. لكنّها شعرتْ بالأمان حين أخذ يربِّت على ظهرها وكتفيها، ثمّ مسح دموعها، وقبّلها على جبينها، وطلب منها أن تغسل وجهها قبل أن يكملا الحديث. لم يوجّه إليها الكثير من الأسئلة؛ كان يريد أن يعرف أمرين فقط:
ــــ هل حصل هذا برضاكِ؟
ــــ نعم.
ــــ أتحبّينه؟
ــــ نعم.
في صبيحة اليوم التالي كانا في طريقهما إلى دمشق. اختار أن يحلَّ المشكلة هناك ــ ــ فمدينتُهم صغيرة، والكلّ يعرفه، وليس في حاجة إلى المزيد من المشاكل، له أو لها؛ بالإضافة إلى أنّ له في دمشقَ أصدقاءَ ومعارفَ يثق بهم في مثل هذه الحالات. بهذه البساطة حُلّت المشكلة. ولو لم تخبرْه بنفسها لما عرف أنّ الرجل الذي تزوّجتْه بعد عدّة سنوات هو نفسُه أستاذُها الذي أخفت هويّتَه عنه.
***
ــــ هل أُصبحُ بنظركِ مجرمًا؟ أعاد السؤال بصوتٍ أعلى، فأخرجها من تأمّلاتها.
ــــ هل قتلتَها حقًّا؟
ــــ لماذا تعيدين السؤال؟ نعم لقد فعلت.
ــــ والقَسَم الذي أقْسَمْتَه! أتذْكر قسم أبقراط؟*
ــــ أهذا ما يَشغل بالَكِ الآن؟ قال مستغربًا.
ساد الصمت بينهما للحظات. شعرتْ أنّها مشوّشة الذهن. أرادت أن تجدَ له عذرًا، لكنّها لم تعرف كيف. فعادت إلى الأسئلة:
ــــ كيف فعلتَ ذلك؟ ولماذا؟
ــــ إنّه سحرُ الدواء، وأنتِ طبيبة وتعرفين. وأمّا لماذا، فالقصّة طويلة وسأختصرها لكِ. لقد ضاعت حياتي سدًى. وكلُّ ما حقّقتُه من إنجازاتٍ طبيّة وعلميّة لا قيمة له، في نظري، أمام ما خسرتُه على الضفّة الأخرى. ما حصل، يا صغيرتي، أنّني اكتشفتُ بعد ثلاثين عامًا أنّني لستُ جدَّكِ البيولوجيّ. فلقد حصل في تلك السهرة أمرٌ خبيث، وتأكدّتُ من خلال فحص الجينات في مخابر فرنسيّة موثوقة أنّني لستُ والدَ والدك. وبالتالي لم أكن الشخص الذي أفقد جدّتَكِ عذريّتَها أو حملتْ منه. الأنكى من ذلك أنّها اعترفتْ عندما واجهتُها بالحقائق، وأخبرتني أنّ شخصًا آخر أجبرها على ممارسة الجنس معه، وأنها هربتْ بعد ذلك إلى الغرفة التي كنتُ أنام فيها واندسّت قربي في السرير. كانت تحبّني من بعيد، كما قالت لي لاحقًا، وتحلم بأن أبادلَها الحبّ، فاستغلّت الفرصة وخلعتْ عنّي ثيابي وأنا فاقد الوعي، ونامت قربي حتى الصباح.
وتابع:
ــــ كانت تريد أن تضعَني تحت الأمر الواقع لإحراجي، وأقسمتْ لي لاحقًا أنّ الأمر كان سيبقى بيني وبينها. لكنّ والدها اكتشف أنّها لم تسهرْ في بيت أختها كما قالت له، وعرف مكانَها بأساليبه الخاصّة، فأرسل رجالَه، والباقي تعرفينه. وكي أكون منصفًا فهي التزمت الصمتَ أمام والدها واكتفت بالبكاء. لكنْ ماذا تتوقعين أن يَفهم شخصٌ وجد فتاةً عاريةً مع شابّ في السرير، وآثار الدماء بين فخذيْها وعلى الفراش؟
كانت حنان تستمع إليه فاغرةً فاها. مَن أنا إذًا؟ مَن هو جدّي الحقيقيّ؟ كيف سأتعامل مع هذا الرجل بعد اليوم؟ غير أنّه قطع عليها تساؤلاتها:
ــــ لكنّ ذلك لم يكن سببَ إقدامي على قتلها. كان أمرًا صعبًا أن أكتشف ذلك الاكتشافَ بعد سنواتٍ من العِشرة، ولكنّني تقبّلتُ الأمرَ على اعتبار أنْ لا شيء يجمع بيننا.
هنا شعرتْ حنان بشيء من التعاطف معه؛ فليس سهلًا أن يكتشفَ المرءُ أنّ حياته كلّها قائمة على خدعة. استعجلتْه وسألتْ:
ــــ هل قلتَ إنّ هناك سببًا آخر لما أقدمتَ عليه؟
***
كانت الساعة السابعة صباحًا حين استيقظتْ حنان على صوت طرقاتٍ خفيفةٍ على الباب. وخلال دقائق كان خبرُ وفاة الدكتور صبري قد انتشر في المشفى، وبعد نصف ساعة كان "خبرًا عاجلًا" على شاشة التلفاز الوطنيّ، ومنه انتقل إلى باقي المحطّات. في اليوم التالي، أثناء الدفن، فوجئتْ حنان بالحشد الهائل من المعزّين: فقراء، أغنياء، مسؤولين رسميين،... بدا والدُها سعيدًا (هكذا اعتقدت عندما رأته يصافح الغادي والبادي ويوزّع ابتساماتِه هنا وهناك). أمّا والدتها فكانت تقوم بدور الدليل السياحيّ، فتعرّفها إلى المعزّين، وقد يصل بها الأمر أحيانًا الى إطلاق بعض النكات!
كان التابوت على حافّة القبر بانتظارالانتهاء من طقوس الصلاة. وبينما هي تتأمّله، عادت إلى حديثهما الأخير، فاختنقتْ بالدموع حين تذكّرتْه وهو يقول لها: "بالطبع أنا جدّكِ وسأبقى كذلك إلى نهاية العمر." ثم استعادت جوابَه عن سببِ ما أقدم عليه، وتخيّلتْه وهو ينتقي كلماته بدقّة وحرص.
عرفتْ أنّه كان يحبّ فتاةً عشرينيّة، وأنّها كانت متعلّقة به بشكل مجنون. ومن خلال هذه العلاقة استعاد شيئًا من حياته المسروقة، وبدأتْ تبتسم له الأيّام. لكنّ والدَ زوجته لم يكن ليَسمح بـ"تلويث سمعة العائلة بعلاقاته الماجنة ومغامراته العاطفيّة مع القاصرات،" كما قال له حين واجهه بالمعلومات والصور التي يملكها. وبعد شهرٍ من تلك المواجهة اختفت الفتاةُ مع عائلتها:
ــــ لقد اختفتْ تمامًا، كأنها لم تكن. لا يمكنكِ، يا حنان، تصوُّرَ الفراغ الذي تركته في روحي. لم يكن عندي ما يذكّرني بها سوى رائحتِها التي تركتْها على بذلتي. لكنّ جدّتكِ سالومي أحرقتْها، ورمتها في زاوية الحديقة، قرب حاوية الزبالة، لأراها عند عودتي فأموتَ قهرًا.
وأردف قائلًا:
ــــ لقد سامحتُها على سرقة حياتي كلّها، ولكنْ لم أستطع مسامحتَها على سرقتها لتلك الذكرى. ولهذا قتلتُها من دون أن يرفّ لي جفن. وها أنا أمامكِ عارٍ من أيّ شيء. فإمّا أن تقبليني كما أنا، أو أرحل.
ونهض يريد الرحيلَ، لكنّها أمسكتْه من يده، وشدّته إليها، فجلس ثانيةً، وضمّها إلى صدره، وبكى.
***
عندما انتبهتْ إلى ما يدور حولها رأت جسدَه يغيب في الحفرة، فشعرتْ بالذعر، وتمنّت لو تستطيع أن تمسكَ بيده مرّةً أخرى وتشدّه، لكنّ قواها خارت. خُيّل إليها أنّها تسمع صوتَ موسيقى وضحكٍ ورقصٍ وكؤوسٍ تُدَقّ وأنخابٍ تُرفع. ورأت طيفَ جدّها يُلّوح لها بيده من بعيد: كان يرتدي بذلتَه التي يُحبّها، وقد عادت كما كانت بكامل عطرها. ورأت عددًا كبيرًا من المرايا الضخمة تملأ المكانَ، وقد تَوَزّع الناسُ بينها، وتضاعفتْ أعدادُهم، كما تضاعفت أعدادُ القبور.
في تلك اللحظة، وقبل أن تفقد وعيَها، شعرتْ أنّها "نقطة،" بطلةُ تلك الحكاية القديمة، وأنّ أجنحتها قد احترقتْ بنار الحقيقة.
اللاذقيّة
* قسم أبقراط: قَسَمٌ يُقْسمه الأطبّاء عادةً قبل مزاولتهم مهنةَ الطب. وفيه يرِد المقطعُ الآتي: "ولن أقدّم عقارًا مميتًا إلى أيّ إنسان إذا سألني إيّاه." ويعتبر أبقراط (640 ق.م)، الملقّب بأبي الطبّ، صاحب فكرة هذا القسم الشهير.