"لا مانعَ من الديمقراطيّة ما دامت النخبةُ قادرةً على خلق إرادة الناس وتشكيلها": تلك المقولة يتداولها الجيلُ الثالث من المحافظين الجدد، نقلًا عن آبائهم المؤسّسين، وهم يستنسخون أو يمسخون النمطَ الديمقراطيَّ اللائق بدول "العالم الثالث."
صعد نجمُ الساسة الأمريكان الذين يدْعون إلى قيام الإمبراطوريّة الأمريكيّة بنشر "رسالتها" في العالم في فترة انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، وهي رسالة تنطوي على "الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان." وعلى الرغم من أنّ "حقوقَ الإنسان" وَجدتْ إطارًا يقوننُها، فإنّ مفهومَي "الحريّة" و"الديمقراطيّة" ظلّا خارج الإطار.
حملت الديمقراطيّة نقائضَها منذ نشأتها في اليونان؛ فقد كانت حكرًا على ذكور أثينا الأحرار الملاَّك، وسعت فقط إلى توسيع طبقة الحكم لتضمّ الملّاك إلى النبلاء. ثم بدأت الديمقراطيّةُ الأوروبيّة، التي نشطتْ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، محمولةً على تصوّرات طبقةٍ جديدةٍ كانت تأمل في كسر سلطة الكنيسة والنظام الملكيّ، وتخشى في الوقت نفسه من تسلّطِ الملكيّة و"طمعِ" الفقراء. تنوّعتْ أشكالُ الديمقراطيّة في أوروبا، والمصدّرة لاحقًا إلى الولايات المتّحدة، لكنّها توحّدتْ في أنَّ هذا المفهوم لم يتحقّق كما يجب، وإنّما هو في سعيه الدؤوب نحو التحقّق (يُذكر، بالمناسبة، أنَّ النساء في أوروبا، والسود في أمريكا، لم يحقَّ لهم الانتخابُ حتى بداية القرن المنصرم ومنتصفه).
مع كلّ توسّعٍ لشريحة الناخبين المشاركين في الحكم، كان يُلحظ تقلّصُ المشاركة لصالح "الاختيار،" لتُختزلَ في نهاية المطاف إلى صناديق الاقتراع. لكنْ يبقى أنّ الديمقراطيّة كانت أرقى أنماط الحكم، وإنْ سلّمنا بأنّها كانت أداةَ النظام الرأسماليّ لمواجهة الشيوعيّة وطريقَه إلى امتصاص غضب الشعوب. فلقد قدّمتْ إلى الشرائح الاجتماعيّة في بلدانها ما يحفظُها من ذلّ الاستبداد والحاجة، وإنْ أبقتها دون خطِّ الثورة.
لكنْ مع أزمة دول الرفاه في البلدان الصناعيّة، وانهيارِ نظام بريتون وودز، وازديادِ قيود الأسواق الماليّة، المترافقة مع تضخّم الديْن العامّ، أُجبرَتْ حكوماتُ تلك البلدان على الاتّجاه نحو إلغاء التأميم لصالح الخصخصة. هكذا تمّ الانتقال من النمط الليبراليّ إلى النمط الليبراليّ الجديد، ما عنى تحوّلًا من السيطرة المحليّة على الأسواق الرأسماليّة إلى السيطرة على السوق العالميّة، ومن ثمَّة التحوّل من سيطرة مجموعةٍ من النخب القوميّة والمحليّة إلى سيطرة نخبةٍ عالميّة.
انضوت الديمقراطيّة الجديدة تحت جناح الليبراليّة الجديدة. وهذه الأخيرة هي التمظهر السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ لظاهرة "العولمة" التي أكّدتْ وجوبَ انضواء الأسواق العالميّة تحت لوائها. وقد اقتضى ذلك "تصديرَ الديمقراطيّة،" بما يَضْمن امتصاصَ احتجاج الشعوب لحماية الأسواق المستحدثة، ويضمن أيضًا السيطرةَ على صنّاع القرار في تلك البلدان؛ بل أصبحت الديمقراطيّة شرطًا لدخول دول الجوار إلى المنظومة الدوليّة خوفًا من تأثير الاستبداد على الاقتصاد. ومع تحوّل الإعلام إلى آلة لتشكيل الوعي وتصنيع الإرادات، حصل انسحابٌ تدريجيٌّ للسياسة، بما هي مشاركةٌ في الحكم، لصالح مطلبيّاتٍ اجتماعيّةٍ "ثانويّة" (كالإجهاض والمثليّة الجنسيّة...).
مؤشّراتٌ ثلاثة تدلّلُ على تضاؤل الأثر السياسيّ للمجتمع في ظلّ الديمقراطيّات الجديدة. أوّلُها انحسارُ المشاركة السياسيّة في البلدان الغربيّة، وتراجعُ اليسار العالميّ في الدول الديمقراطيّة. ويتّضح المؤشّرُ الثاني في السياسات الخارجيّة، التي هي علاقاتُ هيمنةٍ على بلدان "العالم الثالث" تتناقض مع معاني الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان في نشأتها الأولى في أوروبا. أما المؤشّر الثالث فهو النماذج العينيّة من "المجاهدين" الغربيّين الذين يتوافدون إلى بلداننا لإقامة الخلافة؛ فهذه الظاهرة تشكّل طعنةً للديمقراطيّة الغربيّة من حيث كشفها لأزمة الهويّة التي دفعتْ بمواطنيها إلى البحث عن هويّةٍ بديلة.
أمّا في ما يتعلّق بمنطقتنا، فلم تكد موجةُ الديمقراطيّة الحلم تنطلق حتى وضع النظامُ العالميُّ ثقلَه لحرفها إلى السياقات المرسومة لسوقٍ "واعدة." فالرسالة الأمريكيّة في ضرورة تطبيقِ الديمقراطيّة تجاوزتْ تنظيراتِ المحافظين الجدد التي تقول بأهميّةِ حكم الدين بما يوفّره من قدرةٍ على تصنيع وعي العموم؛ كما تجاوزتْ دعوةَ فوكوياما إلى تصدير النمط الليبراليّ الجديد باعتباره "نهايةَ التاريخ"؛ لتبدأَ بتطبيق "الفوضى الخلّاقة" تمهيدًا لشرقٍ أوسط جديد.
فمع عناد الأنظمة الحاكمة أمام "موجة الديمقراطيّة" بدعمٍ من خصومٍ يريدون المزيد من المقاعد في برلمان النخبة العالميّة، لم تنجح اللعبةُ الديمقراطيّةُ كما يجب، إذ سقط الإخوانُ المسلمون ("الديمقراطيّون الجدد")، وكلاءُ هذه النخبة في المنطقة.
سقط الديمقراطيّون الجدد ولم تسقط اراداتُ التغيير. فقد خرجتْ جماعاتٌ مسلّحةٌ متناحرةٌ تسلّحتْ باسم "ديمقراطيّة" خاصةٍ تعني حكمَ الأغلبيّة الراغبة في تطبيق شرع الله. وخرجتْ أنظمةٌ متهاويةٌ تسلّحتْ بـ"المواطنة،" الوجهِ الحقيقيّ لديمقراطيّةٍ تحمي الأقليّات الدينيّة من جور الأغلبيّة المتشدّدة. وبرزتْ تدخّلاتٌ إقليميّةٌ تنادي بضرورة الانتقال الديمقراطيّ خارج حدودها. ونشطتْ تدخّلاتٌ غربيةٌ لدعم الديمقراطيّة المعاصرة. الكلّ يدعم "الانتقالَ الديمقراطيَّ" في المنطقة، بكلِّ ما أوتي من إرهابٍ متعدّدِ المستويات.
قال جوزف شومبيتر يومًا ما معناه: يروق للسياسييّن استخدامُ مصطلح "الديمقراطيّة" الذي تحبُّه الجماهير لأنه يمنحهم أفضلَ فرصةٍ لتجنّب المسؤوليّة، ويمكّنهم من سحق الخصوم باسم الشعب. أمّا الآن فإنّ السياسيّين يستخدمون مصطلحَ "الديمقراطيّة" لتبرير إرهابهم، سواء جاء على طائرات قوى التحالف الدوليّة والإقليميّة، أو على دبّابات الأنظمة المتسيّدة، أو على سيوف رجال الخلافة.
الإرهابُ وأد مسارًا شعبيًّا يسعى إلى الخلاص من الاستبداد، وإلى المشاركة في الحكم، وإلى تحقيق الوجود والحريّة، ووأد بدايةَ تحوّلٍ ديمقراطيّ حقّ. لكنْ، ما هو أسوأ من كلِّ ذلك القتل المتحقّق، هو موتُ المحتمل والممكن. فأيًّا يكن شكلُ الحكم القادم بعد انتهاء الحروب، فإنّ أثرَ حضور المجتمع سيكون خافتًا. إنّ الثمن الذي دفعته شعوبُ "موجة الديمقراطيّة" حتى الآن أكبرُ من أيّة نتيجةٍ متوقّعة، وستفكّر تلك الشعوبُ ألفَ مرّةٍ قبل خوض معركةٍ ولو في سبيل الفردوس المفقود.
دمشق