نشرتْ جريدة الأخبار اللبنانيّة مؤخّرًا مقالًا لجوزيف مسعد تحت عنوان "إسرائيل أمْ إيران: مَن عدوُّ العرب؟" يحاول فيه أن يوضح أمرًا كنّا نَعدُّه قبل بضع سنوات بديهيًّا: أنّ إسرائيل ـــ بالطبع ـــ هي عدوّ العرب! فهل فعلًا أصبحتْ هذه البديهيّة محطَّ خلاف، بحيث يشعر المثقّفون أنّهم في حاجةٍ إلى أنْ يُدْلوا بآرائهم فيها؟
النظر إلى هذا المثال يجعلنا نعي ضرورةَ ألّا نحصرَ الحربَ عند حدود الصراع العسكريّ فقط ـــ إذ للحرب ميادينُ عدّة، والوعيُ من أهمّها. فالقوى الرجعيّة تسعى دومًا إلى تشويه الصراع، و"تضبيب" جوهره أو إخفائه. وفي المقابل، تسعى القوى الثوريّةُ إلى إزاحة ذلك الضباب، وكشفِ جوهر الصراع على حقيقته. وعليه، فإذ تبذل القوى الرجعيّةُ كلَّ ما في وسعها لإشغال الجماهير بمعارك "طواحين الهواء،" يتوجّب على القوى الثوريّة أن تكشفَ زيفَ الوعي المهيمن.
إنّ جزءًا كبيرًا من المعركة اليوم في الإقليم، وعليه، يستهدف الوعيَ بطبيعة الصراع. فكان لزامًا على الإمبرياليّة والقوى الرجعيّة أنْ تستعين بالطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة لإظهار الصراع مظهرَ "الحرب الطائفيّة" أو "العربيّة - الفارسيّة،" بدلًا من إظهاره على حقيقته: عدوانًا إمبرياليًّا على منطقتنا بأشملها، من أجل سحقها ونهبها واستكمال استتباعها. في إحدى محاضراته أشار الشهيد مهدي عامل إلى هذا الموضوع في سياق حديثه [1] عن لبنان فكتب:
"لكنّ الرجعيّة في أطرافها المتعدّدة تستميتُ في محاولة إظهارها [أي الحرب ضدّها] مظهرَ الحرب الطائفيّة، وتفشل دومًا في المحاولة برغم كلِّ ما أحاط وما يحيط بهذه الحرب من وحول الطوائف. وكيف تكون الحربُ طائفيّة حين يكون الموقفُ من إسرائيل مثلًا محورًا للصراع فيها؟ كيف تكون طائفيّةً حين يحتدم فيها الصراعُ بين القوى الرجعيّة الطائفيّة (وهي من مختلف الطوائف)، والقوى الوطنيّة الديمقراطيّة (وهي أيضًا من طوائفَ متعدّدة) حول الموقف من هويّة لبنان، أو من الثورة الفلسطينيّة، أو من الإمبرياليّة، أو من الاحتلال الإسرائيليّ، أو من قوّات الحلف الأطلسيّ، أو من اتفاق 17 أيّار، أو الاتفاق الثلاثيّ نفسه، ومن الاقتصاد الحرّ أيضًا، بل حتّى من الطائفّية إيّاها، بما هي النظامُ السياسيّ لسيطرة البرجوازيّة اللبنانيّة؟ ليست الحربُ طائفيّةً، ولا الصراعُ فيها بطائفيّ. إنّه، في أساسه، صراعٌ بين قوى التغيير الثوريّ للنظام السياسيّ الطائفيّ، والقوى الفاشيّة الطائفيّة التي تحاول، عبثًا، تأبيدَ هذا النظام."
جزء كبير من المعركة اليوم يستهدف الوعيَ بطبيعة الصراع
جزء أساس من الصراع اليوم يدور على تعريفه، أي الوعي بما يجري في المنطقة. ومحاولات الهيمنة على الوعي تَستخدم أدواتٍ عدّةً، على رأسها الإنتاجُ الثقافيّ والإعلاميّ للإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة العربيّة. فهذا الإنتاج استغلّ قصورَ المشاريع البرجوزايّة الوطنيّة القُطْريّة عن تحرير الوطن، أو فكِّ تبعيّته، أو توفيرِ الحدّ الأدنى من الحريّات الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، فعمل على تغذية خطاب طائفيّ وإثنيّ.
وفي المقابل، فقد استطاعت المقاومة التنسيقَ بين قواها المختلفة، والقتالَ المشترك في بعض الأحيان (كما ظهر واضحًا في الساحات السوريّة والعراقيّة واليمنيّة)، ولكنّها لم تنتقل إلى بناء مشروع وحدويّ تحرّريّ على مستوى الإقليم. فإذا كان الاستهدافُ الشرس اليوم إقليميًّا، فعلى المقاومة كذلك أن تكون إقليميّةً لا قُطريّة. وهذا النوع من التحالف لا يُغْني، ولا يُلغي، التناقضات داخل هذه القوى.
***
على الصعيد الإعلاميّ، استطاعت المقاومة أنْ تخلقَ منابرَ عدّةً لخطابها. لكنّ معظم هذه المنابر يعاني إشكاليّةً تظهر في شكلين.
- الأوّل يتمثّل في الغوص عميقًا في القضايا المحلّيّة إلى حدّ الوقوع في فخّ القُطْريّة.
- والثاني يتمثّل في أنّ التغطية الإعلاميّة تجزّئ قضايا المنطقة بعضَها عن بعض، فتبدو وكأنَّها محضُ "كولاج."
وهذه الإشكاليّة في التغطية الإعلاميّة هي انعكاسٌ لإشكاليّةٍ أعمق، ألا وهي غيابُ المشروع السياسيّ التحرّريّ الجامع على مستوى المنطقة ككلّ؛ وهو مشروع يُفترض أن يراعي المحلّيّ، ولكنّه يؤطّره ضمن الكلّ.
الجزء الأكبر من هذه المنابر جاء بمثابة مبادرات محلّيّة: إمّا فرديّة قام على تأسيسها ومتابعتها مناضلون أو مثقّفون تقدّميّون، أو حزبيّة داخل قُطرٍ محدّد. وجزء ضئيل منها يعمل على نطاق إقليميّ. من أهم هذه المنابر فضائيّة الميادين التي ظهرتْ تجربةً فريدةً في الإعلام العربيّ، مُحاوِلةً تجميعَ التيّارات المُقاوِمة في منصّةٍ إعلامّيةٍ موحَّدة. ولكنّ هذه التجربة وحدها غيرُ كافية للاستجابة لمتطلّبات المرحلة. بالإضافة إلى أنّ مستواها متباينٌ ما بين الوسيطيْن الرقميّ والتلفزيونيّ. كما أنّها لا تُغْني عن المنبر الإعلاميّ الخاصّ بكلّ تيّار من التيّارات المتحالفة (الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة واليساريّة)، وخصوصًا اليسار؛ فلكلّ من هذه التيّارات عدّةُ منابر أخرى (مثل فضائيّتَي المنار والأقصى...)، إلّا أنّ اليسار يفتقر إلى ذلك، وتنحصر معظمُ منابره بمبادراتٍ فرديّةٍ ومحلّيّة، هنا وهناك، ذاتِ تمويلٍ محدودٍ في أفضل الأحوال، كـ الأخبار والآداب. وهذا، من جديد، أحدُ تمظهرات غياب المشروع التحرّريّ اليساريّ في المنطقة، إذ إنّ حالَ اليسار في المنطقة اليوم هو أقربُ إلى مبادرات فرديّة منه إلى مشروع سياسيّ.
استطاعت المقاومة أنْ تخلقَ منابرَ عدّةً لخطابها لكنّ معظمها يعاني "إشكالية"
غياب الخطاب والمنبر الإعلاميين لليسار يعزِّز من هيمنة الخطاب الطائفيّ للإمبرياليّة والرجعيّة؛ ذلك لأنّ الخطاب اليساريّ أقدرُ - نظريًّا - على التصدّي للطائفيّة من القوى الطائفيّة والدينيّة في تحالف المقاومة. وهذا الغياب أيضًا يجعل من اليسار "متّكلًا على الغير" إعلاميًّا: فيُطلَب صوتُه في القضايا المتفق عليها، ويغيَّب في التباين والاختلاف. وهذا مؤشِّرٌ على موقع اليسار التبعيّ في التحالف السياسيّ المقاوم.
هذا الموقع ليس قدرًا، وإنّما هو نتاجُ عقودٍ من تراكم أزمات اليسار، السياسيّةِ والتنظيميّة. لكنْ تبرز اليومَ فرصةٌ جديدةٌ أمام اليسار لاستنهاض قواه مجدّدًا، ولتجديد المشروع اليساريّ في المنطقة كجزءٍ من تحالف قوى المقاومة. غير أنّ على هذا التجديد أن يستجيبَ لاشتراطات المرحلة اليوم، وأبرزُها: الربطُ بين الخبز والتحرّر الوطنيّ والقوميّ والحريّات الديمقراطيّة، والاستقلال اليساريّ عن أيّ تبعيّة رسميّة، وبناء جبهة يساريّة ثوريّة في المنطقة العربيّة شرطًا للنهوض والتأثير عبر تجديد المشروع اليساريّ العربيّ.
غيابُ هذا المشروع السياسيّ اليوم أوجد فجوةً في الخطاب الإعلاميّ. ولكنّ محاولة توحيد اليسار الثوريّ في كافّة الأقطار تحت راية منصّةٍ إعلاميّةٍ موحَّدة قد تكون الخطوةَ الأولى في استنهاض هذا المشروع. هذه المنصّة المنشودة تؤدّي عدة أدوار، أهمُّها الحوارُ بين قوى اليسار في محاولة للتوصّل إلى فهم مشترك لكافّة القضايا، وإلى صيغة عمل مشتركة في المجال الإعلاميّ أوّلّا، تتّبعها باقي المجالات. وهذه المنصّة أيضًا هي موجِّهٌ ومنظِّمٌ جماعيّ، يعمل على كسر هيمنة الخطاب الطائفيّ من جهة، وإنتاج خطاب يساريّ جدّيّ يعالج المسائلَ الأساسيّة لشعوب المنطقة وكادحيها. كما أنّ هذه المنصّة تقدّم فرصةً أمام استقلاليّة اليسار إعلاميًّا، ولتوضيح مواقفه المختلفة من كافة القضايا، بما فيها نقاطُ التباين مع قوى المقاومة الأخرى.
صحيح أنّ إشكاليّة اليسار ليست قضيّةً إعلاميّةً في جوهرها، بل هي في أساسها سياسيّة وتنظيميّة، لكنّ الإعلام تمظهرٌ لها. وبالمثل، فإنّ حلَّ إشكاليّات اليسار ليس حلًّا إعلاميًّا، غير أنّ الإعلام قد يشكِّل رافعةً نحو تجديد المشروع اليساريّ وخطوةً أولى في سبيل ذلك.
رام الله
[1] www.youtube.com/watch?v=uy58I6kz92Q