كنتُ في باريس أستعدُّ للعودة إلى دبي حين وصلتني رسالةٌ من شاعرةٍ تونسيّةٍ معروفة، أخبرتني فيها أنّها قرأتْ قصيدةً لي على صفحة "شاعرة" أخرى تنسبها إلى نفسها، هي قصيدة "حين فقدتكِ." كانت صدمتي كبيرةً. فالقصيدة، إضافةً إلى كونها منشورةً في ديواني الأول، الأسئلة العطشى (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2001، رقم الإيداع الدوليّ 5-8193-01-977)، موجودةٌ أيضًا على موقع يوتيوب بإلقاء المبدع المصريّ حمزة الآغا، وشاهَدَها أكثرُ من أربعة آلاف مشاهد، وحصدتْ عشراتِ التعليقات. فكيف يمكن أن تُسرَقَ قصيدةُ شاعرٍ في وضح النهار، بينما هي منشورةٌ ومسموعةٌ ومقروءةٌ ومُسجَّلةٌ باسمه منذ حوالي عشرين عامًا؟!
شكرتُ الصديقةَ التي أخبرتني بالأمر، ولم أتردّدْ في مطالعة صفحة "الشاعرة" المدّعية على الفور. اسمُها رامونا يحيى، ولم أكن قد سمعتُ بها من قبل، وقد سرقتْ أكثرَ من عشرين نصًّا لي، ونشرتْها جميعًا باسمها في صحفٍ ومجلّاتٍ لم أسمعْ بها من قبل (سيروان السورّية، الأسبوعيّة العراقيّة، أمارجي السومريّة). إضافةً إلى صفحتها على فيسبوك، التي امتلأتْ بنصوصي المسروقة، وبإعجابات أصدقائها وهم يُثْنون على "موهبتها" الاستثنائيّة ويطالبونها "بإصدار ديوانها" الذي تشتغل على تجميعه (من قصائدي) وتنوي إصدارَه تحت تسميةٍ لافتة: كلمات! وقد تكون هذه التسميةُ مثارَ الابتسامة المريرة الوحيدة في القصة كلِّها؛ فلدى هذه "الشاعرة" من تفكُّكِ الرؤية، ومن عدم القدرة على حبْكِ عنوانٍ متّسقٍ مع جوهر القصائد التي سرقتْها، ما أعجزها عن إيجاد عنوانٍ أكثر ثراءً من مجرّد اٍلإشارة إلى جنسه: كلمات!
أرسلتُ إلى السيّدة يحيى رسالةً حاولتُ فيها تمالكَ نفسي، قائلًا بموضوعيّة: "إنّ مَن يسرق الشعرَ يا سيّدتي عليه أن يُنوِّعَ مصادرَه، لا أن يتعقّبَ قصائدَ شاعرٍ بعينه قصيدةً قصيدةً لينسبَها إلى نفسه. لقد فعلتِ ذلك مع عشرات القصائد لي، وبيننا القانون." فكان ردُّها الفوريّ أنْ أغلقتْ صفحتَها سريعًا، وحذفتْ كلَّ ما طالتْه يداها من قصائدي، فضلًا عن تعليقات معجبيها (وهم أبرياءُ ولا أدينُهم لأنّهم لا يعرفون أنّ ما يُشِيدون به مسروق). واختفت من فضاء الفيسبوك إلى الأبد، وإنْ بقيت القصائدُ المسروقةُ المنشورة في الصحف موجودةً كما هي في هذا الفضاء الأزرق، شاهدةً على جريمة أدبيّة لن تسقطَ بالتقادم.
ما أشعرني بالغضب أيضًا هو السادةُ رؤساءُ التحرير ومديرو التحرير الذين نشروا لهذه السيّدة. كيف اختَرقتْ صُحفَهم بنصوصٍ من دون أن يُفكّروا في التأكّد مِن نَسَبِها؟ ألم يفكّرْ أيٌّ منهم في وضع قصيدةٍ واحدةٍ مرسلة على محرّك البحث (جوجل) ليطالعَ القصائدَ كلَّها منشورةً في موقع أدب، ويوتيوب، وفي مواقع المجلّات والصحف العربيّة الذائعة، باسم مؤلِّفها الحقيقيّ؟ هل صارت السرقاتُ الأدبيّةُ سهلةً إلى هذا الحدّ ويُشتغلُ عليها لتَذيعََ في الصحف أيضًا؟ ما وظيفةُ سكرتير التحرير؟ وأين رئيسُ التحرير؟
هذه بعضُ القصائِد التي سرقتْها السيّدة من دواويني العشرة الصادرة عن دُورِ نشرٍ معروفة، وعن جهاتٍ حكوميّة، وبخاصّةٍ في مصر والإمارات ولبنان، أضعُها - مع مرارتي - بين أيديكم، إشهارًا لحقٍّ انتُهِك في وضحِ النهار:
- قصيدة "في تيهِ الفردوس الضائع" (ضمن ديواني أكذوبة السعادة المغادرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2003).
- قصائد "الوقت ليس بوقتنا" و"نهر الذكرى" و"غدًا ربّما تعلمين" و"موعد في الظلام" (ضمن ديواني الأسئلة العطشى).
- قصائد كثيرة من ديواني الثالث أغنيات الخريف الأخيرة (القاهرة: دار ميريت، 2004)، وأبرزُها: قصيدة "فلتعذري الغياب" (وهي موجودة على موقع يوتيوب، ومسجّلة صوتيًّا، وشاهدها واستمع لها أكثرُ من أحد عشر ألف متابع)، وقصيدة "مرايا السنين،" وقصيدة "العيون،" وقصيدة "في ليالي الحصار."
- أمّا ديواني السابع، في موعد الغيوم (الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2012، برقم إيداع دوليّ 4-850-4-9948) فلم يسلَمْ بدورهِ من سطو السيّدة، التي نشرتْ منه قصائدَ باسمها، هذه بعضُها: "الحزن" و"أنشودة الفرح" و"وجهها والطريق" و"الصمت والعيون" و"مرايا السنين."
فضلًا عن قصائد مسروقة كثيرة على صفحة الراحل الدكتور رشيد متّى، يقدِّم من خلالها السارقةَ المدَّعيةَ من دون علمه بالجريمة التي ارتكبتْها. وهذا بيانُها:
- القصيدة التي تبدأ بـ "كنتُ وحيدةً وكانت تدمعُ في قلبي كلُّ الأشياء؛ تتفتّح ذاكرةُ العشق وتمنح قلبي حزنَ العالم" هي، في الحقيقة، قصيدتي المعنونة "في تيه الفردوس الضائع" (المنشورة في ديواني، أكذوبة السعادة المغادرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2003، برقم إيداع دوليّ).
- القصيدة الثانية "لماذا تركتني بمفردي؟" هي أيضًا قصيدتي "الليل والطريق" (المنشورة في ديواني الرابع، بحارُ النبوءة الزرقاء، دار المحروسة للنشر والخدمات الصحفيّة، 2007).
- القصيدة الثالثة "بكرتْ طيورُ الحزن في القلب الذي مازال يرنو للأفق" هي، في الواقع، قصيدتي الأولى في ديوان الأسئلة العطشى. والقصيدة منشورة أيضًا في مجلّة العربيّ الكويتيّة عام 1999.
- قصيدة تقول فيها الأخت رامونا: "أقبلْ كالنهار! أقبلْ كالربيع الذي يتراقص في عشبِ عينيكَ." أمّا قصيدتي الأصليّة فتقول: "أقبِلي كالنهار. أقبِلي كالربيع الذي يتراقص في عشبِ عينيكِ حتى تعودَ فصولي التي خاصمت الازدهار."
- القصيدة السابعة "إذا أتيتُ في غدٍ بغير موعدٍ، فلتمنحْ قلبي السلامَ والأمان." يُلاحظ هنا الكسْرُ الناجمُ عن كلمة "فلتمنحْ." القصيدة الأصليّة بعنوان "موعدٌ مع الصمت" موجودة على موقع يوتيوب، بصوت المبدع المصريّ حمزة الآغا، وباسمي، وشاهدها الآلاف، وهي تقول: "إذا أتيتِ في غدٍ بغيرِ موعدٍ، فلتمنحي قلبي السلامَ والأمان." هنا استقام الوزن، ولا يوجد كسرٌ عروضيّ. والقصيدة منشورة في ديواني أغنيات الخريف الأخيرة.
- القصيدة الثامنة "أفنيت سنيني أحلامًا" هي قصيدتي المنشورة في ديواني الذي ذكرتُه للتوّ: "يسألني قلبي كيف نعود. من هذا الفردوسُ الممدود. العمرُ حرائق من خلفي، وعيونُكِ تمتدُّ أمامي.. واحاتِ المتعبِ والمكدود."
- القصيدة التاسعة "راح الليل يُحال لكونٍ من أحلامٍ حين أخذت يديه وتراقصْنا كشعاعيْن انفلتا فوق الغيم" هي قصيدتي "قلبانِ وليلٌ من أحلام" (المنشورة في ديواني، في موعد الغيوم).
- القصيدة الثانية عشرة "لو حدّق الجميعُ في العيون. لو حاولوا بأنْ يروا الأحزانَ خلف قبّة الزجاج" هي قصيدتي "العيون" (المنشورة في ديواني الثالث، أغنيات الخريف الأخيرة).
- القصيدة التي تبدأ بـ"كلُّ مساءٍ أجلس كي أنتظرك، يغمر روحي نهرُ الذكرى" هي قصيدتي المسروقة من ديواني الأوّل، الأسئلة العطشى، وهي بعنوان "نهر الذكرى."
- القصيدة التي تبدأ بـ"وتسافر السنواتُ من ربوع المُنى لصحارى الشجن" هي قصيدتي "مرايا السنين" (المنشورة في ديواني الثالث، أغنيات الخريف الأخيرة).
- القصيدة التي تبدأ بـ"فلتعذرْ غيابي إنْ طال! إنني تعبتُ من تفقّد المدى هناك في الضباب. هناك حيث تبتسم لي فيشرقُ الأمل. وتعبُس بعدها بلا ذريعة. وتهجر دونما عتاب." الكسر العروضيّ هنا واضح. فالقصيدة الأصليّة بعنوان "فلتعذري الغياب" (منشورة في ديواني أغنيات الخريف الأخيرة) تقول: "فلتعذري الغيابَ إنْ طالَ. إنّني تعبتُ من تفقُّدِ المدى هناك في الضباب. هناك حيثُ تبسمينَ لي فيورقُ الأمل، وترحلينَ بعدها بلا ذريعةٍ، وتهجرين دونما عتاب." ولم أتصوَّر أنّ نقلَ الضمير من المؤنّث إلى المذكّر يقودنا إلى اكتشافِ خرابِ ضمائرَ تسرق الكلماتِ والأفكارَ والقيمَ، وتنسبُها إلى نفسها بكلِّ صفاقةٍ وتبجّح.
حتى ديواني الأخير، لا شيءَ يوجعني (الشارقة: سلسلة مجلّة الرافد، دائرة الثقافة والإعلام، 2016، العدد 119)، سرقتْ منه الأخت رامونا قصيدتي "كلُّ ما لزم الرحيل" من دون أن تفكّر لحظةً أنّه ديوانٌ وصل إلى لائحة جائزة الشيخ زايد العالميّة للكتاب سنة 2017، ونفدتْ نسخُه بالكامل، ونوّهتْ به صحفٌ ومواقعُ كثيرة.
ما أدهشني أيضًا أن تقوم السيّدة بنشر هذه القصائد بأخطائها المطبعيّة، وبالتشكيل، وكما هي، "قصّ ولصق،" من دون أنْ تغيّر أيَّ شيءٍ منها سوى العناوين، التي حوّلتْها من صيغة المنادى المؤنّث إلى المنادى المُذكر، ليبدو "طبيعيًّا" أنّ هذه القصائد كتبتْها امرأة.
بينما أنا غارقٌ في ذهول هذه الصدمة، أشار عليّ أصدقاء لبنانيّون مخلصون لشرف الكلمة بأنّ الحلّ الوحيد لمواجهة هذه الكارثة الأخلاقيّة التي تعرّضتُ لها هو أن أرفعَ دعوى أمام القضاء اللبنانيّ لإثبات حقّي في المِلْكيّة الفكريّة - - وهو حقٌّ مصونٌ ومثبتٌ بصدور أعمالي المسروقة منذ وقتٍ طويلٍ في متونِ كتبٍ صادرةٍ بأرقام إيداع، وفي مجلاتٍ ثقافيةٍ ذائعةٍ وصحفٍ شهيرةٍ مثل الآداب، والعربيّ، والرافد، ودبي الثقافيّة، وبيت الشعر، والقاهرة، والقدس العربيّ، والأهرام، والأخبار، والهلال،... وأنّ المسألة محسومة لصالح الحقّ. فقرّرتُ العملَ برأيهم.
لكنّني أحببتُ أن أطرحَ أسئلةً أخلاقيًةً على السادة القرّاء، وعلى متابعي الآداب. ولعلّ السيّدة رامونا - التي اختفت تمامًا من دون أنْ تنبس ببنت شفة أمام مواجهتي لها - تقرأها الآن أيضًا:
هل يُدرك مَن يسرق نصًّا حجمَ الجريمة الأخلاقيّة التي يرتكبها؟ هل يعي المكابدةَ التي يعانيها شاعرٌ قد يعتزل الحياةَ والاختلاطَ بالناس ومدافَعةَ ظروف الأيّام فقط من أجل كتابة قصيدة؟ وهل مطلوبٌ من الشاعر أنْ يقرأ كلَّ المطبوعات ومواقع الإنترنت يوميًّا ليتأكّدَ من أنّ نصوصَه لم تُسرق؟ ألم يكن أجدى بالسيّدة يحيى أن تنخرطَ في ثورة شعبها على فساد النخب السياسيّة االلبنانية الحاكمة، بدلًا من أن تكون جزءًا من فسادٍ ثقافيٍّ مستشرٍ؟
أقول للسيّدة إنّ النصوص باقيةٌ لمبدعها لا لسارقها، وبيني وبينك القضاء، وطريق الحقّ طويل، ولا بديلَ عن السير فيه إلى نهايته. تمنّيتُ لو وجّهتِ "جهدك" في السرقات إلى جهدٍ آخر: قراءة سيرِ كُتّابٍ وأدباء لا تمتّين إليهم بصلة، لعلّ شيئًا يتغيّر في رؤيتكِ إلى مفهوم الأدب والقيم والموقف والأخلاق، وأوّلُهم سقراط في بحثه عن مفهوم الفضيلة، وصولًا إلى غسّان كنفاني وناجي العلي ومعين بسيسو وسعد الله ونّوس وخليل حاوي وصنع الله إبراهيم.
لكنْ في أيّ وادٍ أصيح؟
القانون سيحكم بيننا يا سيّدة. والتاريخ سيحكم. والأخلاق أيضًا ستحْكم... هذا إنْ سمعتِ بها.
دبي