خدعني المدعوّ عبد الهادي ــــ لا أريد أن أذكر كنيتَه حتّى لا أسيء إلى عائلته ــــ وخان الأمانةَ.
فقد اتّفقتُ معه على بناء شقّة إضافيّة على سطح بيتي، وكان قد دلّني عليه تاجرُ إسمنت وحديد وموادّ بناء، وهو يقيم على مقربة من ذلك المحلّ.
اشتريتُ الإسمنت والحديد من المحلّ، ومنحتُه مائتيْ دينار تحت الحساب. أوصلتْ سيّارةُ المحلّ الكمّياتِ. غادرتُ، بعد أن أوصيتُه وشدّدتُ عليه، فوعدني وهو يشدّ على يدي ويهزّها:
ــــ اطمئن يا رجل... وَلَو!
عدتُ صبيحة اليوم التالي، فلم أجد شغّيلةً. واختفى الإسمنت والحديد. دهشتُ، وتساءلتُ بقلق: "أين اختفى كلُّ شيء؟ أيكون عبد الهادي أخفاها كي لا تُسرق؟ ولكنْ، أين يُخفيها، ولا شيء حول البيت يمكن أن تُخفى فيه؟"
توجّهتُ إلى بيته، وقرعتُ البوّابة. سألتُ زوجته عنه، فجاءني صوتُها من وراء الباب:
ــــ ربّما في بيت زوجته الثانية يا أخي!
ومطّت صوتَها مع ضحكة ساخرة، ثمّ أضافت:
ــــ هل أعطيتَه سلفةً على الحساب؟
وارتفعتْ ضحكتُها.
هنا تصاعد قلقي، فتوجّهتُ إلى المحلّ الذي اشتريتُ منه موادّ البناء. سألتُ رجلَ الأمس عن عبد الهادي، فرفع حاجبيه مندهشًا:
ــــ أأنت متأكد أنّ البضاعة اختفت؟!
ثمّ أضاف وهو يضرب كفًّا بكفّ:
ــــ عجيب! لقد وعدني أن يغيّر سلوكَه، وأن يَصْدقَ مع الناس. ورجا منّي أن أساعده في الحصول على عمل. ولكنّ العُود الأعوج لا يُصلَحُ إلّا بالكسر!
وأضاف:
ــــ ليس لك إلّا أن تقاضيه. توجّهْ إلى المحكمة فورًا؛ فهذا الصنف يستحقّ الحبس والبهدلة.
***
أمام المحكمة ببنائها الشامخ المهيب، وعلى جانبَي الدرج العريض، تتراصّ مكاتبُ الـ"عرضحالجيّة." وكلُّ واحد منهم أمامه طاولة صغيرة. بعضهم يضع آلةً كاتبة، وكلّهم ينادي: "تفضّل يا أستاذ. تفضّل يا أخ. في خدمتك يا طيّب"!
أجلتُ نظري بينهم، فلفتني رجلٌ جمجمتُه كبيرة، وشعرُه الأسود والأبيض الغزير ينسدل على أذنيه، وعلى عينيه نظّارةٌ سوداء. اتّجهتُ إليه، وطرحتُ السلام. فأشار إليّ بأن أجلس على كرسيّ قشيّ قصير القوائم، ملاصقٍ لطرف طاولته التي تستقرّ عليها آلتُه الكاتبة:
ــــ هاتِ ما عندك، ما قضيّتك؟
شرحتُ له الأمر، فهزّ رأسه، وعلّق:
ــــ نصّاب آخر... شو هالحالة!
وأضاف:
ــــ سأكتب لك شكوى تخْرب بيتَه، هذا الواطي الحرامي النصّاب. أعطِني اسمَك، واسمه.
أخذتْ أصابعُه تلعب على أحرف آلته الكاتبة. ثمّ أخرج الورقة، وناولني إيّاها:
ــــ صدّقْني أنّ القاضي سينبهر، وسيَحكم لك. اتّكل على الله. هات ثلاثة دنانير.
مددتُ يدي بالدنانير الثلاثة. ولكنّني لم أكمل مدَّها لتصل إلى يده، بل سحبتُها ببطء، والدنانيرُ الخضراء الثلاثة ترتجف بين أصابعي. فرفع صوتَه بعصبيّة:
ــــ أين الدنانير؟ ناولني إيّاها! أمْ تريد أن تنصب علي؟!
وبينما كان يحرّك رأسه مع حركة جسمي، بعد أن غيّرتُ وقفتي، اشتبهتُ في أنّه أعمى.
ناولته الدنانير الثلاثة، ثمّ ابتعدتُ قليلًا.
عدت واقتربتُ منه، وغيّرتُ قليلًا في صوتي. سألني:
ــــ أمر؟
شرحتُ له أنّ هناك شخصًا استغلّني في بناء بيته، ولم يفِني أجري، فاضطررتُ إلى أن أبيع بعضَ الإسمنت والحديد الذي زاد عن البناء، فأخذ يشهّر بي عند جيراني وأقاربي.
رفع راحة يده:
ــــ ولا يهمّك. محتال آخر، يأكل عرقَ الناس، ويَنصب عليهم. سأكتب لك شكوى تجيب آخرته. الحقير، ما اسمه؟
ذكرتُ له اسمي كمتّهم، واسم عبد الهادي كصاحب دعوى، متوقِّعًا أن يتذكّر أنّني أنا مَن قدّم الشكوى قبل قليل، فلم يأبه.
أخذتْ أصابعُه تلعب على أحرف آلته الكاتبة، وأنا أتأمّله بانبهار: "أيعقل أنّ هذا الكاتب أعمى؟!"
ناولني الورقة:
ــــ ثلاثة دنانير يا محترم. صدّقْني أنّ القاضي سينبهر ممّا كتبتُه حول قضيّتك. وسيردّ لك شرفَك وسمعتَك.
لبثتُ واقفًا من دون حراك. فرفع رأسَه، وأزاح نظّارته السوداء عن عينيه الباديَتَي العمى، ومسحهما من العرق الذي يسيل عليهما في هذا الطقس الشديد الحرارة، ونفخ من أنفه بغضب وهو يقف، ويهمّ أن يمدّ يديه ليمسك بي:
ــــ هات الدنانير يا...
سألتُه:
ــــ يا... ماذا ؟
ــــ يا... مح... ت... ر... م؟ وإلّا سأعزر عليك.
ناولتُه الدنانير، فجلس وأخذ يتحسّس طاولته وأوراقه وآلته الكاتبة، كأنّما يطمئنّ عليها.
سألتُه بفضول:
ــــ ولكنْ، كيف تميّز أحرفَ آلتك الكاتبة، وتكتب بهذه السرعة؟
ابتسم وهو يميل رأسه باتّجاه صوتي:
ــــ كنتُ يومًا مبصرًا، وتعلّمتُ الطباعة. ولكنّني، وأنا أعمى، بتُّ أكسب أكثرَ من الأيّام التي كنتُ فيها مبصرًا. للعمى فوائد يا محترم!
ثمّ رفع رأسه، وسألني وهو يضحك:
ــــ ولكنْ، قل لي: كيف ستكسب القضيّتين معًا؟
استدرتُ، ومشيتُ ذاهلًا، ثمّ وجدتُني أضحك بصوت عال... حتّى إنّ المّارة أخذوا يتأمّلونني بفضول، ربّما ظنًّا منهم أنّني كسبتُ قضيّة خاسرة.
عمّان