في صفحة السواد نقطةٌ بيضاءُ واحدة، على الأقلّ، وإنْ لم تُرَ بالعين المجرّدة أحيانًا. من فرط تفاؤلي، أبحثُ دائمًا عن النقطة التي أعتبرُها نافعةً في كلّ ضارّة. وفي مسيرة البحث هذه، نجد أنّ لـ"قانون القوميّة،" الذي سنّه الكنيستُ الإسرائيليّ في 19/7/2018، منافعَ قد يكون أبرزها أنّه أعاد إلى واجهة السجال السياسيّ في الداخل الفلسطينيّ [فلسطين 48] مسألةَ المشاركة في الكنيست الإسرائيليّ، ترشيحًا وتصويتًا، في فترةٍ غير فترة الانتخابات.
هذا تطوّرٌ جديد، وغايةٌ في الأهمّيّة، إذا تذكّرنا أنّ بذرةَ أيّ فعلٍ سياسيّ تنبت من تغييرٍ في الوعي. ذلك أنّ مسألة مشاركة فلسطينيّي الداخل في "اللعبة الديمقراطيّة" الإسرائيليّة، التي تشكّل عضويّةُ الكنيست وانتخاباتُها دُرّةَ تاجها، تَشغل حيّزًا حيويًّا يتّسع باستمرار، من انتخاباتٍ إلى أخرى، لكنّه يبقى محصورًا، في العادة، في فترة محدّدة لا تتجاوز "المعركةَ الانتخابيّةَ" ذاتَها. ولذلك يبقى نقاشُ هذه المسألة، إجمالًا، أسيرَ التجاذبات الحزبيّة والمصلحيّة الانتخابيّة المباشرة. أمّا الآن، بعد إقرار القانون، فقد اخترق هذا النقاشُ تلك الحدود، ليغدو بندًا مدرَجًا على جدول أعمال المجتمع الفلسطينيّ في الداخل بصورة ثابتة ومتصاعدة.
هي حزمةُ ضوءٍ لا تجوز الاستهانةُ بها: أنّ هذا القانون ــــ الذي لا يجوز التعاملُ معه وكأنّه كارثةٌ فجائيّة، وإنّما حلقةٌ أخرى في سيرورةٍ إسرائيليّةٍ متأصّلة ــــ يعيد وضعَنا أمام جملة تحدّياتٍ طرحتْها علينا الدولةُ مرارًا وتكرارًا، قبل "قانون القوميّة" بكثير، لكنّنا تعاميْنا عنها وتصاغرْنا عن مواجهتها. أمّا الآن، فقد أصبح الاستمرارُ في هذا النهج "النعاميّ" شبهَ مستحيل لكونه ضربًا من الاستسلام الجماعيّ النهائيّ، أو شكلًا من التسليم الجماعيّ بواقعٍ سيَفْتك بأجيالنا القادمة ومستقبلها في وطننا.
آلاف المتظاهرين نزلوا الى الشوارع في تل أبيب ضد قانون نتنياهو العنصري
المُراوحة في قفص "الديمقراطيّة" الإسرائيليّ
تفرض هذه التحدّيات استحقاقاتٍ لم يعد من الممكن التهرّبُ منها. وهي تقتضي حصولَ تطوّريْن متلازميْن ومتكامليْن:
ــــ الأول هو إحداثُ كسرٍ في علاقتنا التاريخيّة بالحركة الصهيونيّة (ممثّلةً في دولة إسرائيل) منذ سبعين عامًا، والجارية على خيطٍ واحدٍ وإيقاعٍ واحدٍ ونسقٍ واحد. ويبدأ ذلك الكسرُ بخروجنا من قوقعة "معسكر السلام" الإسرائيليّ، وتخلُّصِنا من أوهام التعويل عليه بحججٍ شتّى، تدور كلُّها في فلك الانتهازيّة السياسيّة، قد يكون أبرزَها وأخطرَها شعارُ "دحر اليمين."
ــــ الثاني هو ضرورةُ تحرّرنا من قفص "ديمقراطيّة" إسرائيل الذي نراوح فيه منذ سبعين عامًا. والمقصود تخلّينا عما ترمي إلينا به إسرائيلُ من فتات "ديمقراطيّتها،" التي يشكّل الكنيستُ تجسيدَها الأبرزَ ودرّةَ تاجها، مقابل أثمانٍ باهظةٍ نَدفع فاتورتَها من دم أبنائنا ومستوى معيشتنا ومستقبل أجيالنا.
لم أكن يومًا من بين الداعين إلى مقاطعة الكنيست الإسرائيليّ بناءً على دوافع مبدئيّة إيديولوجيّة، في صُلبها رفضُ "الكيان الصهيونيّ" ورفضُ المشاركة في مؤسّساته الرسميّة. لستُ ممّن يعتقدون بإمكانيّة إعادة دواليب التاريخ إلى الوراء، بل أؤمن بأنّ للتاريخ حركتَه الديناميّةَ التي يؤثّر فيها الناسُ ويقرِّرون وجهتَها. بل الحقّ أنّ دعوتي إلى مقاطعة الكنيست، تصويتًا وترشيحًا وانتخابًا وتمثيلًا، نابعةٌ من قناعةٍ تبلورتْ بعدم جدوى المشاركة، بل بضررها الجسيم، وذلك في الظروف التي تعيشها أقلّيّةُ الوطن الأصلانيّة في هذه الدولة، ويعيشها شعبُها الرازحُ تحت الاحتلال. وهذه القناعة تقوم على محصّلات موازين الربح والخسارة، كما بيّنتْها تجربةُ العقود السبعة المنصرمة.
أعضاء من القائمة العربية المشتركة في الكنيست (اليمين الى اليسار): جمال زحالقة،
مسعود غنايم، أحمد الطيبي، أيمن عودة، ...
كفّة الخسارة والضرر راجحة!
لم يعد ممكنًا المضيُّ في نهجٍ وأداءٍ سياسييْن ينحصران في العمل من داخل "علاقة المواطَنة" من أجل تحسين شروط الوجود والمكانة والاستحقاقات اليوميّة ــ وفي مقدّمتها تحسينُ شروط المواطَنة نفسها. نهجٌ وأداءٌ يتخبّطان في تلابيب الأزمة الفكريّة السياسيّة المترسّخة في فهم أفق الممكن في علاقة أقلّيّة الوطن الأصلانيّةِ العربيّةِ الفلسطينيّةِ داخل فلسطين 48، مع الدولة، بما يترتّب عليها من تذويتٍ للعجز في مواجهة أيّ فعلٍ قمعيٍّ تعمد إليه إسرائيل. إنّها الحاجة الوجوديّة إلى الفكاك من قيود "الواقعيّة" المُدّعاة في العمل السياسيّ والنضاليّ، المرتهِنِ إلى ما تتيحه المنظومةُ الإسرائيليّة فقط.
ها قد قضينا سبعين عامًا ونحن نتراجع إلى الوراء ونعمِّق أزماتِنا، بدلًا من إحراز أيّ تقدّم جدّيّ وجوهريّ. لكنّ عقبَ أخيل في هذا التقدّم هي نحن، هنا! فلن يكون بالإمكان انطلاقُ التقدّم المنشود ما دمنا نكرِّس صورةَ إسرائيل "الديمقراطيّة" عبر "نضالاتٍ" مستمرّةٍ على المنوال ذاته، منذ عقود، من دون أن تؤْتي ثمارَها المرجوّة، ثم نرصِّعُها بنوّابٍ نشارك في إيصالهم إلى الكنيست عبر "انتخابات ديمقراطيّة وحرّة ونزيهة،" كي يصرخوا ويشتموا أمام عدسات التلفزات المحلّيّة والعالميّة، وربّما يُخْرجونهم بالقوّة أحيانًا، مثلما يحدث في أيّ برلمانٍ ديمقراطيّ آخر في العالم!
إنّ خانةَ الربح، المتأتّي من المشاركة في "اللعبة الديمقراطيّة" الإسرائيليّة الكنيستيّة، تشمل:
1 ـ كونَ الكنيست منبرًا لطرح القضايا.
2 ـ فوائدَ ماليّةً تجنيها الأحزابُ العربيّةُ من التمويل الرسميّ، تتيح لها البقاءَ على قيد الحياة، وتمويلَ أجهزتها، ودفْعَ مرتَّبات محترفيها وعامليها.
3 ـ فوائدَ ماليّةً مباشرة يجنيها أعضاءُ الكنيست ومساعدوهم، فضلًا عن امتلاكهم الحصانةَ البرلمانيّةَ التي تقدِّم لهم مساحةً للحركة والنشاط، وإنْ تكن محدودةً جدًّا في حالة أعضاء الكنيست العرب.
أمّا في خانة الخسارة، فنجد:
1- أنّ إسرائيل تستغلّ مشاركتَنا هذه للتغطية على عنصريّتها البنيويّة، ولترويج نفسها في العالم "واحةً للديمقراطيّة" في صحراء الدكتاتوريّات الشرق أوسطيّة، ولتُحارب ــــ بنا ــــ حملاتِ المقاطعة الدوليّة الفاعلة ضدّ إسرائيل. ويَعرف كلُّ مَن اطّلع على نشاط "حركة مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها" (BDS) مدى استغلال مشاركتنا في الانتخابات وفي الكنيست ضدّ هذه الحركة.
2 ـ أنّ العضويّة في الكنيست و"النضال البرلمانيّ" لم يعودا كما كانا قبل عقدين من الزمن وأكثر: آليّةً واحدةً فقط من آليّات النضال المختلفة المتاحة للعرب الفلسطينيين في فلسطين 48. أما وقد تحوّل "النضالُ البرلمانيّ" إلى المجال الحيويّ الوحيد، و"مَنفس" الجماهير الأوحد، فقد أصبح عاملًا مُضرًّا بأدوات النضال الأخرى، وأدّى إلى "تصفية عامّة" وشبهِ تامّة لحضور الأحزاب والقيادات والنشطاء، اليوميّ النشط، بين الناس، والمتابعة اللصيقة لما يَشغل بالَهم من قضايا ومشاكل. وهكذا حصل الانقطاعُ بين الأحزاب وجماهيرها، حتى أصبحتْ أحزابًا بلا جماهير، سوى في المناسبات و"نشاطات الطوارئ." وحين انكمش هذا الحضورُ حدّ التلاشي، انفتحت الأبوابُ على مصاريعها أمام كلّ ما نكابده في مجتمعنا من ظواهر مرَضيّة، اجتماعيًّا وتربويًّا وأخلاقيًّا.
وما يؤرِّق حقًّا هو أنّ في هذا التراجع ما هو أخطرُ بكثير: انتشارُ روح اللامبالاة والانعزاليّة والفرديّة، وتراخي النسيج الاجتماعيّ، على الرغم من كلّ ما تقوله "القيادات" وبياناتُها الإعلاميّة عن "الوحدة." وأنا أؤمن بأنّ إعادة ترميم حضور الأحزاب الجماهيريّ، اليوميِّ النابض، يحتاج إلى إعطائها "فرصةً" من "النضال البرلمانيّ" لكي تعود إلى مجالها الحيويّ الطبيعيّ والشرعيّ. وعندئذ، لن يبقى سوى الحزب المتواصل، يوميًّا وفعليًّا، مع الجماهير. وسيكون في الإمكان بناءُ قوّة سياسيّة، معبِّرة ومؤثِّرة، نتخلّص بواسطتها من الخلط المكرَّس المريب ما بين "حزب" و"قائمة انتخابيّة." وهو ما يشكّل، في رأيي، خيانةً ارتكبتها الأحزابُ في حقّ مجتمعها، حين طمست التمايزاتِ بين السياسة كمهنة والسياسة كرسالة، بتعبير ماكس فيبر، وتخلّت عن دورها كوكيل توعيةٍ وتثوير.
نعرف، جميعًا، أنّ تأثير النوّاب العرب في قرارات الكنيست وقوانينه، كما في مجمل السياسات الإسرائيليّة، هو تأثيرٌ محدودٌ جدًّا، بأفضل تقدير. فوجودُهم (منذ تأسيس الكنيست) لم يَمنع، يومًا، سنَّ قانونٍ عنصريّ واحد، ولم يَمنعْ أيّةَ ممارسةٍ عنصريّةٍ تمييزيّة، ولم يَمنعْ مصادرةَ دونم واحد من أراضينا، ولم يَمنعْ هدمَ بيت واحد، ولم يَمنعْ قتلَ شابّ عربيّ واحد، بل لم يَمنعْ تعرّضَ أعضاء الكنيست أنفسِهم للضرب والاعتقال والمحاكَمَة! وفي المقابل، ليست ثمّة إنجازاتٌ عينيّةٌ جدّيّة من هذا الحضور البرلمانيّ طوال سبعة عقود، ولا حتى في مجال حقوق هذه الأقليّة (أوضاعها المعيشيّة، أوضاع قراها ومدنها،...).
ومن هنا، يبدو أنّ كفّةَ الخسارة الفادحة هي الراجحة. وهذا هو مبعثُ الموقف الداعي إلى "مقاطعة الكنيست،" بالبناء ــــ أيضًا ــــ على حقيقة أنّ إسرائيل لن تكون قادرةً على احتمال وجود فلسطينيّي الداخل خارج برلمانها. وهي حقيقةٌ أكّدها حشدٌ من السياسيين والباحثين الإسرائيليين في مناسباتٍ عديدة، أشيرُ هنا إلى اثنتين منها فقط:
1) تأكيد كارين تمار شيبرمان، ضمن بحثها في سؤال "لماذا لا يصوِّت العربُ مواطنو إسرائيل،"(1) أنّ "المقاطعة الآخذة في الاتساع والتصاعد بين العرب في إسرائيل، تعبيرًا عن موقفٍ لا يرى فيه العربُ أنفسَهم جزءًا لا يتجزّأ من الدولة، هو ناقوسُ خطرٍ لا يمكن دولةً ديمقراطيّةً تجاهلُه."
2) تحذير الوزير السابق أوفير بينيس (من حزب العمل، في أعقاب انتخابات الكنيست في العام 2013)(2) من أنّ "انخفاض نسبة التصويت في الوسط العربيّ هو أمرٌ خطيرٌ جدًّا بالنسبة إلى دولة إسرائيل وينبغي أن يُشعل أمامنا جميعَ الأضواء الحمراء"!
حيفا
(1) مجلة برلمان، الصادرة عن المعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة، العدد 61، آذار 2009.
(2) موقع واي نت الإسرائيليّ، 22/12/2013.
* صحفيّ وكاتب فلسطينيّ، يقيم في حيفا.