قد يبدو هذا العنوانُ صادمًا للبعض. فمن يعرف ماهر اليماني جيّدًا لن تَفوتَه سخريتُه ممّن كان يسمّيهم "المسَأّفين" (بالهمز والسين) أو "المستسْئِفين" (بصيغة الاستفعال). وغالبًا ما تناول بالنقد الساخر أصحابَ الجمل المركَّبة الطويلة المتفاصحة، والمستشهِدين بمن هبّ ودبّ من الفلاسفة وجهابذةِ الفكر.
لكنْ هل كان ماهر فعلًا يكره الثقافةَ والمثقفين؟
ماهر كان عسكريًّا في الأساس، ما في ذلك أدنى ريْب. لكنّه كان محاطًا دومًا بكثيرٍ من الكتّاب والصحافيين والأكاديميين والفنّانين، خصوصًا في الفترة الذي تلت مرحلتَه النضاليّةَ التأسيسيّةَ الأولى، أي بعيْدَ تنفيذ عمليّته العسكريّة الأولى تحت إدارة د. وديع حدّاد، وبعد خروجه من سجنه اليونانيّ. هنا نذكّر بأنّ الشهيد وديع (أبا هاني) طلب إليه تعلّمَ العبريّة في جامعة بيروت العربيّة، ففعل ماهر ذلك لفترة، إلى أن كلّفه أبو هاني من جديد بالذهاب إلى الشهيد غسّان كنفاني في مقرّ مجلّة الهدف. والغرض؟
لنستمعْ إلى ماهر يحدّثُنا بنفسه، في مجلة الآداب، عن غرض وديع من إرساله إلى غسّان:
"كان عليّ الاجتماعُ بغسّان ساعةً يوميًّا، لكي يَشرحَ لي عن القضيّة الفلسطينيّة، ويتولّى تثقيفي. ففعلتُ ذلك ثلاثةَ أشهر كاملة: يستقبلني غسّان، فأُمضي معه الساعةَ في نقاشاتٍ تطاول أمورًا كثيرةً، من غير ’كلام كبير‘ عن الكومبرادور والإمبرياليّة وغيرِ ذلك. وكان اللقاءُ ينتهي بأخذي كتابًا من مكتبته. وكان غسان يَلْحظُه دومًا، فيسألُني عنه، وأجيبُه: ’ما بدّك تثقّفني؟!‘ فيبتسم. إلى أن أوقفني يومًا، ومعي كتابٌ ضخم. قال لي: ’هذا قاموس ألمانيّ ــ ألمانيّ لن يثقّفَك.‘ فأعدتُه إليه!"[1]
أمّا السبب الأول في رغبة وديع في "تثقيف" ماهر، فهو من أجل إرساله ـــ مع جايل العرجة ومنى السعودي ـــ في جولةٍ في أميركا اللاتينيّة بهدف الترويج لكتابٍ عن رسوم الأطفال في زمن الحرب. وكان المطلوب من ماهر "استغلالَ" صفته، كمنفّذٍ لعمليّةٍ بطوليّةٍ، من أجل تحشيد الفلسطينيين ـــ والعربِ المغتربين عامّةً ـــ هناك، وتأمينِ التمويل.
بعيدًا عن حسّ الدُّعابة الذي يعبِّر عنه كلامُ ماهر السابق، فإنّه يكشف كذلك عن مفهومه (ومفهومِ غسّان كنفاني) للثقافة: إنّها ليست "كلامًا كبيرًا عن الكومبرادور والإمبرياليّة وغيرِ ذلك،" ولا هي استخدامُ كتبٍ ضخمةٍ تَرْطِنُ بلغةٍ عويصةٍ ـــ ألمانيةٍ أو "عربيّةٍ" أشبهَ ما تكون بالألمانيّة لشدّة صعوبتها. الثقافة عند ماهر هي الكلامُ الواضحُ الذي يفهمُه كلُّ الناس. والأهمّ: الثقافة هي ما يَخدم فلسطينَ والناس والعدالةَ، لا ما يَخدم المثقّفَ.
لكنّ "طبْعَ" ماهر، كما يقولُ عن نفسه، كان "أميلَ إلى طبْع المقاتِل من مثقّفٍ يجوب بلادَ العالم في رحلاتٍ ثقافيّةٍ ترويجيّة." ولذلك عاد إلى المجال الأمنيّ الذي كان قد بدأه قبل عمليّة اليونان. طبعُ ماهر، إذًا، هو الأساسُ وراء حصولنا على ماهر المقاتل والقائد الميدانيّ، لا ماهر المثقّف التعبويّ التحشيديّ. لم يكن "الأمنُ الثقافيّ" هو ما يغري ماهر اليماني، بل "الأمنُ المركزيّ" التابعُ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. بيْد أنّه لم يكن على الإطلاق مستخفًّا بالأمن الأوّل. كلُّ ما في الأمر أنّ طبعَه القتاليّ الذي نشأ عليه غَلَبَ التطبّعَ الذي كان غسّان ووديع يريدان أن يُنشِئاه عليه.
***
سماح إدريس في تكريم ماهر اليماني، الهرمل، 7 نيسان 2019
لنحاول التفصيلَ قليلًا في لقاءات غسّان وماهر التثقيفيّة. فلئن كان صحيحًا أنّ ماهر اليماني لم يذهبْ إلى أيّ مؤسّسةٍ جامعيّةٍ صغرى أو كبرى، فإنه نشأ في مؤسّسةٍ ثقافيّةٍ فكريّةٍ عُليا، مجبولةٍ بالأخلاقِ والقيمِ والمُثُلِ والدم والتضحية والشهادة، ومحتشدةٍ بالمفكّرين والمناضلين والشهداء. اسمُ هذه المؤسّسة: غسّان كنفاني ومجلّةُ الهدف. وهذه المؤسّسة كان يمكن أن تؤهِّلَ ماهر اليماني لسلوك المجال الثقافيّ والإعلاميّ المباشر، لولا طبعُه القتاليُّ كما ذكرنا. في الوصف الآتي سنحاول أن نتعرّفَ إلى طريقة غسّان كنفاني في بناءِ ما يمكن أن يكون كادرًا مثقفًا حزبيًّا في الجبهة الشعبيّة.
من كلام ماهر يبدو أنّ غسان اعتمد استراتيجيةً مركّبةً في "تثقيف" ماهر:
- الاستراتيجيّة الأولى تعتمد على ما يصفه ماهر بإشراك غسّان إيّاه "في نقاشاتٍ عاديّة، بلا كلامٍ كبير لن يفهمَه شابٌّ [مثلُ ماهر] لم يُكملْ تعليمَه بل أمضى كلَّ وقته بصحبة السلاح أو داخل السجون." وكان ذلك يجري من خلال "حصصٍ خاصّةٍ، لمدّة أربعةِ أشهر، بمعدّل خمسِ مرّاتٍ أسبوعيًّا، ولساعةٍ أو أكثر في كلّ مرّة."
- الاستراتيجيّة الثانية تنمّ عن حكمة غسان. فقد كان يترك ماهرًا في مكتب الهدف "ليستقبلَ الضيوفَ،" وليستمعَ إلى نقاشاتهم، على أن يلخِّصَ له ماهر بعد مغادرتهم المكتبَ ما "فهمه منهم." ومن بين هؤلاء الضيوف كتّابٌ ومثقّفون وصحافيّون وناشرون وفنّانون ومناضلون، صرف ماهر معهم ساعاتٍ وأيّامًا طوالًا، يَذكر منهم: غانم بيبي، وشريف الحسيني، ومحمود الداورجي، وبسّام أبو شريف، وعدنان بدر، ورضا سلمان. في مكتب الهدف، إذًا، تشرّب ماهر ثقافةً مباشرةً وغيرَ مباشرة، إذا جاز القول، في ميادينَ متنوّعة. الجدير ذكرُه أنّ الهدف لم تكن مجلّةَ الجبهة الشعبيّة فحسب، ولا مركزَ "تثقيف" ماهر الأوّل فقط، وإنّما كانت أيضًا "مقرًّا للتنظيم الخارجيّ للجبهة بشكلٍ سرّيّ."
هكذا تأهّل ماهر ليكون مقاتلًا ومثقّفًا في الآن نفسه. ومن هنا نفهم ولعَه بالسلاحِ والقراءةِ معًا، وبالتلازم الوثيق بينهما. فقد نشأ في بيئةٍ جمعتْ بين مقاتلينَ أشدّاء، ومثقّفينَ متعدّدي الاختصاصات والاهتمامات والمسالكِ الإبداعيّة، وقادةٍ رفيعي الأخلاق الثوريّة أمثال أبي ماهر والحكيم حبش ووديع وغسّان. وكان ماهر دائمَ الحرص على مرافقتي إلى ندواتٍ ومؤتمرات. ولطالما راقبتُه وهو يصغي باهتمامٍ بالغٍ إلى بعض المتحدّثين، قبل أن يناقشَني في ما تحدّثوا عنه بعد مغادرتنا المكانَ. هذا من دون أن أنْكرَ أنّه أحيانًا كان يملُّ من بعضهم، فيخرجُ من الندوة أو المؤتمر بعد أن يهمسَ في أذني: "مسترْ إدريس، طالع أدخِّن سيجارة. هاد الزلمي هلك سمايْ. (...) أختو عا أخت ثقافتو!" وهو ما يتوافق مع شهادة الرفيق عصام اليماني، ابنِ القائدِ العظيم أبي ماهر اليماني، الذي كتب:
"كان ماهر مثقّفًا ومتفقِّهًا في مواضيعَ مختلفة، لكنّه لم يكن يتفلسف على طريقة البعض. وكان عندما يصادف أحدَ هؤلاء يقول: ’قرأ كتابين صار مفكّر حالو كارل ماركس‘".
***
من تكريم ماهر اليماني، الهرمل
ممّ تكونتْ ثقافةُ ماهر؟
لمعرفةِ ذلك يفيدنا أن نُكملَ ما كتبه عصام اليماني، ابنُ أخيه أحمد:
"لم تقتصر مطالعاتُ ماهر على كلاسيكيّات الفكر الماركسيّ وتاريخِ القضيّة الفلسطينيّة. فقد اهتمّ بمطالعة الأدبِ العربيّ، وترجماتِ الأدب العالميّ (غابرييل غارسيا ماركيز وماريو فارجاس يوسّا وبابلو نيرودا وناظم حكمت وغيرهم). وأطلّ على الأدب الروسيّ أثناء التحاقه بدورة تدريبٍ في موسكو. وكان ماهر يعيد قراءةَ غسّان كنفاني ويقول: ’عمّي، كلّ مرّه بقرأ فيها غسّان أكتشف جوانب جديده ما تنبّهت لها في السابق‘."
لكنّ عصام اليماني يضيف أنّ اطّلاعَ ماهر لم يقتصرْ على المطالعة، وإنّما تجاوز ذلك إلى السينما، "وبخاصّةٍ الأفلام السياسيّة الهادفة. وكان يحبّ أفلامَ المخرج كوستا غافراس، ولاسيّما الاعتراف وزَدْ."
ويكمل عصام فيقول:
"إلّا أنّ ماهر لم يتبجّحْ يومًا بثقافته، ولم يكن يستعرضُها عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ، بل حرِص على إظهار ثقافته عبر الممارسة العمليّة للمثقّف الثوريّ، كما فعل الشهيد باسل الأعرج. وفي هذا المجال لا أذيعُ سرًّا أنّه كان يحذِّر الحكيم جورج حبش من الكوادر أصحابِ ’الجُمل الثوريّة،‘ الذين كان الحكيم يُفتتن بهم، ولكنّ الأحداث أثبتتْ أنّهم لم يكونوا على مستوى التحدّي النضاليّ وانتهتْ تجربتُهم عند أوّل تحدٍّ نضاليّ."
غير أنّني أشهدُ أنّ ثقافةَ ماهر لم تقتصر على ما ذكره عصام، على أهمّيّته، وإنّما كان مثقّفًا كذلك في أمورِ الحياة اليوميّة، حتى لا يَبْعد أن نلقِّبَه بـ"مثقّف الحياة اليوميّة." فماهر يعرف بالسمك، والصيد، والسلاح، وميكانيكِ السيّارات، والشجر، والشِّعر (مع تخبيصٍ في الأوزان)، والعائلات، والسلالات، والمناطق، والطوائف، والمذاهب، والقبائل، والمتزوّجين، والمطلَّقين، والمصاحبين. ويعرف بأطباعِ البشر، ويتعامل مع كلِّ طبعٍ بـ"الأسلحة المناسبة." ويعرف بالطعام، وبما يقوّي الشهوةَ، وما يزيل الغمّةَ، وما يطرد الكآبة. وماهر في ذلك لم يكن "ملمًّا" فحسب، بمعنى المعرفة العابرة بالأشياء من كلّ حدبٍ وصوب، بل كان أيضًا يعرف بعضَ الموضوعات بدقّةٍ متناهية وبإتقانٍ باهر. وهو ما يوافق التعريفَ اللغويَّ الأوّلَ لكلمة "ثقّف" على ما جاء في معجمات اللغة العربيّة: "ثقّف الرمحَ أيْ أحدَّه وأسنّه." ماهر كان يُحِدُّ معرفتَه، ويصقلُها ويتقنُها، كعادةِ مَن يثقّف رمحَه، أو كباحثٍ يسوّي مقالتَه ويشذِّبُها ويسوّيها، ليقدّمَها إلى الناس بهيّةً نضرةً مفيدةً.
ماهر، في رأيي، مثقّفٌ من نوعٍ نادر: يعرف الكثيرَ من كلّ شيء، ويتقن الكثيرَ في أمورٍ شتّى، ويكرّس معرفتَه كلَّها في خدمة الناس، ويَدْمج بين قوّة عقله وقوةِ زَنْده وسلاحِه. وأضيف إلى ذلك كلِّه أخلاقَه الرفيعةَ، التي هي جذرُ المثقّف الحقيقيّ والمناضلِ الحقيقيّ، لا "المسأَّف المستسْئف" المدّعي الانتهازيّ المستزلِم المنبطح أمام أقدام السلاطين. ماهر اليماني هو خلاصةُ الثقافة في أنبلِ معانيها، وينبغي أن يكون قدوةً لشابّاتنا وشبابنا التوّاقين إلى الحرّيّة والتحرّر.
الهرمل