في أقلّ من عام، تشهد فرنسا للمرّة الثانية حجْرًا صحّيًّا بسبب جائحة الكورونا. وفي أقلّ من عام، نجد أنفسَنا ملزَمين بالقيام بمهامّنا التعليميّةِ والبحثيّةِ عن بُعد. كنّا قد اعتقدنا جميعًا أنّ ما عشناه في آذار (مارس) 2020 سيندرج سريعًا في سجلّات الماضي، وأنّ "خطّةَ الاستمراريّة التربويّة" (Plan de continuité pédagogique) - هذه التجربةَ التعليميّةَ الفريدةَ في الأوساط المدرسيّة والجامعيّة الفرنسيّة - ستبقى استثنائيّةً في الدوريّات العلميّة. لكنْ، للأسف، ها نحن نخضع مجدّدًا للحَجْر الصحّيّ الكلّيّ، على الأقلّ في الجامعات والمدارس الكبرى. وخلافًا لربيع العام 2020، فإنّ عودةَ أكثر من 12 مليون طالب إلى مدارسهم بعد عطلة الخريف، في ظلّ إجراءاتٍ صحّيّةٍ ووقائيّةٍ غيرِ مسبوقة، تُعَدُّ في الواقع حدثًا مهمًّا في فرنسا.[1] صحيح أنّ المدارس الابتدائيّة والمتوسّطة والثانويّة تفتح أبوابَها، إلّا أنها تَخْضع لبروتوكولٍ صحّيٍّ مُكثّف؛ فإضافةً إلى قيود التنقّل الصارمة بين الصفوف والمطاعمِ المدرسيّة والباحات، فقد أصبح ارتداءُ الكِمامة إلزاميًّا للطلّاب ابتداءً من عمر ستّ سنوات.
إنّ خطّةَ الاستمراريّة التربويّة التي وُضعتْ في منتصف آذار 2020 تعني، ببساطة، التعليمَ "خارج فضاء الصفّ،" أي التحوّلَ من التعليم حضوريًّا إلى التعليم عن بُعد، أو التعليم إلكترونيًّا (E-Learning). ففي غضون أيّام، أصبحت الخطّةُ مسألةً وطنيّةً عليا، وسرعان ما طُبِّقتْ بمجرّد إغلاقِ المؤسّسات التعليميّة. وهو ما طَرح مباشرةً سؤاليْن جوهريّيْن: ما هي العقباتُ الرئيسة؟ وكيف دعمت الحكومةُ الفرنسيّةُ أساتذتَها وطلّابَها في هذا الانعطاف التربويّ الجذريّ؟
91% من الفرنسيّين يستخدمون الإنترنت.[2] لكنّ عدمَ المساواة في الوصول إلى التقنيّات الحديثة، لا سيّما مناطقيًّا (في العام 2019، 77% فقط من الأُسَر كان لديها حاسوبٌ واحدٌ على الأقلّ)، إضافةً إلى المسافات الثقافيّة التي تفْصل الأسَر ذاتَ الدخل المنخفض عن التكنولوجيا الرقميّة، تجعل خطّةَ التعليم عن بُعدٍ تُسْهم بشكلٍ فعّالٍ في تضخيم التفاوت الاجتماعيّ الملحوظ في ما يتعلّق بالرقمنة أو المكننة الإداريّة.
ومع هذا، فإنّ هذا الجيل من "الناشئة الرقميّة"[3](digital natives)، بحسب العبارة التي أشاعها الأمريكيُّ مارك برينسكي، يَطْمس حقائقَ مختلفةً جدًّا وتفاوتًا كبيرًا في استخدام التكنولوجيا الرقميّة ضمن الفئةِ العمريّةِ نفسِها. توضح الدراسةُ[4] الصادرةُ عن المعهد الوطنيّ للشباب والتعليم الشعبيّ (INJEP) أنّ جيلَ الشباب غالبًا ما يَستخدم الإنترنت للأنشطة المسلِّية أو لإرساء علاقاتٍ بعضهم ببعض، من دون أن تكونَ لديهم خبرةٌ متينةٌ في استخدام التقنيّات الرقميّة، خصوصًا التقنيّة المتعلّقة بالتعليم الإلكترونيّ.
والواقع أنّ المؤسّسات التعليميّةَ الفرنسيّة لم تكن مهيَّأةً بشكلٍ جيّد لهذا التحوّل القسريّ، على الأقلّ بالنسبة إلى الحَجْر الأوّل،[5] على حساب الطلّاب الأكثر حرمانًا. فالتدابير التي اتُّخذتْ لمكافحة الجائحة أذْكتِ الشرخَ الرقميَّ، ومن ثمّ التفاوتَ الاجتماعيَّ وعدمَ المساواة: فثمّة تغطيةٌ ضعيفةٌ في الأحياء الفقيرة والمحرومة، وسرعةٌ غيرُ كافية (بسبب غياب الألياف البصريّة التي تؤمّن أنترنتًا عاليَ السرعة)، بالإضافة إلى غلاء هذا النوع من الاشتراك، وعدمِ وجود جهاز كمبيوتر أو جهازٍ لوحيٍّ في منزل العائلة الواحدة، ناهيك بصعوبة الدارسة أو استحالتها في وجود باقي أفراد الأسْرة في المنزل.
ولقد قامت الجامعةُ بعمليّةِ جردٍ للصعوبات التي لاقاها الطلّابُ وما يزالون يلاقونها في الحصول على التكنولوجيا الرقميّة، واقترحتْ حلولًا لتزويدهم بالأجهزة الإلكترونيّة. ومع ذلك، تظلّ مسألةُ سرعة الإنترنت قائمةً؛ فهذه غالبًا ما تكون محدودةً لديهم بسبب "تقاسمهم" الإنترنت مع بقيّةِ أفرادِ الأُسْرة، ولا سيّما مَن يعملون عن بُعدٍ في منازلهم.
نحن أمام انسلاخٍ حقيقيٍّ في نقل المعرفة، وأمام دعوةٍ حثيثةٍ إلى الحضور الإلكترونيّ المعرفيّ والاجتماعيّ والإبداعيّ
أمّا بالنسبة إلينا، نحن الأساتذة والمدرِّسين، فقد وجدنا أنفسَنا بين ليلةٍ وضحاها مرغَمين على التكيّف مع هذا الوضع غيرِ المسبوق، متّكلين على الحواسيبِ والهواتفِ الذكيّة للقيام بالمهمّة التعليميّة بكافّة جوانبها، في ظلّ ظروفٍ استثنائيّةٍ أدّت إلى تغيّرٍ جذريٍّ في الروتين التدريسيّ والمهامّ التربويّة. هكذا أصبح أعضاءُ الهيئة التدريسيّة في الجامعات والمدارسِ الكبرى مطالَبين، في وقتٍ قصيرٍ جدًّا، باستخدام منصّاتٍ مؤسّساتيّة مرهِقةٍ، وغيرِ عمليّة، ولا اجتماعيّة، ولا تشاركيّةٍ، مثل موودل (Moodle) وشاميلو (Chamilo) وما شابه.
هكذا تحوّلتْ خطّةُ الاستمراريّة التربويّة إلى عملٍ مرتجَل، خضع له الجميعُ من دون استثناء. ولئن نجحتْ قلّةٌ في تطبيق هذه الخطّة، فإنّ غالبيّةَ المدرِّسين عانت قصورًا، بل غيابًا في التدريب على ممارسة التعليم الرقميّ وإدارةِ المجموعات الطلّابيّة عن بُعد: فكيف نكتب الدروسَ والتمارينَ بأشكالٍ جديدة؟ وكيف نصنع مقاطعَ فيديو تعليميّةً، أو نُصحِّح الواجباتِ المنزليّةَ عبر الإنترنت؟ وكيف نقوم بالنشاطات التقويميّة إلكترونيًّا؟ كلُّ هذا يتطلّب مهاراتٍ مختلفةً تمامًا عن نشاطات الصفّ المعهودة!
الجدير بالذكر أنّ التعليم عن بُعد ليس جديدًا في المشهد التربويّ الفرنسيّ (المركز الوطنيّ للتعليم عن بُعد[6]CNED، والفصول المفتوحة Open Classrooms)، أو على المستوى الجامعي ّ(المساق الأكاديميّ المفتوح عبر الإنترنت MOOC، والمساق الأكاديميّ الصغير المفتوح[7]SPOC)، إلخ.). غير أنّ لهذه الموارد التعليميّة المجّانيّة جمهورَها الخاصّ، ولا يمكنها أن تَحلّ محلَّ التدريس الوجاهيّ المباشر.
أدركت المؤسّساتُ الجامعيّةُ هذه التحدّياتِ والصعوباتِ الماثلةَ في الحجْر الصحّي. لذا سارعتْ إلى تزويد الأساتذة بالوسائل التي تسمح برقمنة التعليم، بل درّبتْهم على هذه الوسائل عن بُعدٍ أيضًا. فعلى سبيل المثال، وَضعتْ جامعةُ غرونوبل ألب[8]تحت تصرّف الأساتذة منصّاتٍ للتعليم عن بُعد، مثل شاميلو[9](Chamilo) ومُودل (Moodle). كما اقترحتْ عليهم دوراتٍ تدريبيّةً على استخدام هذه المنصّات، التي تُعَدُّ في هذه المرحلة أدواتٍ مُثلى لنشر الموادّ التعليميّة، وللتواصل المتزامن،[10] وغيرِ المتزامن،[11] والأنشطة التقويميّة، وما إلى هنالك من نشاطاتٍ تدريسيّة. وتقترن هذه المنصّاتُ بتطبيقاتٍ أخرى، كخدمة البثّ الصوتيّ والمحاضرات المسجّلة بالصوت والصورة. كما وَضعت الجامعةُ عنوانَ بريد إلكترونيّ (SOS informatique)، وعُيّن مرجعٌ معلوماتيٌّ في كلّ كلّيّةٍ لتذليل العقبات الناجمة عن استخدام هذه المنصّات التربويّة. بالإضافة إلى ذلك، مَنحتْ جامعةُ غرونوبل أعضاءَ الهيئة التدريسيّة في الملاك أجهزةَ كمبيوتر محمولةً،[12] ووَضعتْ تحت تصرّف الجميع (ومن ضمنهم الأساتذةُ المتعاقدون) أجهزةً لوحيّةً للاستخدام المشترك. وفي رسالةٍ مفتوحةٍ[13] إلى وزير التربية الفرنسيّ، جرت المطالبةُ بتخصيص مكافأةٍ مادّيّةٍ لجميع أساتذة فرنسا من أجل تجديد أجهزة الكمبيوتر كلَّ أربع سنوات.
وأيًّا كانت الحلولُ والتدابير، فقد أُرسِل الأساتذةُ إلى الخطوط الأماميّة لجبهة الاستمراريّة التربويّة، كما تقول ديفينا فراو ميغس،[14] من دون كِماماتٍ وبذلاتٍ واقية، ومن دون "إجراءاتٍ وقائيّة رقميّة" و"أجهزةِ تنفّس تربويّة" لا غنى عنها. ففي زمن كورونا، يُعَدُّ استمرارُ المهمّة التعليميّة من دون تأثيرٍ سلبيٍّ في الطلّاب التحدّيَ الحقيقيَّ الذي تتوجّب علينا مواجهتُه. والواقع أنّ الوضعَ الراهن، المرتبطَ بالسياق الصحّيّ ارتباطًا وثيقًا، أدّى، للمرة الثانية في العام 2020، إلى إحداث تغييرٍ في عمليّة مزاولة التعليم. فانتقلنا من تعليمٍ كلّيٍّ عن بُعد مع ظهور جائحة كورونا في آذار، إلى تعليمٍ مدمجٍ في بداية العام الدراسيّ الحاليّ، ثمّ العودة مجدّدًا إلى التعليم الكلّيّ عن بُعد اعتبارًا من تشرين الثاني 2020. ذلك أنّ الهدف أصبح التكيّفَ مع هذه الظروف، وضمانَ الاستمراريّة التربويّة، والاستعدادَ التامَّ لمواجهة هذا الوضع المأزوم. وهذا ما يحصل حاليًّا مع عودة الحَجْر الصحّيّ، ومعه عودة التعليم عن بُعد.
التعليم ليس عمليّةَ نقلٍ للمعرفة فحسب. فالعلاقة مع الطالب، والتفاعلُ معه وجهًا لوجه، والأحاسيسُ التي نعيشُها خلال الممارسة التدريسيّة؛ كلُّ هذه العوامل تلعب دورًا رئيسًا لدى المتلقّي في الحفظ والتعبيرِ عن الذات والبحثِ عن الإبداع وعن سبلِ تحقيقه. إلّا أنّ وباء الكورونا يَفرض علينا إعادةَ النظر في طرق التعاون والتعلّم التقليديّة، ويضع دورَ المدرِّس في نقل المعرفة في أزمةٍ حقيقيّة.
إنّ التحوّلَ التربويّ الجذريّ الذي نمرّ به، وكذلك تجاربنا المختلفة مع أجهزة التعليم عن بُعد (مثل الموك وغيره)، تُظْهر قبل كلّ شيء مدى اعتمادنا المتزايد على التكنولوجيا الرقميّة، ومدى الحاجة إلى ترويض استخداماتها. فالساعاتُ التي نقضيها أمام شاشاتِ التكنولوجيا إلى حدّ الشره، ووقوعُنا في فوضى الأخبار، إضافةً إلى المشاكل المستعصية التي ورثناها (ومن أهمّها ازديادُ عدم المساواة في التعليم بين أبناء الأحياء الفقيرة والأريافِ المحرومة من جهة وأبناءِ الأحياء الغنيّة من جهةٍ أخرى، ومن ثمّ عدم المساواة في الدخول إلى الجامعات الأفضل تصنيفًا عالميًّا، بحيث نكون إزاء نظامٍ تعليميٍّ ذي سرعتيْن)، أصبحتْ كلُّها اليوم أكثرَ حدّةً في إطار هذا التحوّل في الممارسات التربويّة. بعبارةٍ أخرى، نحن أمام انسلاخٍ حقيقيٍّ في نقل المعرفة، وأمام دعوةٍ حثيثةٍ إلى الحضور الإلكترونيّ المعرفيّ والاجتماعيّ والإبداعيّ؛ علّ هذا الحضورَ يُسهم في التفكير في عالمِ ما بعد كورونا.
بيروت
[1] بحسب صحيفة لوموند، 2/11/2020.
[2] وفقًا لصحيفة لوموند، 17/3/2020.
[4] لمعرفة المزيد عن هذه الدراسة، اقرأ:
Claire Balleys, «Socialisation adolescente et usages du numérique,» INJEP, 2017, Paris
[5] لهذا السبب، أبقت الحكومةُ الفرنسيّة المدارسَ والثانويّاتِ مفتوحةً في الحَجْر الثاني، أي حجْر تشرين الثاني.
[6] ظهر المركزُ الوطنيُّ للتعليم عن بُعد في العام 1932، وصار له موقعُ إنترنت منذ التسعينيّات.
[7] السبوك (SPOC) هو موك، لكنّه يقتصر على عددٍ صغيرٍ من المشاركين (حوالي الثلاثين) يُختارون مسبّقًا مع دفع رسوم التسجيل. والسبوك أقربُ إلى الصفّ الافتراضيّ. الموك والسبوك لا يمْكنهما منحُ شهادات تؤهِّل للدخول إلى مراحلَ تعليميّةٍ أعلى.
[8] جامعة غرونوبل ألب من أكبر جامعاتِ فرنسا، إذ تتضمّن ثمانين مركزًا للأبحاث، وتستقبل حوالي خمسين ألف طالب، وتتجاوز ميزانيّتُها السنويّة نصفَ مليار يورو.
[9] "شاميلو" مشتقّ معجميًّا من المصطلح الإنكليزيّ chameleon، الذي يعني: حرباء. وقد أُطلِق مشروعُ شاميلو رسميًّا في العام 2010.
[10] التواصل المتزامن هو التواصل التربويّ والتعليميّ بين الأستاذ والطالب في الوقت الفعليّ عن طريق محاضراتٍ بالصوت والصورة، أو الصف الافتراضيّ، أو الدردشة، وما إلى ذلك.
[11] التواصل غير المتزامن يتمّ عبر طُرُق اتصالٍ لا تتطلّب حضورًا متزامنًا.
[12] في حين أقرضت الأساتذةَ المتعاقدين الأجهزةَ الإلكترونيّة.