يَنْعتونَه في عمارات ذيْل السُّلحفاة بـ"حبّة التّين." وقد التصقتْ به هذه الكنْيةُ منذ طفولته. فشكلُه يُشبِه فاكهةَ التين لأنّه قصير القامة وممتلئ الجسم. حين يمشي يبدو وكأنّه يقفز، ويتوسّط وجهَه أنفٌ مكوَّر، تعلوه عينان باسمتان. فمُه باسمٌ أيضًا، حتّى في أكثر أوقاته بؤسًا.
سافر لقبُ "حبّة التّين" مع سعيد بن الإسكافيّ من حيّ الصفيح القديم، الذي عاش فيه طفولته ولم يعد له وجودٌ اليومَ إلّا في مخيّلة سُكّانه السابقين؛ فقد انزلقتْ من تحتِه الأرضُ. حينها، نَقلتهم سلطاتُ المدينة إلى بناياتٍ جديدةٍ شامخة، ومحاطةٍ بمساحاتٍ شاغرة، فيها أماكنُ مستويةٌ ومفروشةٌ بالإِسفلت لركن السيّارات، وأخرى للعب الأطفال، ولا وجود لمَجرى مياهٍ قذرة يَخترقُها.
توزّع السكّانُ داخل الحيّ الجديد بحسبِ ما ورد في خريطة سلطاتِ المدينة، التي لم يُكلّفْ أعوانُ إداراتها أنفسَهم عناءَ ترتيب الوافدين الجدد، واكتفوْا بإعادة حشرهم بعضهم مع بعض بحسب الأحياء الفوضويّة التي قَدِموا منها. وعلى الرغم من فرح السكّان بشققهم، فإنّ الحنين إلى أكواخ الصفيح ظلّ مشتعلًا في قلوبهم، فقرّروا أن ينعتوا الحيّ الجديد باسمِ الحيّ القديم نفسه، وصارت عبارة "ذيل السلحفاة" علامةً تفرّقهم عن غيرهم من ساكني العمارات القريبة المُستقدمين من تجمّعاتٍ عشوائيّة أخرى.
وكان منزل "حبّة التّين" في الطابق العاشر، في أقصى زاويةٍ من الحيّ. ويمكنُ القول إنّه يمثّل حرفيًّا ذيلَ السُّلحفاة.
كثيرًا ما فكّر سعيد في كُنيته في الحيّ. ولطالما بدا له أنّ والديه أخطآ في تسميته "سعيدًا"؛ ذلك أنّه يرى أنّ "سعيد" على وزن فعيل، مُمْتدٌّ في النُّطق، كما أنّ لكلّ "سعيدٍ" يعرفُه وجهًا عريضًا أو طويلًا. أمّا "حبّة التّين" فيتصوّر أنه يُشْبه بالونًا كبيرًا رُسِم عليه وجهُه الباسمُ والساخرُ من الظروف السيّئة التي تمرُّ بإخوانه.
ذات صباح، وبينما كان يتأمّل سقفَ غرفته مُتجرّعًا ما تبقّى من نبيذ الأمس قبل النهوض من الفراش، سمع دقّاتٍ مسرعةً على باب المنزل، وسمع هتافًا باسمه. عندما فتحه فاجأه اثنان من جيرانه المقيتين، وألقيَا في وجهه عبواتِ جعةٍ فارغة. قال أحدُهما:
ــــ متى تتوقّف عن تلويث حيّنا بقمامتك القذرة؟ أنت أسوأ نموذج لشبابنا.
ظلّ حبّة التّين جامدًا ينظر إليهما مبتسمًا. فرك عينيه وتثاءب. كانت صورتا وجهيْهما قد اختلطتا عليه بسبب وهج الصباح. ورغم أنه يعرفهما منذ الصغر، فقد نسيَ اسميْهما في تلك اللحظة. همّ بغلق الباب، لكنّ أحدهما أوقفه بساعده. تحدّث إليه بنبرةٍ لا تخلو من التهديد:
ــــ في المرّة القادمة سنُبلغ عنك الشرطة بتهمة السُّكْر العلنيّ السافر، أيّها الزنديق. إنْ لم تتوقّف عن تصرّفاتك المشينة، فستكون عاقبتُك وخيمةً على يديّ.
لم تغادر البسمة وجهَ حبّة التّين، مع أنّ قوّة ناريّة غاضبةً اندفعتْ في عضلاتِه وتجمّعتْ في يده الوحيدة، فشدّت على الباب وصفقته في وجهيهما. لم ينبس ببنت شفة، لكنّ كلماتٍ غير مفهومةِ المعاني تناهت إلى سمعه، ممزوجةً بصدى صراخِ الجاريْن في المساحة المشتركة من العمارة.
عاد إلى فراشه. وتوجّه الجاران الغاضبان إلى المقهى الذي يلتقي فيه الجميع. دخلا من دون تحيّة، وأمرا ابنَ صاحب المقهى بأن يستدعي والدَه بسرعة. جاء الرجل مسرعًا، وجلس الثّلاثة إلى طاولة. قال الجار الأوّل:
ــــ يا جار، يجب أن نجد حلًّا لابن الإسكافيّ هذا. لقد صار ما يقوم به في الحيّ لا يُطاق. إنه يدوس على أعراف أبناء ذيل السّلحفاة، ويجلب إلينا الغرباءَ عن الحيّ. ولا يخفى عليكما أنّ الكثيرين رأوْه من قبل يَحْضر مع أشخاص مشبوهين، يعلم الله وحده ما يصنعون داخل تلك الشقة الموبوءة.
حَوْقَلَ الرجُلان، ثم قال صاحبُ المقهى بصوتٍ خفيض:
ــــ الجميعُ يعلم أنّه "شاذّ" ولابدّ أنّه يمارس انحرافاتِه مع من يأتي إلى بيته. وقد علمنا من قبل أنّ زوجته هجرته لهذا السبب. وإلّا فلماذا لا أولاد له؟
استغفرَ المستمِعان اللهَ من هولِ ما سمعاه، وطلبا من الرحمن الرحيم أن يغمُرَ عبادَه المؤمنين وسكّانَ العمارة بلطفه. لكنّ صاحب المقهى واصل قائلًا:
ــــ لقد قالت زوجتُه حينها لبعض النساء إنّها هجرته بسبب معاقرة الخمر، مُخْفيةً أنّه لا ينجب أولادًا. وليس مستبعَدًا أن يكون غير قادر على النوم مع أُنثى.
ردّد الجاران الشهادة، وبصق أحدُهما على الأرض تقزّزًا ممّا سَمِعه. ظلّ الثلاثة يتناقشون حول قضيّة حبّة التّين ثلاث ساعات، إلى أن اهتدوْا إلى ضرورةِ استدعاء جميع سكّان العمارة إلى اجتماعٍ طارئٍ ليُوقّعوا شكوى جماعيّة بغرض طرده من العمارة.
بعد يومين كانت الشكوى جاهزةً وموقّعةً ضدّ حبّة التين، الذي بلغه ما يخطّط له الجيران في اليوم الموالي. لم يكترث للأمر، بل رجع إلى بيته مساءً كعادته، بعد قضاءِ ما يقاربُ الدوامَ الكاملَ في الشرب أمام مخمرة المدينة. فتح باب منزله غير المرتّب والمليء بالأشياء التي يستعدّ لعرضِها للبيع. كان يعيش حياةَ تشرّد كبيرة منذ أن هجرته زوجتُه، ولم تبقَ له إلّا كتُبه يستأنس بها في وحدته.
كان سعيد قد فقدَ القدرةَ على الكتابة؛ فقد بُترتْ يده اليمنى عقب حادث خلال عمله في مصنع السيّارات والحافلات قبل عشر سنوات. وهو منذ ذلك اليوم يعيش على معاش يتقاضاه من صندوق التأمين، غير أنّه لم يمرّ صباح واحد إلا واستيقظ مُسْتشعرا وجودَ يده. يرتدي دائمًا ملابسَ بأكمامٍ طويلةٍ ليُخفي إعاقتَه، ولم يستطع أحدٌ إقناعَه بأنّ زوجتَه لم تهجُره لأنّه صار بلا يد.
بعد أن أَودع السكّان الشكوى لدى الشرطة، فُتِح تحقيق، فلم يجد المحقّقون ما يُثير الريبة القانونيّة فيه. لم يقتنع السكّان، وأجمعوا على أنّ لابن الإسكافيّ يدًا طويلةً في الدولة منعتْ عنه المتابعة القضائيّة. اجتمع الجيرانُ مجدّدًا وقرّروا وضْعَ باب حديديّ على مدخلِ العمارةِ، يمتلك كلٌّ منهم نسخةً عن مفتاحه باستثناء حبّة التين، ثم يغلقونه قبل عودته إلى البيت، ويخيّرونه بين ترك الخمر خارجًا أو السماح له بالدخول.
في إحدى الصباحات الربيعيّة، أرسل صاحبُ المقهى ابنَه لمراقبة حبّة التّين وإخباره بخروجه لكي يُحضِر الحدّاد ويقومَ بوضع الباب الحديديّ. عاد الابن وقال إنّ حبّة التّين خرج. وفي غضونِ ساعتين صار للعمارة باب.
في المساء انتظر الجميع ظهورَ ابن الإسكافيّ بعد أن أوصدوا الباب. مرّ وقته الاعتياديّ عند أذان العشاء ولم يظهر. انتصف الليل ولم يظهر. رابط السكّانُ طوال الليل ينتظرونه ولم يظهر. حتّى إنّ بعضهم ناموا في الشارع، فيما أصاب المللُ آخرين فغادروا إلى منازلهم.
غير أنّ أيًّا منهم لم ينتبهْ إلى أنّ نافذة شقّة حبّة التين كانت مضاءةً. في الصباح الموالي، أخرج حبّةُ التين رأسَه من الشرفة ونظر من علٍ إلى جيرانه البائسين بوجهه الباسم والساخر. عمّت حالةٌ من التساؤل بين السكّان، وانتشرتْ أقاويلُ تفيد بأنّ عدوّهم ساحرٌ كبير يتخفّى في ثوبِ سكّير، وأنّه اخترق الباب متحوّلًا إلى طيف. لكنّ آخرين قالوا إنّهم رأوْه يطير إلى شقته كطائر السمّان، وأنّ له في دولة الإنس والجان نفوذًا مَنعَ عنه شرَّ السكّان.
تفرّق سكّانُ ذيل السلحفاة من المقهى، بعد أن تحدّثوا عن الكرامات التي رُويتْ عن جدِّه، الذي كانت يشفي القريةَ من كلّ الأدواء المستعصية. وقبل صلاة الظهر سارع صاحبُ المقهى مع الحدّاد إلى إزالة الباب بعد أن شعرا بالرعب ممّا قد يَلحقُهما من ضررٍ على يد حبّة التّين الساحر الخارق.
عند الظهر خرج حبّة التّين متعبًا وبيده قفّتُه التي يضع فيها النبيذ. انتبه عند مدخل العمارة إلى بعض الرمل الأبيض، وإلى ثقوبٍ على حوافِ المدخل حُشيتْ بالجِبس. تساءل عن سبب وجودِها، لكنّه سرعانَ ما نسيَها ومضى إلى وجهته.
توقّفت المضايقاتُ عن حبّة التين، وتغيّرتْ طريقةُ تعامل السكّان معه، بل صاروا يحترمونه ويتنافسون في دعوته إلى احتساءِ مشروبٍ كلّما صادفوه. لكنه ظلّ متمسّكًا برفضه الاختلاطَ بهم، حتّى بعد أن علِم بالقصّة من المغضوب عليهم من أبناء ذيل السلحفاة، الذين صدّقوا أيضا أنّه ساحرٌ عليمٌ يلجأ إليه كبارُ القوم لكنّه متواضعٌ جدًّا ويكره الظهور.
قسنطينة (الجزائر)