يمضي البرّيُّ وهو يضرب الأرضَ بقدميْه في فيافٍ أفلتتْ من عقال الطبيعة نفسِها.
ضبابٌ تكثّف أمامه، فبدا أشبهَ ببخورٍ يحترق. تماوجتْ في الجبل خيوطٌ بِيضٌ، وتداخلتْ مع ضوءٍ خافتٍ من شمسٍ غاربة.
سيقضي ليلتَه في الفيافي - ملكوتِه الذي يهيم به - حتى يرقَّ قلبُ ابنته سلمى، قال.
لقد أقسمتْ له زوجتُه "نجلا" بأنّها لن تخالفَه. وهي لم تخالفْه فعلًا. لكنّها لا تملك من أمر ابنتِها شيئًا.
داخلَ البيوت الفقيرة التعبة، سرى النبأُ كشرارةٍ هلِعة: سلمى تريد أن تتزوّج ابنَ الندّاف! طلب البرّيّ من "نجلا" أن تسكبَ لها طاسةَ الرعبة؛ فابنتُهما مسحورةٌ بلا شكّ، ولا يمكن أن تكونَ في كاملِ وعيها. وهو يفضّل أن يموت ألفَ مرّةٍ من أن يترك ابنَ الندّاف يتزوّج من وحيدته.
كالبرق، رسم خطّةً لخروج سلمى مع أمّها من القرية إلى بيتِ جدّها، الواقعِ في قريةٍ قصيّة. وحين أخبر سلمى بخطّته، وثبتْ مثلَ لبؤةٍ تدافع عن حبِّها. وكان على البرّيّ أن يَرفع الصوتَ احتجاجًا على ما أوقعه ذلك الشابُّ الأحمقُ بها.
البرّيّ رجلٌ وعرٌ، لكنّ قلبَه أبيضُ كالحليب. حين يتندّر، تقول في سرّك: "ما أمتعَه!" لكنّه حين يتكدّر، يصبح كجرفِ هاوية.
لا توجد عداوةٌ بين برّيّ وابنِ الندّاف، بل فجوة. فالبشر في النهاية لا يتساوَوْن: هناك أنسابٌ وأعراقٌ وجذور، وهناك غابةٌ تطفح بالطفيليّات. هذا ما تصوّره البرّيّ عن ابن الندّاف، ولا يمكن أن يكون للمسألة وجهٌ آخر . لكنّ كلَّ ما قاله البرّيّ لم يلقَ صدًى عند سلمى؛ فهي لم تعد غصنًا غضًّا، بل أصبحتْ قويّةً وناهضةً كشجرةٍ لا تكسرها الريح.
الحوار مع جيلٍ تعلّمَ، ودخل الجامعات، وانتمى إلى أحزاب، فيه ميلانٌ وخللٌ. ابنُ الندّاف لم يعد أجيرًا عند البرّيّ، والبرّيُّ لم يعد إقطاعيًّا بعد أن بدّد أراضيَه في عشق النساء. ثمّ جاءت الثورةُ، وأخذتْ ما بقي لديه من أملاك.
لم تمهّد سلمى الأمرَ للبرّيّ؛ فقد دخلتْ عليه فجأةً وأخبرتْه بأنّ ابن الندّاف سيأتي الليلةَ، ومعه الشيخ ليَعْقد قرانَهما. هكذا فُتحتْ كلُّ الأبواب الموصدة. لقد غيّرت الثورةُ كلَّ شيء: فابنُ الندّاف تعلّم، وهو اليوم مهندس، وعُيِّن في وظيفةٍ محترمةٍ في العاصمة، وسلمى سترافقه، وسينطلقان معًا ويبنيان مستقبلَهما، الذي لن يبدأ من نقطة الصفر؛ فالشركة منحتهما بيتًا!
***
ابتهجتْ سلمى بمجيء الليل. عطرُها ملأ المكانَ. نجلا تحضِّر المائدة؛ فالعروسان سيتناولان العشاءَ قبل أن يغادرا. كان البرّيّ يثرثر بشكلٍ عاصفٍ ومجروح. قال لسلمى: "أتمنّى أن تتراجعي عن قرارك مقابل كلِّ ما أملك!" قالت: "سأتزوّجُه!" رفع كفَّه في وجهها وقال بصوتٍ واهن: "ليت ذراعي تنقطع من المفصل إذا تزوّجتِه!" فردّت بعناد: "سأتزوّجُه!"
اندفعتْ نحو الباب تستقبل غسّان وتقودُه إلى غرفة الجلوس. غسّان شابٌّ نحيل، ضامرُ الصدر، يتحرّك مثلَ ذكر الماعز نحو أوراق الشجر. راح البرّيّ يتأمّله بصمت. همستْ سلمى لغسّان بألّا يَشعرَ بالإهانة من استقبال والدها له. وقالت له إنّهما لن يلبثا أن يمضيا معًا، وإنّ علاقتَه بوالدها ستتحسّن مع الوقت. تركتْهما جالسيْن، وذهبتْ لتُكملَ ترتيبَ حقائبها.
راح البرّيّ يدخّن بعصبيّة. حاول غسان أن يَخلق حديثًا بينهما. سأله:
- من زمان بتدخّن؟
لم يجب البرّيّ. تجاوز غسّان الصمتَ وأردف:
- أنا ما بدخِّن. بس اليوم رح دخِّن كرمالك.
أشاح البرّيّ بوجهه عنه. اقترب غسّان من علبة السجائر وأخرج لفافةً تبغ ، محاولًا تقليدَ البرّيّ. وحين انتهى، وضعها في فمه، ثم تقدّم نحوه، وبدماثةٍ سأله:
- ممكن القدّاحة؟
أعطاه البرّيّ القدّاحة وهو يرمقه ممتعضًا. أنهى غسّان سيجارتَه على عجل، وتناول أخرى بعد دقائق. طلب من البرّيّ قدّاحتَه ثانيةً، فأعطاه إيّاها، مكرِّرًا مشهدًا وحيدًا لم ينتهِ إلّا بوصول الشيخ وعقدِه قرانَ سلمى وغسّان.
***
انتهى العشاءُ ووصلت السيّارة. ارتمت سلمى في حضن البرّيّ مودِّعةً.
حانت لحظةُ المواجهة الفعليّة الأولى بين الرجُليْن. انكفأ غسّان وفكّر: يجب أن يناورَ الآن؛ فهو ابنُ الثورة، وبالسياسة سيحصل على ما يريد!
تراجع خطوةً إلى الوراء، وانشغل بحمل الحقائب. وقبل أن يغادر، التفت إلى البرّيّ قائلًا:
- عمّي!
ما أشدّ ما أوجعتْ هذه الكلمةُ البرّيَّ! لكنّه واجه غسّانَ بوجهٍ متجهِّمٍ يمتدّ عليه شاربٌ مفتول. فأكمل غسّان:
- عمّي، أنتَ حكيم، ونحن جايين على حياة جديدة، وهلّق صرت متل ابنك. فشو ممكن تنصحني نصيحة خلّيها ببالي كلّ حياتي؟
أجابه البرّيّ وهو يدير ظهرَه ويتجه إلى الداخل:
- اشترِ قدّاحة.
سوريا