كاتب وإعلاميّ لبنانيّ. كتب في الصحافة اللبنانيّة وعمل مقدّمَ برامج تلفزيونيّة.
بُعيْد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، كان عددٌ من المثقّفين الرافضين للهيمنة الغربيّة، ولنُظُم الثقافة التقليديّة، قد بدأوا، في طهران، العملَ على تأسيس حلقةٍ فكريّةٍ ستُعرف باسم "كيان." غير أنّ خطابَهم لم يجد سبيلَه إلى أرض الواقع إلّا مع تسلّم الرئيس محمد خاتمي مقاليدَ السلطة. المفارقة أنّه ما بين أوائل الثمانينيّات وأواخر التسعينيّات، اعترى الفضاءَ الثقافيَّ الإيرانيّ، وخطابَ "كيان" نفسَه، الكثيرُ من التغيّرات.
في هذه المقالة سنُطلّ على أبرز أفكار "حلقة كيان،" لنحاول تقديمَ مشهدٍ عن الجدل الثقافيّ والفكريّ المستعر في إيران -- وهو جدلٌ يتجاوز إيرانَ الدولة، ليصل إلى الحالة الدينيّة الشيعيّة بأسرها.
***
تاريخ المثقّف في الحاضرة الإيرانيّة
يرجع أوّلُ ظهور جليّ للمثقّف الحديث في الحالة الإيرانيّة إلى حقبة الحرب الإيرانيّة - الروسيّة (1804 - 1813)، فترةَ الحكم القاجاريّ. لمحسن حبيبي مقالةٌ بعنوان "الانعكاسات الأولى للحداثة في إيران،" يذكر فيها مراحلَ تطوّر الثقافة الحديثة في إيران، فيبتدئها بالمرحلة القاجاريّة؛ وذلك عندما خفتَ نجمُ الإقطاعيّة، وقويَتْ شوكةُ الرأسماليّة، وبدأ الأمراءُ والبرجوازيّون الإيرانيّون يسافرون إلى الخارج بغيةَ التحصيل العلميّ في جامعات أوروبا. وفي هذا الصدد، يميّز علي الرضا علوي تبار بين ثلاثة اتجاهات ثقافيّة في تلك المرحلة بالتحديد، وهي: 1) اتجاهٌ شجب سيادةَ العقل و"هزيمةَ الله،" ورأى أنّ على الإيرانيّين أنْ يبقوا غافلين عن أيّ قيمٍ أو مؤسّساتٍ تمتُّ إلى الحداثة بصلة. 2) اتجاهٌ رفَضَ الوضعَ السائدَ آنذاك في إيران، وآمن بثمار الحداثة العمليّة الملموسة (على غرار الصناعة) من دون الأخذ بمرجعيّاتها الثقافيّة والفكريّة. 3) واتجاهٌ أثنى على عقلانيّة الحداثة الغربيّة، واعتبرها مفتاحًا أوحدَ للتقدّم.
يرجع أوّلُ ظهور للمثقّف الحديث في إيران إلى فترة الحكم القاجاريّ
أما المرحلة الثانية فابتدأتْ مع نهاية حقبة السلالة القاجاريّة، وفي ظلّ حركة "المشروطة" (أي الحركة الدستوريّة التي نادت بفرض شروطٍ على الحكم الملكيّ المُطلق)، حينما بدأ الوعيُ السياسيّ بالمشاركة السياسيّة في التزايد بين الإيرانيّين. وبلغ الأمرُ أوجَه مع بدايات المرحلة البهلويّة (أربعينيّات القرن المنصرم)، إذ تضاعفتْ وتيرةُ التمدّن، وزاد التعليمُ الإلزاميّ من حظوظ الطبقة الوسطى في التعليم اللائق، وأفضى إلى تنوُّع الحلقات التي تُعنى بالفكر: من حَمَلة الشهادات الجامعيّة، إلى أصحاب المناصب الإدرايّة وأعضاء الجيش، وغيرِهم ممّن باتوا محسوبين في عداد "المثقّفين." وهذه المرحلة تميّزتْ بظهورٍ واسعٍ لمثقّفي الطبقة الوسطى، الذين اقتحموا الأسواقَ والأروقةَ والأزقّةَ في ضواحي المدن الإيرانيّة، وحملوا شعاراتِ القوميّة والتغريب والتحديث على الطريقة الأوروبيّة.
المفارقة أنّ المؤسّسة الدينيّة، التي كانت جزءًا من الحَراك السياسيّ الجديد مع بدايته (من خلال مشاركة الشيخ النائيني في حركة "المشروطة")، سرعان ما انطوَتْ وانزوَتْ مع إقصاء السلطة لها؛ ما أسّس لنمطيْن ثقافيّيْن تغوّلا داخل إيران: ثقافة ريفيّة دينيّة، وأخرى مدينيّة علمانيّة. وبقي الأمرُ على حاله حتى أواخر السبعينيّات، مع انفجار الشارع الإيرانيّ، وانتصارِ الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة.[1]
أمّا المرحلة الثالثة، التي ابتدأتْ مع انتصار الثورة، فتميّزتْ بظهور شريحةٍ جديدةٍ من المثقّفين الإيرانيين، يمكن أنْ نسمّيَها "طبقة مثقّفي الأطراف." وهي فئةٌ من المثقّفين المتعلّمين المنحدرين من طبقاتٍ اجتماعيّةٍ دنيا، الأمرُ الذي قد يُفسِّر تعاطفَهم الشديدَ مع المستضعَفين والفقراء. وكانوا بأجمعهم - عَلمانيّين وغيرَ علمانيّين - مناوئين للقوى الغربيّة الإمبرياليّة، لا سيّما الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا، ومكافحين ضدّها نتيجةً لتاريخها الحافل بالقهر والاستبداد. وهم وجدوا في الثورة الإسلاميّة نوعًا من التحدّي الهويّاتيّ الإيرانيّ للغرب، وللكمبرادور الثقافيّ والسياسيّ الرازح فوق ظهورهم في المدن الإيرانيّة، فالتفّوا حولها، على الرغم من تعدّد مشاربهم، ما دامت موضعَ انتقاد الغرب والمثقّفين الغربيّين.
تأسيس حلقة "كيان"
في أعقاب الثورة الإسلاميّة (1979)، ومع انتهاء الحرب الإيرانيّة - العراقيّة (1988)، برزت الحاجةُ لدى المثقّفين الجدد إلى تحديد هويّتهم ومبادئهم، والقضايا التي ينبغي ان يشتغلوا بها، والفئات التي ينبغي أن يعبّروا عنها. وهذه القضايا دفعتْ بجملةٍ من التيّارات الثقافيّة الجديدة إلى رفع شعاراتٍ سرعان ما تحوّلتْ إلى عناوينَ للبّ النقاش الثقافيّ في المشهد الإيرانيّ. وسيُعرف أحد هذه التيّارات، مع الوقت، بـ"حلقة كيان" الإصلاحيّة.
تأسّستْ "كيان" على يد حسن شاهقراغي في مؤسّسة "کیهان،" التي كانت من أكثر المؤسّسات تأیيدًا للنظام بعيْد الثورة، وكثيرًا ما اعتُبرتْ آنذاك متطرّفةً، وفي أقصى اليمين الدينيّ. كان من بين أعضاء "كيان" الأساسيّين طلّابٌ شاركوا في الهجوم على السفارة الأميركيّة سنة 1979، وسمّوا أنفسَهم في تلك المرحلة "الطلّاب المسلمين التابعين لخطّ الإمام الخمينيّ."
بعض أعضاء "كيان" شاركوا في الهجوم على السفارة الأميركيّة سنة 1979
في الثمانينيّات صار هؤلاء الطلبة رقمًا صعبًا، وتولّوْا مناصبَ رفيعةً في وزارات الدولة، ومكتبِ رئاسة الحكومة، والهيئاتِ القضائيّة، وغيرِها من المؤسّسات المهمّة. أمّا في عهد الرئيس رفسنجاني فقد ابتُعث الكثيرُ منهم إلى الخارج تحصيلًا للعلم.
تنوّعتْ نشاطاتُ أعضاء "كيان" - - من إنشاء حلقاتٍ درسيّة حول الحضارة الغربيّة، وصولًا إلى تأسيس أحزاب سياسيّة. وتُعدُّ "جبهةُ المشاركة الإسلاميّة الإيرانيّة" من أكثر هذه الأحزاب بروزًا، إذ لعبتْ دورًا كبيرًا عقب انتخابات العام 1997 الرئاسيّة، التي أوصلت السيّد محمد خاتمي إلى سدّة الرئاسة.[2]
الموضوعات التي طرحتها "كيان"
الموضوع الأوّل: التعدّديّة. تُعتبر التعدّديّة من أبرز موضوعات حلقة كيان. يرى عبد الكريم سروش، أحدُ روّاد الحلقة، أنّ التعدّديّة تعني "الاعترافَ بالتنوّع والكثرة، والإقرارَ بتباينٍ - لا يقْبل الاختزالَ ولا المقارنةَ - بين الثقافات والأديان واللغاتِ والتجارب البشريّة."[3]
انطلق سروش من التراث الدينيّ نفسه - - وهنا كانت المقاربة الخطرة بالنسبة إلى الحوزة التقليديّة! ففي كتاب القبض والبسط في الشريعة، يكشف سروش أنّ فهمَنا للنصوص الدينيّة متعدّدٌ ومتنوّعٌ بالضرورة، وأنْ لا سبيلَ إلى اختزال هذا التعدّد والتنوّع في فهمٍ واحد. والسرّ في ذلك، كما يقول، هو أنّ النصّ صامتٌ، والبشرَ يستعينون بتطلّعاتهم وهواجسهم وقبْليّاتهم من أجل تأويل النصوص الدينيّة، سواءٌ على صعيد الفقه أو الحديث أو تفسيرِ القرآن.
أمّا الوجهة الأخرى للتعدّديّة، وهي الأخطر على الفهم التقليديّ للدين، فتكمن في التجربة الدينيّة نفسها، بما هي حدثٌ شهوديّ[4] بين الإنسان والمطلق المتعالي. ينطلق سروش من جملة آياتٍ قرآنيّةٍ تفترض أنّ الوجود ينبني بالوحي: ۞ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُون۞. الوحي، بهذا المعنى، مسألةٌ ملازمةٌ للخَلق، وإحدى خواصّ النفحة الإلهيّة في هذا الوجود. والوحي عنده يتجاوز الفهمَ التقليديّ للتجربة النبويّة نفسها. يسمّي سروش الوحيَ "وحيَ الفؤاد،" ويعتبره خبرةً روحيّةً شخصيّةً في قلب كلٍّ منّا. وهذا يؤدّي إلى انفتاح معنى الوحي على تنوّع الخبرة الإنسانيّة واختلافاتها. الأمر نفسه يجري على الأنبياء، وينعكس بتباين أنواع التجلّي الشهوديّ في قلوبهم؛ فوحيُ الفؤاد مرّةً يكون بوقعٍ شديد (كما هي حال موسى النبيّ)، ومرّةً نتاج يقين وبهجة (كما هي حالُ النبيّ محمّد في تجربة الإسراء والمعراج)، وأخرى نتاج وقع شديد للمتعالي في قلب الرائي.
هذه التجربة، في رأي سروش، لا يمكن أنْ تُرى في دينٍ دون سواه؛ فهي حيّة وحاضرة مع الفيلسوف الألمانيّ يعقوب بوهمِه، والفيلسوف وعالم اللاهوت الألمانيّ مايستر إيكهارت، والمتصوّفين علاء الدولة السمنانيّ وجلال الدين الروميّ وفريد الدين العطّار وابن عربيّ والسهرورديّ - - وكلٌّ منهم عاش تجربةَ الإشراق على نحو خاصّ وحقيقيّ.
كثيرًا ما يقترب سروش من "منطق" جلال الدين الروميّ. وبحسبه، فإنّ اختلافَ الإسلام واليهوديّة والمجوسيّة ليس اختلافَ حقٍّ وباطل، بل اختلافٌ في وجهات نظر الأنبياء فحسب. فالحقيقة واحدة، وقد نظروا إليها من زوايا مختلفة، أو تجلّتْ لهم بأشكالٍ ثلاثة، ولهذا جاؤوا بثلاثة أديان. إذن، مردُّ اختلاف الأديان ليس إلى مجرّد تباين الظروف الاجتماعيّة، وإنما هي تجلّيات متنوّعة للباري في العالم. لقد "تنوّعت الشرائع كما تنوّعتْ الطبيعة."[5]
الموضوع الثاني: الآخر. اقتضى انفتاحُ التسعينيّات، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، طغيانَ مفهوم "الآخر" والفلسفة التواصليّة في الصروح العلميّة الإيرانيّة، تأثّرًا بهابرماس. واقترن "الآخر" لدى طيف كبير من روّاد الحلقة بالولايات المتحدة والرأسماليّة فقط. وفي هذا الصدد کتبَ مصطفی تاجزاده في سيرته الذاتيّة ما يأتي:
"قبيل اندلاع الثورة كنتُ أدرس في الولايات المتحدة الأميركيّة. ذهبتُ إلى هناك عام 1977، وعدتُ عام 1979، وكنتُ ناشطًا في مؤسّسة الطلبة الإسلاميّة. آنذاك، فَرضتْ علينا بعضُ الظروف أنْ نقبلَ بالصراع المسلّح ضدّ الشاه. كنّا جيلًا ذا بُعدٍ واحدٍ لا غير. وكنّا متأثّرین بشدّة بالخطاب العالميّ الماركسيّ، واليساريّ بشكل عامّ. أمّا مع وصول الثمانينات إلى أواخرها، فقد صرنا أكثرَ إيمانًا بأنّ علاقتنا مع الغرب ’الآخر‘ - لا سيّما الولايات المتحدة الأميركيّة - قد بدأتْ تغيّر مسارَها، إذ بات بوسعنا أنْ نعتبر هذا ’الآخر‘ شريكًا لإيران."
لقد رَفعتْ هذه المجموعةُ شعارَ "الانفتاح على الآخر." لكنّ الغريب أنّ "الآخر" لم يكن ليُرى في غير الولايات المتّحدة الأمريكيّة؛ فمثقّفو الحلقة لم يَسْلموا من وطأة الهيمنة الغربيّة - الأمريكيّة تحديدًا – ومن أثرها في بناء خيال المثقّف وتصوّره للمركزيّة الغربيّة. وبالرغم من الفضاء الرحب للتلاقي مع أكثر من "آخر" آنذاك - - كالعربيّ والهنديّ والصينيّ (أي الأمم المجاورة لإيران) - - فإنّ نظر هذه المجوعة بقي منشدًّا إلى الولايات المتّحدة باعتبارها الآخرَ الأوحد، والقدرَ المحتومَ من أجل خروج إيران إلى العالم الحديث.
لم يَسْلم مثقّفو الحلقة من وطأة الهيمنة الأمريكيّة
الموضوع الثالث: المثقّف. يُعتبر موضوعُ المثقّف وشرائطُ عمله والبيئةُ المُنتِجةُ له من الموضوعات التي شغلتْ "حلقةَ كيان." وإنّ نظرةً عامّةً في أدبيّات روّاد الحلقة ستحيلنا على جملة خاصيّات لا بدّ للمثقّف من أن يلتزمَ بها، وهي: 1- الجرأةُ في التفكير. 2- الاهتمامُ بالقضايا والمشاريع الكبرى، بدلًا من المصالح الضيّقة. 3- التفكّرُ في أسس الظواهر، بما في ذلك أن يتفكّر المثقّفُ في نفسه. 4- النأي ُبالنفس عن المناصب السياسيّة، وقوى الهيمنة في المجتمع.
اللافت في غالبية هؤلاء رؤاهم الليبيراليّة، وموقعهُا المركزيّ في مقاربتهم للمسألة الثقافيّة. فرامين جهانبغلو يشترط الديمقراطيّة الليبيراليّة لولادة المثقّف الكونيّ. أمّا سروش نفسُه فيعتبر الديمقراطيّة الليبيراليّة أسمى مكارم أخلاق المجتمع، وبغيرها لا مكان للمثقّف الحرّ.
اللافتُ أيضًا أنّ أعضاءَ الحلقة لا يُدْخلون "المثقّف المتديّن" في جملة حساباتهم ورؤاهم، إذ اعتبروا أنّ همومَه تقع خارج إطار "العقلانيّة والموضوعيّة" اللتين يؤمن بهما المثقّفون غيرُ الدينيين. كما اعتقدوا أنّ المثقّف المتديّن يعطي لنفسه حقَّ الطعن في صدق أيّ مفهومٍ مهما كان بسيطًا؛ ذلك أنّه يُطلّ على العالم من زاوية "المفارِق/ الغيب" التي يعيش فيها الاغترابَ الحقيقيَّ عن الواقع.
وفي المقابل، فإنّ أغلب روّاد هذه الحلقة يؤمنون أنّ المثقّف الدينيّ الحقيقيّ:
1- هو الذي يسعى إلى تذليل التحدّيات الفلسفيّة سعيًا إلى حلّ الآفات الاجتماعيّة.
2 - هو الذي يحمل على كاهله وزرَ التنقّل بين التخوم المختلفة، وبين الأنماط المعرفيّة الدينيّة وغير الدينيّة.
3 - هو الذي يتجرّأ على خوض غمار الحركة الثقافيّة بعيدًا عن القيود المعرفيّة.
4 - هو الساعي إلى تجديد تعاليم الدين لتلائم احتياجاتِ الإنسان بغية الحفاظ على دور الدين.
5 - هو الساعي إلى فهم الإنسان فهمًا كليًّا، من خلال خلق سلامٍ بين العالميْن "الدينيّ واللادينيّ."[6]
خاتمة
لا شكّ في أنّ "كيان" أحدثتْ صدمةً في الأوساط الحوزويّة التقليديّة، نظرًا إلى ما أقحمتْه من أسئلة ومقاربات في الفضاء الثقافيّ الإيرانيّ. لكنّ أبرزَ ما دلّت عليه كان في انتقال المبحث الدينيّ من داخل أسوار الحوزة، وأروقة قم (المدينة الدينيّة التقليديّة)، إلى خارجها.
لقد أحدثتْ "كيان" تبدُّلًا في الصورة المألوفة للمثقّف الدينيّ التقليديّ الذي يعتبر التراثَ ومناهجَه المدخلَ الطبيعيَّ لعلمه. كما أكّدتْ إمكانيّةَ ولادة مثقّف دينيّ غير حوزويّ. ثمة هجرةٌ تعيشها المجتمعاتُ الشيعيّة في سؤالها الدينيّ، من داخل الحوزة إلى مراح الشوارع والفضاء العام، ما يَفرض على المثقّف الدينيّ عامّةً (والفقيه بشكل خاصّ في الدائرة الشيعيّة) إعادةَ تفحّص أدواته في مقاربة المسألة الدينيّة وأسئلتها.
وإذا كانت "كيان" قد أعادتْ السؤالَ الثقافيّ إلى موضعه في صلب معترك السياسة واعتمالاتها، فإنّ الأهمّ هو في ما تعيدهُ إلينا، نحن، من أسئلة حول جلّ ما أنتجته الثورةُ الإسلاميّةُ من تجارب ثقافيّة، وعن موقع هذه التجارب في الفضاء الثقافيّ العالميّ. كما تحيلنا على السؤال عن المثقّف الإيرانيّ الجديد: عن أيّ طبقة اجتماعيّة يعبِّر؟ وإلى أيّ خطابٍ ومنظورٍ يتطلّع؟
"كيان" ليست ظاهرة "إيرانيّة" أو "شيعيّة" خاصّة. الحقّ أنّها ظاهرة "عالمثالثيّة" يمكن لحظُها في العديد من الأوساط والاتجاهات الثوريّة. هي ظاهرة تلك النخب التي تعبَتْ ربّما، أو "استنارتْ" فجأة، لتكتشفَ أنّ لبّ القضيّة الثقافيّة ليس في تحقيق الاستقلال السياسيّ الحرّ، بل في تتبّع حداثة أمريكيّة ناجزة القيم والسرديّات والسياسات، تُوزِّع على كلٍّ منّا قدْرًا من فيئها كي يتظلّل به.
لكنْ، هل قدَرُ استنارتنا هو اللحاقُ الحتميّ بالليبيراليّة؟
إنّ صدَّ السؤال المعرفيّ ومنعَه في المجتمع سيحيلان، في كلّ آن، على حلقاتٍ متواليةٍ من "كيان" وغيرها. كيان ليست أوّلَ - ولن تكون آخرَ- ما نَتَجَ من مجتمعاتٍ تبحث عن حداثتها، وسبيلِها في العودة إلى ركب الأمم المتقدّمة. ثمّة دروس يمكن أن نستفيدَ منها، نحن اليوم في العالم العربيّ، من تلك التجربة: عن دور الثقافة في بناء السلطة أو هدمها؛ عن الدلالة الرمزيّة المتضمَّنة في خطاب التعدّدية، وأبعادها السياسيّة؛ عن معنى الثقافة الكونيّة أو العالميّة عندما تصيّر خطابًا إيديولوجيًّا يطمس تراثَ الناس وتطلّعاتِهم في الاستقلال والخصوصيّة والحياة الكريمة؛ وعن واقع مؤسّساتنا الدينيّة المتأخّر عن الإجابة على كلّ هذا الزحام المعرفيّ.
بيروت
[1] يمكن التماسُ الانفصام الحادّ في المشهد الثقافيّ الإيرانيّ آنذاك مع ثورة الشيخ الشابّ نواب صفويّ، الذي قاد حراكًا سياسيًّا مناصرًا للعدالة ورافضًا للهيمنة الغربيّة على إيران. وقد وجد صفوي في الثقافة الشعبيّة حصنَه وملجأه، قبالة مثقّفي المدينة الذين انخرطوا في شبكة اقتصاديّات النظام البهلويّ. وكانت لصفوي علاقتُه الخاصّة بجمال عبد الناصر، الذي خصّص مبلغًا شهريًّا لحركته في مواجهة الشاه. المفارقة أنّ السيّد الخامنئي اعتبر صفوي علمًا من أعلام التشيّع الأصيل، وملهمَه الخاصّ في السياسة.
[2] الجدير بالذكر أنّ حلقة "كيان" أسّستْ، بين العاميْن 1990 و2005، عشرين صحيفةً، بما في ذلك دوريّات أسبوعيّة وشهريّة. وقد عزّزتْ هذه الحلقة علاقاتها بالمنظّمات والمؤسّسات الأوروبيّة والأميركيّة، مثل: مؤسّسة المجتمع المفتوح (Open Society) التي يملكها جورج سوروس، ومرکز وودرو ويلسون الدوليّ للباحثين (The Woodrow Wilson International Center for Scholars)، والوقف القوميّ للديمقراطيّة (The National Endowment for Democracy)، ومعهد المشروع الأميركيّ (The American Enterprise Institute)، ومؤسّسة الدراسات الإيرانيّة، وغيرها.
[3] عبد الكريم سروش، "الصراطات المستقيمة: التعدديّة الدينيّة بين النفي والإثبات،" مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة، 2002، العدد 20-21، ص 159.
[4] الشهود، مصطلح صوفيّ، ويعني مقامًا من مقامات "سيْر الإنسان إلى الله،" على حدّ تعبير المتصوِّفة. وفيه تنكشف لقلب الإنسان الحقائقُ الإلهيّة المتعالية عن الإدراك الحسيّ. ويُعبّرون عن ذلك بالقول: "فناء العبد، وبقاؤه في الحقّ، وشهودُ كلّ شيء به، وهي تجربة وجدانيّة داخليّة لا يمكن نقلها للغير."
[5] عبد الكريم سروش، مصدر سابق، ص 163.
[6] H. Dabashi, Islamic liberation Theology (New York: Taylor and Francis, 2008), p. 121
كاتب وإعلاميّ لبنانيّ. كتب في الصحافة اللبنانيّة وعمل مقدّمَ برامج تلفزيونيّة.