لم تكد المقاومةُ الفلسطينيّة، التي انطلقتْ في مُنتصف الستينيّات من القرن الماضي، تَبلُغ عامَها الثالث حتى بدأ غسّان كنفاني يَقْرع جدرانَ الخزّان من جديد، ويُلقي الأسئلةَ الثقيلةَ عن "المقاومة ومُعضلاتها،" ويَطْرح هواجسَه في مقالات وندوات سياسيّة عديدة.[1]
ففي وقتٍ مبكّر تنبّه هذا الكاتبُ اليقظُ إلى المخاطر الفكريّة والسياسيّة التي تُهَدِد مُستقبلَ الكفاح المسلّح الفلسطينيّ، وكيف تتضاعف حين لا تَسترشدُ المقاومةُ بالرؤية السياسيّة العلميّة الواضحة وبدراسة حقائق الواقع. وكان قد رَصد عددًا من الظواهر التي راحت تغزو جسمَ المقاومة الفلسطينيّة: من هوّةٍ تزداد اتّساعًا بين "القيادة" والجماهير" وتتّخذ شكلَ "امتيازاتٍ صغيرةٍ" تنمو كالطفيليّات على ذلك الجسم؛ إلى فسادٍ ماليّ وتنظيميّ متفاقم؛ مرورًا بتشبيحٍ وزعرنةٍ مستشريْن؛ وصولًا إلى تبجّحٍ بشعاراتٍ "ثوريّةٍ" أو "واقعيّةٍ زائفة" على غير فهمٍ ولا استيعاب. وكان لافتًا، في السياق الأخير، اعتبارُه شعارَ "الدولة الفلسطينيّة" وصفةً جاهزةً لتصفية الثورة.[2]
تلك الظواهر وغيرُها كانت البذورَ الفاسدةَ التي ستأكل الأخضرَ واليابسَ فيما بعد. واليوم، بعد نصف قرن، تعيش المقاومةُ الفلسطينيَة في قلب الدائرة التي حذّر منها غسّان، ويعيش الفلسطينيون في خضمّ أزمةٍ عميقةٍ شاملةٍ تطاول وجودَهم المادّيّ، وتمسّ هويّتَهم وحقوقَهم الوطنيّة، وتعزل تجمّعاتِهم في الوطن والمنافي بعضَها عن بعض، وتغمرهم بشعور عارم بالضياع والتيه في صحارى الأسئلة الثقيلة والموجعة، وتعيدهم إلى البحث عن الخلاص الفرديّ من المحرقة اليوميّة التي يعيشونها.
اليوم، كلُّ تجمّع فلسطينيّ يشعر بأنّه مستهدَفٌ ومحاصَرٌ ووحيد؛ ذلك لأنّنا نعيش في "جُزُر: لا يربطها مشروعٌ سياسيٌّ موحّد. هناك ارتباكٌ فصائليّ، وغيابٌ للرؤية الواضحة، وعدمُ كفاءةٍ في إدارة العلاقات الداخليّة، وغيابٌ مذهل للمرجعيّات، وسقوطٌ شامل للشرعيّات.
وإذا كانت الحالةُ الفلسطينيّة الراهنة نتيجةً طبيعيّةً للوقائع التي سبقتها وأسّستْ لها، فإنّ الشعب الفلسطينيّ لم يزل، حتى اليوم، يُعاني التشرّدَ والنفيَ والتطهيرَ العرقيّ؛ ولم يزل، حتى اليوم، يسأل عن كيفيّة الخروج من المأزق الوطنيّ المستعصي؛ لكنه لم يزل يسمع صدى صوته فقط... وصمتًا رسميًّا عربيًّا "مدوّيًا."
إنّ أسماء وعناوينَ مثل "منظّمة التحرير الفلسطينيّة" أو "القوى الوطنيّة والإسلاميّة" أو "تحالف قوى المقاومة الفلسطينيّة" أصبحتْ هيئاتٍ تعني الشيءَ ذاتَه بالنسبة إليه: عناوين كثيرة تنْقصها المصداقيّةُ الوطنيّةُ والشرعيّة، ويُعْوزها الوضوحُ والقيادةُ الثورية والخططُ والكفاءة، وتعاني فقرًا مدقعًا في الثقة، وبعضُها خارج الواقع وينتمي إلى منطقة محدّدة أكثرَ من انتمائه إلى وطن وقضية. ولعلّي أغامر بالقول: إنّ التجمّع القياديّ الوحيد الذي يثق به شعبُنا موجودٌ اليوم في السجون والمعتقلات الصهيونيّة.
في ظلّ غياب مركز أمميّ يتصدّى للإمبرياليّة والصهيونيّة؛ وغيابِ مركز قوميّ يمكن أن يُشكّل حاضنةً وازنةً وصلبةً للمقاومة الفلسطينية؛ تتضاعف أهمّيّةُ العامل الذاتيّ الفلسطينيّ، وتحديدًا: أهمّيّةُ العودة إلى كلّ الشعب الفلسطينيّ، باعتباره هو القائدَ وصاحبَ الولاية ومرجعيّةَ كلّ المرجعيات.
الفلسطينيون عمومًا متّفقون على ضرورة "المقاومة،" ولكنّهم لا يُجْرون حوارًا جادًّا وحقيقيًّا عن طبيعة هذه المقاومة، وشكلِها، وأهدافِها، والقوى والشخصيّاتِ التي تشارك فيها. بل هم لا يُجْرون حوارًا يُراكِم الحواراتِ السابقة ويبني عليها باتجاه المستقبل. فما يحدث، أحيانًا، حوارُ طرشان؛ وأكثرُ "المتحاورين" غادر الواقعَ واغترب عنه ويريد أن يركِّب قسْرًا حلولًا قديمةً على إشكالاتٍ جديدة، أو أن يفرضَ بالقوة وبالمال رؤيتَه على الآخرين. وهكذا تتّسع الهوّةُ بين الجميع، ويصبح التصورُ الذاتيّ الضيّق بديلًا من المنظور الوطنيّ العام، فنزداد شتاتًا على شتات.
***
على أنّ الخطر ليس في التعدديّة السياسيّة والفكريّة الفلسطينيّة، كما قد يخيّل إلى البعض، بل في عجز القوى السياسيّة عن إيجاد قواسمها الوطنيّة المشتركة. فما هي، مثلًا، القواسمُ والأطرُ والمؤسّسات التي تجمع حركةَ الجهاد الإسلاميّ والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، أو أيّ فصيليْن يعتمدان المقاومةَ خيارًا استراتيجيًّا لتحقيق العودة والتحرير؟ وما أهمّيّة أن تخرج هذه القوى بوثيقةٍ مشتركةٍ لا ترى النورَ ولا يحترمها أحد؟
السؤال أعلاه يتجاوز العلاقات بين الفصائل ليحيلنا على أسئلةٍ أخطر: ما الذي يجمع بين الفلسطينيين في لبنان وبين أشقّائهم وشقيقاتهم في غزّة مثلًا؟ وأين تلك الجبهة الوطنيّة الموحّدة التي يُفترض أن تجمع كلَّ أطياف اللون الفلسطيني للاتفاق على القضايا المركزيّة... الكبرى على الأقلّ؟!
إنّ قرارات مجموعةٍ متنفّذةٍ في منظمة التحرير الفلسطينيّة أو السلطة الفلسطينيّة أو سلطة غزّة يمكن أن تعرِّض مئاتِ آلاف الفلسطينيين في العراق والكويت وسوريا و... لخطر الموت والتشرّد الجديد. وفي المقابل، لا خطّة وطنيّة واحدة لدينا من أجل كسر الحصار عن غزّة، أو لتحرير الأسرى، أو لمساندة اللاجئين المشرَّدين الذين لا سندَ لهم في العراء. فاذا لم تكن هذه المهامُّ في صلب برنامج المقاومة، فما هي مهمّةُ المقاومة؟ وما هي أولوياتنا الوطنيّة؟!
إنّ غياب الإستراتيجيّة السياسيّة لحركة المقاومة الفلسطينيّة مبعثُه غيابُ الحوار والديموقراطيّة من جهة، وهيمنةُ طبقة فلسطينيّة تضع الكوابحَ والعراقيلَ أمام المشاركة الشعبيّة الفلسطينيّة في صنع القرار السياسيّ والخيارات الوطنيّة من جهة أخرى. نحن إزاء سياسةٍ منهجيّةٍ لا تحرم شعبَنا حقَّه في المشاركة وحسب، بل تدفعه دفعًا أيضًا إلى الاغتراب عن وطنه وقضيّته، وإنِ استدعتْه في مواسم الانتخابات! والحال أنّه من دون الدعوة إلى المشاركة الشعبيّة الحقيقيّة (لا "الانتخابية" الموسميّة فقط)، ومن دون فتحِ الباب واسعًا أمام كتلٍ وتيّاراتٍ ونُخبٍ ثقافيّة وجمعيّاتٍ أهليّة وشخصيّات وزانة تشارك في عملية النضال الوطنيّ وإعادة إطلاق حركة المقاومة الفلسطينيّة، بحيث يكون للجيل الشابّ والمرأةِ الفلسطينية دورُ القائد الأساس والعمود الفقريّ فيها؛ من دون ذلك كلّه سيتعذّر على شعبنا اكتشافُ طاقته الكامنة والإقلاعُ نحو فجر جديد.
***
إنّ تعريف حركة المقاومة الفلسطينيّة ضرورة نظريّة وسياسيّة وتنظيميّة لا بدّ منها، وهذه لن تُنجَز إلّا بالمشاركة الشعبيّة.
وعليه، فلا بدّ من العودة إلى ما أرساه المناضلون والفدائيون الأوائل من فكر ثوريّ استوعب ــــ إلى حدّ كبير ــــ الواقعَ المركّبَ للوجود الفلسطينيّ، فشرع في تأسيس الاتحادات والنقابات والمجالس الشعبيّة، وأطلق الحركاتِ الطلّابيّةَ والنسائيّة، وأسّس الهيئاتِ العسكريّةَ والأكاديميّة، وشيّد الآليّاتِ التي تضمن مشاركةَ أوسع فئات الشعب في تحديد أهداف حركة المقاومة الفلسطينية ـــ ـــ قواها المحرِّكة، واستراتيجيّتها السياسيّة والعسكريّة، ومرجعيّتها، وعلاقاتها، وميثاقها الوطنيّ.
نحن قد نبدأ من جديد، لكنّنا بالتأكيد لا نبدأ من الصفر.
إنّ الإستراتيجيّة الوطنيّة الشاملة، التي تصوغها إرادةٌ وطنيّةٌ حرّة، وشخصيّاتٌ مناضلة، وطاقاتٌ ثقافيّة، سوف تأخذ في الحسبان واقعَ التعدّديّة السياسيّة والفكريّة والدينيّة والعمريّة والجنسيّة (الجندريّة). الشعب الفلسطينيّ تعدادُه حوالي 13 مليون شخص، ولا يعيش ظروفًا متشابهة. هناك، مثلًا، نصفُ مليون فلسطينيّ وفلسطينيّة في التشيلي وحدها، حياتُهم وأولويّاتُهم لا تشبه حياةَ أشقّائهم وشقيقاتهم وأولويّاتِهم في بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا وغيرها من المناطق التي انحدروا منها أصلًا. فكيف ببقيّة تجمّعات شعبنا، التي لا يحقّ لأحدٍ مصادرةُ هويّتها الوطنيّة الفلسطينيّة وحقِّها في المشاركة؟
إنّ وجودَ مجتمعات فلسطينيّة داخل الوطن وخارجه ليس عيبًا، بل هو من نتائج النكبة المستمرّة، التي يتحمّل مسؤوليتَها الاستعمارُ والاحتلالُ والأنظمةُ الرجعيّةُ والقياداتُ التقليديّةُ الفلسطينيّةُ والحروبُ في المنطقة. ومن واجب أيّ حركة مقاومة فلسطينيّة أن ترى الكُلَّ الفلسطينيّ، في تعدّده وفي وحدته، كما هو، من دون شروط، وأن تجعل من اختلافنا وتعدّدنا مصدرًا للقوّة والتاثير، لا مصدرًا للضعف والاغتراب.
لقد وصلت البرجوازيّةُ الفلسطينية الكبيرة ومشروعُها (الدولة الحاليّة المسخ، غير السيّدة وغير المستقلّة، وعلى أقلّ من 23% من فلسطين) إلى النتيجة التي توقّعها غسّان كنفاني: خيانة الثورة، والاستنقاع في حظيرة النظام العربيّ الرسميّ. وستواصل هذه الطبقةُ الفلسطينيّةُ محاولاتِها لحلّ مأزقها التاريخيّ على حساب الشعب والمقاومة والحقوق الوطنيّة. وعليه، فإنّ ما نحتاجُه اليوم هو قاطرةٌ وطنيّةٌ جديدة، بقيادةٍ وطنيّةٍ جديدة، تواصل النضالَ من أجل تحقيق العودة والتحرير وإقامة مُجتمع العدالة والمساواة على كامل أرض فلسطين المُحرّرة.
هذا هو مشروع الطبقات الشعبيّة الفلسطينيّة بامتياز. وسيظلّ هو مشروعَ اليسار الثوريّ قبل غيره، وذلك بعد أن ينفض الغبارَ عن نفسه ويتخلّص من كسله وعجزه ورهاناته الخاطئة.
برلين
[1] المقاومة ومُعضلاتها، دراسة كتبها كنفاني سنة 1971، وتقع في 47 صفحة، من الأعمال الكاملة، المجلد الخامس (الدراسات السياسيّة).
فضلًا عن سلسلة مقالات نُشرتْ في الأعداد الاولى من مجلة الهدف بعنوان "نحو صيغة جديدة للوحدة الوطنيّة" و"وحدة الكفاح المسلّح."
انظر ندوة غسان كنفاني، "عن التغير واللغة العمياء،" آذار 1968.
[2] وثائق ومواقف الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في تلك الفترة، مثل كرّاس بعنوان: الدولة الفلسطينيّة، الحلّ التصفويّ، والبديل الثوريّ (منشورات الهدف 1972)، وكذلك: الاستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة، شباط 1969.