"أعرفُ الحُبَّ من حائه إلى بائه. وأعرفُ العاشقة َمن عينيْها. فهيّا أخبريني: مَن هو سعيدُ الحظّ الذي لا يستحقّكِ؟"
كلّما تذكرتُ كلماتِ جدّتي هذه، أجدُ نفسي أبتسمُ وأترّحمُ عليها.
قالتها لي وأنا في الصفّ العاشرِ. في ذلك اليوم، كنتُ في رفقة صديقتي ليلى في طريقنا إلى المدرسة، حين سمعنا صوتَ دعساتٍ خلْفنا، رافقَها شخيرٌ ولهاثٌ فظيعان. أسرعنا الخطى، نُسابق خوفَنا، نحو مدرستنا التي تبعد عن بيتنا مسافةَ نصف ساعة من الزمن سيرًا على الأقدام.
كنّا، متى خرجْنا من حدود القرية، ندلفُ عبر طريقٍ ترابيٍّ ضيّقٍ إلى وادٍ يحتضن ساقيةً تغطّيها أحراشُ القصب. وكانت تلك الطريقُ تتلوّى في موازاة الساقية مسافةَ نصف كيلومتر، قبل أن تفترقَ عنها عند صخرةٍ كبيرةٍ اعتدنا تسلّقَها كما يفعل الماعزُ البرّيّ، لنخرجَ من الوادي، ثمّ نأخذ طريقًا آخرَ أكثرَ اتساعًا يمرّ وسط أرضٍ مكشوفةٍ تَظْهَر مدرستُنا في طرفها البعيد.
كنتُ وليلى نتعمّدُ التأخُّرَ عن رفيقاتنا لنقضي الوقتَ في الغناء وتقليدِ المطربين والمطربات. وكانت أصواتُنا الرهيبة وضحكاتُنا تملأ الوادي، وكان هذا يُشعرنا بالأمان. إلّا أنّ تلك الأصوات المرعبة التي لم نعرفْ مصدرَها جعلتنا نشعرُ بالذعرِ، فبدأنا الركضَ والصراخَ بشكلٍ هستيريّ. ولم نتوقّفْ إلّا حين سمعنا صوتَ ضحكاتٍ تسخرُ منّا. وتبيّن أنّ صاحبَ الضحكات هو كريم، شقيقُ ليلى، الذي كنتُ أُخفي إعجابي به طوال الوقت، بسببِ حيائي الشديد وقلّةِ ثقتي بنفسي.
شعرتُ بالفرح عندما ظهر من بين أوراق القصب وسيقانِه، على خلاف ليلى التي انهالت عليه بالشتائم، بل صارت ترميه بالحجارة، وهو يقفز هنا وهناك متفاديًا حجارتَها، إلى أن وصل إليها واحتضَنها وهو يضحك، وقلبي يرتجفُ مع ضحكاتِه، والخجلُ يفعل فعلَه بي. فجأةً، رأيتُه يمدُّ إليّ يدَه بورقةٍ مطويّةٍ من خلف ظهر ليلى، التي كانت تُصارعُ للخلاصِ من بين ذراعيه ومن قُبلاتِه التي جاءت بمثابة اعتذارٍ عن مزحتِه المُرعبة. عندما رآني جامدةً لا أتحرّك، مدّ يدَه أكثر، ودسَّ الورقةَ في جيب سترتي، وهمسَ لي بكلمتيْن لم أفهمْهما بسبب صرخاتِ ليلى الغبيّة وصوتِ مياه الساقية. وانتهى الأمرُ بأنْ رافقنا إلى المدرسة طوال ما تبقّى من الطريق.
***
كان قلبي يرتجفُ من شدّة الإثارة. ولمْ أسمعْ ماذا قالا، أو لأيّ أمرٍ كانا يضحكان. كنتُ في مكانٍ آخر تمامًا، غيرَ مصدِّقةٍ أنّ كريمًا، الذي تُلاحقه تأوهّاتُ صبايا القرية كيفما تحرّك، يختارني - أنا سُعاد - من بينهنّ جميعًا.
لم أكنْ جميلةً بما يكفي لكي أتجرّأ على التفكير به حبيبًا. وكلُّ ما كنتُ أفعله مُذْ عرفتُه هو مراقبتُه خلسةً، واستحضارُ وجهه مساءً وأنا في السرير، لأغفوَ وأصحوَ عليه. وها هو حبّي المدفون في صدري تُنْفَخُ فيه الروحُ، ويتحوّلُ بأعجوبةٍ إلى حقيقةٍ تمشي قربي على قدميْن!
كان قلبي يدقّ بقوّة وأنا أتخيّل الكلامَ المكتوبَ في تلك الرسالة. وأحسستُ أنّ لرؤوس أصابعي عيونًا راحت تتحسّسُ الرسالة وتقرأ كلماتِها:
"حبيبتي سعاد، أنتظر بفارغ الصبر اللحظةَ التي سأضمُّكِ فيها إلى صدري وأعتصرُ شفتيْكِ بين شفتيّ."
كنتُ أتخيّلُ المشهدَ منتشيةً باللذّة، حين شعرتُ أنّ الأرض بدأتْ تميدُ تحت قدميَّ. وقبل أن أعي ما يحصل، انهرتُ فجأةً. سمعتُ ليلى تستغيثُ طالبةً من كريم أن يفعل شيئًا. ثمّ شعرتُ بأحدهم يرفعُني عن الأرض، ويحملُني بين ذراعيْه، فتعلّقتُ برقبته بكلِّ ما أوتيتُ من قوّة. وبصعوبةٍ استطعتُ فتحَ عينيَّ، لأُفاجَأ بأنّ الذي يحملني ويركض بي هو أبو راغب، آذنُ المدرسة. فأغميَ عليّ من جديد، ولم أستفقْ إلّا وأنا في غرفة الإدارة، وإحدى المعلّمات ترشقُ وجهي بالماء، وأُخرى تُقحِمُ في أنفي قطعةً من القطنِ مبلَّلةً بالكحول.
أوّلُ ما فعلتُه بعد صحوتي كان التفتيش عن رسالة كريم. وكدتُ أجنُّ حين لم أرها في جيبي. صرتُ أقلّبُ جيوبي، الواحدةَ تلو الأخرى، ولكنْ من دون جدوى: لقد اختفتِ الرسالة! تحاملتُ على نفسي وبدأتُ الركضَ مترنّحةً إلى خارج المدرسة. صرتُ أمسحُ الأرضَ بنظراتي، وأضربُ بحذائي الحجارةَ والحشائشَ وكلَّ ما تقع عليه عينايَ. وحين يئستُ، جلستُ في مكاني وصرتُ أبكي بقهر. وبعد أن أعياني البكاءُ عدتُ إلى الداخل. ولم أجبْ عن سؤال ليلى المتكرِّر: "ألا تقولين لي عمَّ كنتِ تبحثين هناك؟" وقدّرتُ أنّ كريمًا هو مَنْ أخذ الرسالةَ من جيب سترتي حين أغمي عليّ، خشية أن تقعَ في يدِ أحدٍ ما.
***
عندما سألتْني جدّتي في ذلك اليوم إنْ كنتُ عاشقة، لم أعرفْ بمَ أجيب. بكيتُ ودفنتُ رأسي في صدرِها المفعمِ برائحة الحبق، فصارت تُربِّتُ على رأسي، وتُسرِّحُ خصلاتِ شعري بأصابعها المرتجفة، وهي تترنّم بأغنيةٍ تراثيّةٍ تحكي عن فتاة تنتظرُ حبيبها قربَ بركة ماء، فيمرّ على حصانه الأبيض ويرمي لها زهرةً، لكنّ الرياح تحملها بعيدًا، فتعْثر عليها فتاةٌ أخرى وتضعها زينةً في شعرها من دون أن تعرفَ سرَّها.
كنتُ أستمعُ إلى صوتها الحنون وأزدادُ التصاقًا بها. ولم أنتبهْ إلى وجود أمي إلّا حين قالت لها جدّتي: "اتركيها بحالها!" لتردَّ عليها وهي تبتعد: "لقد أفسدتِها بدلالِك."
***
في صبيحة اليوم التالي، لم أنتظرْ ليلى كالعادة لأرافقَها إلى المدرسة، بل ذهبتُ إلى بيتها وطرقتُ البابَ بقوّة. فتحتْ لي أمُّها (أمّ كريم)، ونظرتْ إليّ باستغراب.
- صباح الخير، قلتُ متلعثمةً.
- صباح النور يا عصفور، قالت ضاحكةً.
شعرتُ بالإحراج حين اكتشفتُ أنّ ليلى لا تزال نائمةً، وأنّ اليوم هو يومُ عطلة الجمعة. فلم أملكْ سوى الوقوف كالبلهاء، محاولةً البحثَ عن الكلمات المناسبة. أشفقتْ عليّ أمُّ كريم ودعتني إلى الدخول، فمشيتُ خلفها إلى الصالون، حيث تركتني وغابت في الداخل. عادت بعد لحظات، ومن ورائها ظهرتْ ليلى تفرك عينيْها، غيرَ مصدّقةٍ وجودي في بيتهم في هذا الوقت المبكّر، وأنا بلباسي المدرسيّ مع حقيبتي وشعري المسرَّح.
جلستُ عدّة دقائق لم أتكلّم فيها بأيّ حرف. ثم اعتذرتُ وعدتُ إلى البيت مسرعةً، وتوجّهتُ إلى فراشي، واندسستُ تحت اللحاف كما أنا (في ثياب المدرسة). بعد لحظات، سمعتُ جدّتي تقول لأمّي التي استغربتْ سلوكي "اتركيها بحالها!" وخلال لحظات - وعلى غير العادة - غفوتُ ورأيتُ كريمًا في المنام.
كان يبتسمُ والرسالةُ بين يديه. فمددتُ يدي لآخذها، لكنّه سحبها بعيدًا وراح يمزّقُها. فبدأتُ أصرخ: "لااااا أرجوك، لا تفعلْ!" لكنّه تابع تمزيقََها إلى أن انتهى منها. ثم اختفى فجأةً، وبقيتُ وحدي ألملم قصاصاتِها وأبكي بحرقة.
***
عرفتُ بعد يومين أنّه سافر إلى المدينة، اللاذقيّة، كي يُحضِّر لامتحان البكالوريا، وأنّه سيقيم في بيت خاله طوال تلك الفترة، أيْ لثلاثة أشهر على أقلّ تقدير. شعرتُ بأنّ روحي ستفارق جسدي، وبقيتُ لعدّة أيّام مريضةً لا أقوى على الحركة. كانت جدّتي هي الوحيدةَ التي فهمتْ ما حلّ بي من دون أنْ أخبرَها. لذا لازمتْني معظمَ الوقت، ولم تسمحْ لأحدٍ بالاقتراب منّي، وأجبرتني على تناول الطعام والعصير. كذلك أقنعتني بمقابلة الطبيب بعد رفضي مقابلتَه أوّل الأمر، فوصفَ لي بعضَ الفيتامينات، ونصحني بمغادرة السرير وتنشّق الهواء النظيف.
طوال الوقت لم أتوقّفْ عن التساؤل، والحيرةُ تقتلني: لماذا فعل ذلك بي؟ لماذا جعلني أتعلّق به ثم اختفى بهذه الطريقة؟ لماذا لم يسلّمْني الرسالةَ مرّةً أخرى؟ هل أنا السبب؟ هل ما حصل معي جعله ينفر منّي ويهرب؟
وسط هلوساتي هذه، تذكّرتُ أسمهان، ابنةَ خال كريم، وكانت في مثل عمري تمامًا. شعرتُ بنار الغيرة تفتك بقلبي، وازداد بؤسي وهمّي. وصرتُ أتخيّلهما معًا وأفكّر: لا بدّ أنّه سيحبّها. ومَن أنا كي أنافسَ أسمهان بما تتمتّع به من جمال، ومكانةٍ اجتماعيّة، وغيرِ ذلك من المميّزات لكونها ابنةَ أشهر تاجرِ ذهبٍ في المدينة كلّها؟! وفكّرتُ أكثر من مرّة في أن أذهب إليها وأصرخ في وجهها: "كريمٌ لي، لي أناااا، لقد كتبَ لي رسالة، اسأليه عنها!" ثمّ أعود فأغرق في نوبةٍ من البكاء، وأغوص في سريري لساعات، والأفكارُ السوداءُ تتلاعب بي.
***
تغيّبتُ عن المدرسة أسبوعين. ولم أبُحْ بسرّي لأحد، حتّى لصديقتي ليلى التي كانت تمرّ بي يوميًّا لتطمئنَّ عليّ وتشرحَ لي دروسَ الرياضيات والفيزياء وغيرها من الموادّ التي كانت تفوتني. وساعدني هذا فعلًا على الخروج من الحالة التي كنتُ فيها. وهكذا عدتُ إلى الحياة ثانيةً، وتابعتُ دراستي، ونجحتُ في نهاية العام بمجموع علاماتٍ لا بأس به. وعرفتُ فيما بعد أنّ كريمًا قد نجح في البكالوريا بعلاماتٍ ممتازةٍ تؤهِّله لدراسة أيّ فرعٍ جامعيٍّ يريده. ولم أره بعد ذلك اليوم المشؤوم إلّا من بعيد. وكنتُ أتجنّبُ الذهابَ إلى بيتهم متى عرفتُ أنّه في القرية. ثمّ تحوّلتْ مشاعري من الحبّ إلى الكراهية حين أسرّتْ لي ليلى يومًا أنّه وأسمهان على علاقة عاطفيّة ومن الممكن أن يخطبَها قريبًا. وهذا ما حصل فعلًا. ثم تزوّجا بعد عدّة سنوات وسافرا إلى ألمانيا، حيث تابع كريم دراستَه وحصل على شهادة الدكتوراه في جراحة القلب، قبل أن يعود إلى الوطن ويبدأ عمله في مشفًى خاص، ويلمعَ اسمُه في المدينة كلّها.
***
استغرقَ الأمرُ ثلاثة أعوام كي أشفى من حبّ كريم. واستطعتُ متابعةَ دراستي أثناء ذلك، ونلتُ أنا الأخرى شهادةَ البكالوريا، ثم انتقلتُ إلى الحياة الجامعيّة بعد أن اخترتُ دراسةَ طبّ الأسنان. أنهيتُ دراستي خلال فترة زمنيّةٍ قياسيّة، وافتتحتُ عيادتي الخاصّة بعد سبع سنوات من التعب والجهد. وبقيتْ ليلى صديقتي، وعرفتُ منها في آخر لقاء لنا أنّ أسمهان وكريمًا قد انتقلا إلى دمشق، وأنّه صار مديرًا لقسم الجراحة في أحد المشافي الخاصّة المهمّة هناك.
خلال هذه السنوات تعرّضتُ إلى رضّ نفسيّ آخر حين توفّيتْ جدّتي وشعرتُ أنّني صرتُ يتيمةً حقًّا، على الرغم من وجود أبي وأمّي على قيد الحياة. ثم تزوّجتُ من رجلٍ لا أعرفُ إنْ كنتُ أحبّه، ورُزِقتُ منه بصبيّ (سامي) وفتاة (بتول)، وهما اليوم في عمر المراهقة.
***
قبل ساعات قليلة غادر عيادتي الدكتور كريم الذي فاجأني بزيارته بعد أكثر من عشرين عامًا على اختفائه من حياتي. لم أعرفْه في بادئ الأمر، مع أنّ الممرّضة دخلتْ وأخبرتني أنّ هناك شخصًا يدعى الدكتور كريم في الخارج. لم يعنِ لي الاسمُ شيئًا، إلى أنْ وقف أمامي وسمعتُه يقول:
- ما أسعدَ حظّي!
فتذكّرتُ كلمات جدّتي "من هو سعيد الحظ الذي لا يستحقّكِ؟" فابتسمتُ له، ثم رحّبتُ به، ودعوتُه إلى الجلوس. وتبيّن أنّه في إجازةٍ لعدّة أيّام ويعاني ألمًا في ضرسه، وعندما سأل بعض أصدقائه عن دكتور أسنان "شاطر" في هذه المدينة نصحوه بي. هكذا وجدتُه أمامي، وعجبتُ من مشاعري الباردة تجاهه. لكنّني بعد دقائق شعرتُ بالغضب حين اكتشفتُ أنّه لا يعرفُ عنّي أيَّ شيء، في الوقت الذي أعرف أنا كلَّ شيء عن حياته. بل إنّه لم يكن يعرف أنّني طبيبةُ أسنان، وحين سمع باسمي من أصدقائه قال لهم "هذا الاسم ليس غريبًا عنّي." أخبرني بذلك وهو يضحك، معتذرًا عن ذاكرته السيِّئة كما قال.
***
لم أعالجْه، ونصحتُه بالذهاب إلى طبيبٍ آخر في الحيّ نفسه. كذبتُ عليه وقلتُ إنّني أشعر بصداع قويّ ووهنٍ عامّ، وإنّني كنتُ على وشك مغادرة العيادة قبل مجيئه بلحظات. وعندما تأهبّ للذهاب استوقفتُه وسألتُه:
- هل يمكنني أن أسألكَ عن أمرٍ حصل بيننا قبل سنواتٍ بعيدة؟
- بالتأكيد، قال وهو يتحسّس فكَّه مكانَ الألم.
- هل تذكر أنّك دسستَ رسالةً في جيب سترتي يومًا عندما كنتُ وأختَكَ ليلى في طريقنا إلى المدرسة؟
خرجت الكلماتُ من فمي كما تخرج بقايا معجون الأسنان من عبوتها حين يعتصرُها أحدُهم بين أصابعه.
بدا أنّه لا يعرف عمّا أتكلّم. انتظرتُه للحظات وأنا أتملّى ملامحَه: لا يزال وسيمًا - فكّرتُ - بل ازدادَ وسامةً بعد تحوّل شعره بفعل الشيْب إلى اللون الفضّيّ. كان واضحًا، من أناقته ونوعيّةِ ثيابه الفاخرة، المستوى المادّيُّ الذي يعيش فيه. وصرتُ أسأل نفسي وأنا أراقبُه: كيف سيتذكّر حادثةً من هذا النوع حصلتْ في عمر المراهقة؟ إلّا أنّ ابتسامته قالت شيئًا آخر، قبل أن يتنحنح ويسألني بدوره:
- وكيف تذكرين أنتِ هذه الحادثة؟
خطر في بالي في تلك اللحظة أنْ أقفز إليه من فوق المكتب، وأنهالَ على رأسه ضربًا بكعب حذائي، ثم أجرَّه من ياقته وأُجلسَه على كرسيّ المعاينة، وأخلعَ ضرسَه من دون تخدير، ثم أُكملَ على باقي أسنانه، وبعد ذلك أخلع لسانَه ولوزتيْه من جذورهما. استمتعتُ لبرهة بهذه الأفكار الشرّيرة قبل أنْ يُخرجني صوتُه من شرودي وهو يقول:
- نعم أذكر ما حصل. وأذكر جيّدًا كيف أغمي عليكِ حينها، وكيف حملك أبو راغب إلى داخل المدرسة.
- والرسالة؟ سألتُه وأنا أشعر أنني قطعتُ السلكَ الخطأ في عبوةٍ ناسفةٍ مُعدّةٍ للتفجير.
***
كما توقّعتُ: كان هو مَن أخذ الرسالة من جيب سترتي بعد سقوطي على الأرض. وفُجعتُ بمعرفة الحقيقة بعد كلّ تلك السنوات، وهي أنّني كنتُ مجرّدَ ساعي بريد.
فقد كانت الرسالة موجّهةً إلى ابنة عمّي صفاء، التي كانت تُطْربنا بصوتها الشجيّ في ليالي الصيف حين نسهر على سطح بيتنا تحت ضوء القمر. وتبيّن أنّ ما همس به ولم أفهمْه حين سلّمني الرسالة من خلف ظهر ليلى كان مجرّدَ كلمتين لا معنى لهما "خبّيها.. خبّيها" وأنا التي كنتُ مستعدّة لأن أدفع نصفَ عمري مقابلَ أن أعرف ماذا قال حينها.
بقيتُ عدّة دقائق أستمع إليه وهو يحدّثني عن مغامراته العاطفيّة، وذكرياتِه التي لم أكنْ جزءًا منها ولو لدقيقة. ويبدو أنَّه لاحظ ملامحَ وجهي وقد عكستْ ما في داخلي من غضب وقهر وحزن. ففهم أنّ عليه الرحيل، ظنًّا منه أنّ السببَ هو المرض كما أخبرته. لذا ودّعني وتمنّى لي الشّفاء، ثمّ خرج من دون أنْ يعرف أيّ خرابٍ تركَ خلفه.
***
كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرًا. ومع ذلك فقد طلبتُ من الممرِّضة الاعتذارَ إلى باقي المرضى، وقلتُ لها أنْ تذهب هي الأخرى إلى بيتها. وما إنْ صرتُ وحيدةً حتى انفجرتُ بالبكاء. كنتُ أبكي على نفسي لا على أيّ أمرٍ آخر؛ فقد كانت تلك الذكرى، على علّاتها، هي الشيءَ الوحيدَ الذي أبقاني متوازنةً نفسيًّا إلى حدٍّ ما، وكنتُ أقولُ لنفسي كلّما شعرتُ باليأس إنّ ثمّة مَن فكّر بي وكتب لي رسالةً غراميّةً في يومٍ من الأيّام. لكنْ ها هو السيّد كريم يأتيني من آخر الأرض ليمرِّغَ أنفي في التراب!
كنتُ أبكي على كرامتي التي هُدرتْ، وعلى سنيّ مراهقتي التي لم أعش منها كما يجب سوى تلك اللحظاتِ السحريّة. كنتُ أبكي على روحي العارية، الخجولةِ، المفجوعة. ولأوّل مرّةٍ في حياتي كنتُ أتمنّى الموت.
لا أعلم كم مضى عليّ وأنا على هذه الحال. ولولا صوتُ الطرْق القويّ على الباب لبقيتُ كذلك لساعات.
***
كان الطارقُ ابنتي بتول، التي مرّتْ مصادفةً من المكان، ولفتَ انتباهَها أنّ العيادةَ مضاءة، والبابَ مغلق. وشعرتْ بالقلق حين رأت سيّارتي في الخارج أيضًا. راعها منظري حين فتحتُ لها الباب. وبدأتْ تصرخ وتسألني عمّا حلّ بي. فقلتُ لها إنّني متعبة وفي حاجةٍ إلى القليل من الراحة. ثمّ دفعتُها أمامي إلى الخارج وأغلقتُ خلفي بابَ العيادة بقوّة.
كنتُ أقود السيّارةَ شاردةَ الذهن عندما طلبتْ منّي بتول التوقّفَ عند زاوية أحد الشوارع الرئيسة. توقّفتُ في منتصف الطريق بسبب السيّارات المركونة على يميني ويساري، وسألتُها عن السبب. قالت إنّها رأت رفيقَها خالدًا وتريد التحدّثَ معه قليلًا. عندما ذكرتِ اسمَه شعرتُ أنّه أكثر من "رفيق." نظرتُ إلى الخارج ورأيتُ شابًّا وسيمًا يقف تحت لوحةٍ إعلانيّةٍ يراقبُنا.
- هل هذا هو؟ سألتُها وهي تفتحُ بابَ السيّارة وتهمّ بالنزول.
- نعم، قالت وهي تلوِّح له بيدها.
رفعتُ مكابحَ اليد، ثم لوّحتُ له بدوري طالبةً إليه الاقترابَ، فجاء راكضًا.
كان من الواضح أنّه أكبرُ منها بعدّة سنوات، لكنني أحببتُه من النظرة الأولى.
- مرحبًا خالة، قال عندما صار ملاصقًا للنافذة.
- هل تحبُّها؟ سألتُه من دون مقدّمات.
كانت السيّارات في هذه الأثناء قد تكدّستْ خلفي بالعشرات، وبدأتْ تُطلق أبواقَها بجنون. لكنّني لم أهتمّ وبقيتُ أحدّقُ به منتظرةً الإجابة.
- نعم أحبُّها، قال بخجل.
- قلْ ذلك لها الآن.
لم يصدّق المسكينُ ما طلبتُ إليه، فنظر إليّ مستفسرًا إنْ كنتُ جادّةً في كلامي. والحقّ أنّني لو لم أرَ الحبَّ في عينيْه لما طلبتُ هذا الطلب، الذي استفزّ بتول وأحرجها، فصارت تهمس لي من بين أسنانها المطبِقة كأنّها توبِّخُني: "ماااااماااا!"
- قلها الآن، وإلّا نزلتُ وأوسعتُكَ ضربًا.
- بحبِّك، همس بخجل، وهو ينظر إلى عينيها.
- لا تتأخّري في العودة إلى البيت، قلتُ موجِّهةً الكلامَ إلى ابنتي. ثمّ أقلعتُ بقوّة بعد أنْ أنزلتُ مكابحَ اليد. ولم أكد أتحرّك حتّى سمعتُ صافرةَ شرطيّ المرور، ورأيتُه يتقدّم نحوي مشيرًا إليّ بأنْ أركن السيّارةَ جانبًا. تابعتُ سيري كأنّ شيئًا لم يكن. وحين تجاوزتُه نظرتُ في المرآة خلفي، ورأيتُه يسجّل رقمَ السيّارة في دفتر المخالفات. فما كان منّي إلّا أن أطلقتُ بوقَ سيّارتي، ثمّ أخرجتُ قبضتي من النافذة ورفعتُ له أصبعي الوسطى بحركةٍ لا تشْبهني في شيء. وفوجئتُ بسائقي السيّارات من حولي وخلفي يطلقون زماميرَ سيّاراتهم بشكلٍ متقطّعٍ تحيّةً لي وتعاطفًا معي. وانتقلتِ العدوى إلى باقي السيّارات في الشارع، حتّى ظنّ بعضُ المارّة أنّنا في موكب عرس. بل أطلقتْ إحداهنّ زغرودةً حادّةً اخترقت الفضاءَ وغيّرتْ مزاجي العكر خلال لحظات، فوجدتُني أضحك من "صماصيم" قلبي، وشعرتُ بالسعادة تغمرني وأنا أتخيّلُ صدى ضحكتي وتلك الزغرودة يتردّد فوق بيوت قريتي وفي جنبات ذلك الوادي البعيد.
اللاذقيّة