تجاوزْنا بسرعةٍ كلَّ الوشوم المخطّطة على جدران مدينة سري كانييه، التي خاضت أربعَ جولاتٍ مريرةٍ من القتال ولا تزال شوارعُها تحمل الكثيرَ من ذكريات القصف، وربّما مازال هواؤها يَختزن إرثًا من رائحة البارود وأنفاسِ القنّاصين. تمضي الحافلة الكوريّة الحديثة على الطريق، متجاوزةً أراضيَ تفْلحها جرّاراتٌ ألمانيّةٌ ضخمة، تُصدر جلبةً وصريرًا معدنيًّا مؤذيًا عند اقترابها من الطريق العامّ. يقود هذه الجرّاراتِ شبّانٌ ملثّمون، يتّقون شمسَ الخريف اللاذعة وفورانَ زوابعِ الغبار في الأرجاء. توقّفت الحافلة على مفرقٍ مرصوفٍ بتربةٍ كلسيّةٍ خشنة، تختلف عمّا حولها من طين أحمر، لينزلَ أحدُ الركاب. وسرعانَ ما تذكّر السائقُ أنّ للراكب أغراضًا في مؤخّرة الحافلة، فنزل متأفّفًا، وأغلق بابَ الحافلة الخلفيّ بعنفٍ بعد إنزال حقيبةٍ سوداءَ يعلوها الغبار، وكيسٍ مشقوقٍ من النايلون، يتدلّى منه كمُّ قميصٍ مقلّم.
سري كانييه، ودرباسية، وعامودا، وقامشلو، وتربه سبيه، وجل آغا، وكركي لكي، وديرك: تسمياتٌ كرديّةٌ لمدنٍ وبلداتٍ متتابعة، لأغلبها توائمُ من مدنٍ وقرًى محاذيةٍ لها على الطرف الآخر من حدود النكران والخديعة الأزليّة والرصاصِ إذ ينهمرُ من حرس الحدود التركيّ على صدور رجالٍ ونساءٍ حاولوا تجاوز الحدود نحو الشمال المتغطرس الهاذي. هي مسمّياتٌ لمدنٍ بات يقطرها شبحُ الهجرة إلى جحوره المظلمة، ليُنشِبَ في أجسادها حرائقَ الشوق إلى تلك الشتاءات الماطرة التي يمضيها القرويّون قرب المدافئ، وإلى مساءات الصيف على شارع الكورنيش في سري كانييه، المدمّرِ الآن.
ورق البردي المتطاول على نهر زركان يبدو مشبعًا بالخُضرة، رغم أنّ النهر مقطوعٌ ومياهَه محوّلةٌ إلى أحد سدود الحكومات التركيّة في الشمال. كذلك تبدو بعضُ حقول عبّاد الشمس خضراءَ مشبعةً باللون، تعلوها زهورُ فان كوخ الجميلة، معلنةً التزامَها الأبديّ بوجهة الشمس ومساراتها المعهودة. منظرٌ يعيد بعضَ الهدوء إلى الأفكار المصطخبة، وإلى سيْل الحنين الذي لا تقْدرُ أيُّ حكومةٍ على قطعه أو إنشاء السدود على مجراه.
عن قرب، تظهر بلدةُ درباسية، التي تحوي معْبرًا ذا وجهةٍ واحدة، ولا يَعْبره إلى الجانب الآخر إلّا مَن يحمل هويّةً تركيّة، أو بعضُ المرضى في الاستثناءات النادرة. مع كلِّ مطبٍّ يعيد إلى الحافلة صوابَها، ترفرف الستائرُ المصنوعةُ من كتّانٍ رديءٍ باهتِ اللون قريبًا من أفواه المسافرين، فتبعثِرُ أحاديثَ التبجّح والنكات الماجنة التي يلقيها شبّانٌ انتهبهم الضجرُ من الواتس آب، ومن استطالة الطريق الواصل بين سلسلة مدنٍ وبلداتٍ يفصل بينها طريقٌ إسفلتيٌّ تصاحبه مكائدُ الحفر وحواجزُ الأسايش.* هي مدنٌ وبلداتٌ متموضعة على طول الحدود، متتابعةٌ كفصولِ سنواتٍ تائهةٍ، تعصف بها رياحُ الخريف المحمّلة بالغبار والقشّ، لتزيدَ من الغباش الذي تُحْدثه الأسلاكُ وعرباتُ الجندرمة التركيّة. وعلى ضفاف هذه الحدود أقرباءُ موزّعون يرسلون السلامات وعباراتِ الشوق بعضهم إلى بعضهم عبر هواتفهم الخلَويّة، وآخرون يعبّئون عروضَ الإنترنت التركيّة ليُعلِموا أقرباءهم، عبر الواتس آب، بتفاصيل رحلاتهم السيزيفيّة نحو ألمانيا.
|
على الحدود التركيّة |
قرب قرية الحاتميّة، وهي إحدى قرى "عرب الغمر" الذين استقدمهم حزبُ البعث إلى المنطقة في سبعينيّات القرن الماضي، تجاوزتْنا بسرعةٍ جنونيّةٍ سيّاراتُ بيك آب رباعيّةُ الدفع بيضاء؛ بعضُها يمتلك بلُّورًا غامقًا لا يشفُّ عمّا خلفه، عليها أعلامٌ صفراءُ مثلّثة، تتوسّطها نجومٌ حمراء، يقودُها شبّانٌ صغار بثيابٍ عسكريّةٍ مرقّطة. علا صوتُ أحد الركّاب قائلًا: "إنّهم الــ هفال،** سيذهبون خلف جبل عبد العزيز ويقاتلون مع الحملة (في إشارة إلى وحدات حماية الشعب) تنظيمَ داعش." فردَّ عليه بلهجةٍ منكسرةٍ عجوزٌ متّكئٌ على علبةٍ من الكرتون المقوّى: "إلى أين يأخذون هؤلاء الشباب؟ ألا يكفي ما نالنا من مصائب؟!" نظر إليه المتحدّثُ الأوّل ذو النظّارة السميكة بنفورٍ، بينما لم يُظهر باقي الركّاب أيَّ اهتمامٍ لما دار بينهما.
وضعت امرأةٌ كيسًا من التشيبس في يد ابنتها الجالسة خلف السائق، فعَلَت ابتسامةٌ سريعةٌ وجهَها الصغير، غير أنّها لم تستطع فتح الكيس، فاكتفت باحتضانه وتوزيعِ نظراتٍ حائرةٍ على وجوه الركّاب. فتح أحدُ عناصر الحاجز بابَ الحافلة متأمّلًا الوجوهَ، ومعلّقًا الكلاشينكوف على صدره مبتسمًا، فازداد ذهولُ الصغيرة وقرّرت التخلّي عن مقعدها الضيّق والالتجاءَ إلى حضن أمّها.
اخترقتْ أصواتُ أعيرةٍ ناريّةٍ جسدَ الموّال الشجيِّ للمغنّي محمد عارف جزراوي، المنبعثِ من القارئ الرقميّ في الحافلة. أصوات الطلقات تأتي من نصيبين، المدينة/التوأم السياميّ اللصيق بقامشلو، والتي تَظهر أبنيتُها من خلف الأسلاك بعد أن تجاوزْنا حاجز هليليكه. ابتسم شخصان وتهامسا، ربما فرحًا بمشاركة الجيران لهم في معايشة الظروف التي مرّوا بها في سري كانييه والحسكة وتل تمر؛ ذلك لأنّ نصيبين وجزير وبلداتٍ أخرى باتت تستعيد ظروفَ التسعينيّات من القرن الماضي، إذ إنّ الجيش التركيّ يفرض عليها الحصارَ وحالةَ الطوارئ بعد أن عمّت الاشتباكاتُ مع أنصار حزب العمال الكردستانيّ مناطقَ عديدةً من الشريط الحدوديّ، وفي العمق ممّا يسمّيه الكرد "سرخت" أو "باكوري كردستان" ويسمّيه التركُ "جنوبَ شرق الأناضول." بدت نظراتُ باقي الركّاب متوجّسةً من انتقال الحرب إلى الشمال أيضًا، وبذلك ينسدُّ أفقٌ جديدٌ وتكتظّ الأذهانُ بأسئلة البقاء أو الهجرة.
أوصلتنا الحافة إلى قامشلو وقد بدأت الشمسُ ترسل أشعّتها الكهرمانيّة المتململة، مؤذنةً بمساءٍ جديدٍ يعجُّ بالسهر والجدال والضحك والكثير الكثير من محادثات الواتس آب.
سوريا/ القامشلي
*الأسايش: بالكرديّة تعني الأمن.
**هفال: كلمة كرديّة تعني الرفاقَ، أي المنتسبين إلى وحدات حماية الشعب.