أوّلًا: تسارُع التغيّر المناخي خلال السنوات الخمس الأخيرة
في أيلول (سبتمبر) 2019، أعلنتْ شركةُ الكهرباء والغاز في شمال كاليفورنيا (PG&E) تقنينًا في ساعات التغذية الكهربائيّة يشمل حوالي خمسين ألف منزل ومؤسّسة. استمرّ هذا التقنين عدّة أسابيع، ملحِقًا خسائرَ اقتصاديّةً كبيرةً قُدّرتْ بحوالى ٢ مليار دولار.
قد يكون الخبرُ السابقُ عاديًّا بالنسبة إلى بلدٍ كلبنان، الذي يعاني منذ زمنٍ عجزًا عن إنتاج ما يكفي حاجتَه من الطاقة الكهربائيّة. أمّا في حالة كاليفورنيا فلم يكن نقصُ الإنتاج هو الدافعَ إلى التقنين، بل تجنّبُ اندلاع الحرائق في الأسابيع الأولى من الخريف؛ ذلك لأنّ تسارُعَ التغيّر المُناخيّ في العالم جعل تلك الفترةَ تُعرف بـ"فصل الحرائق" هناك. والمعروف أنّ طقسَ كاليفورنيا هو الأكثرُ اعتدالًا في الولايات المتحدة. ولكنّ تأخُّر المطر، والجفافَ، وارتفاع َسرعة الرياح في هذا التوقيت من السنة - - كلّ ذلك جعل من الحرائق حدثًا سنويًّا. وأسوأُ هذه الحرائق كان "حريق كامب" (Camp Fire) سنة 2018، الذي التهم أكثرَ من 150 ألف هكتار من الأراضي، وتسبّب بمقتل 18 شخصًا، وتدميرِ حوالى 19 ألف مبنى، والقضاء على مدينتيْ Paradise وConcow بشكلٍ شبهِ كامل.[1]
حريق في مدينة باراديس في كاليفورنيا سنة 2018 (المصدر: أ ف ب)
في فترةٍ زمنيّةٍ قصيرة، وفي ظروفٍ مُناخيّةٍ مشابهةٍ لحرائق كاليفورنيا، اندلعتْ حرائقُ في لبنان في 13/10/2019، وكادت نتائجُها أن تكون كارثيّةً لولا هطولُ المطر في اللحظة المناسبة.[2]
وما إنْ أفل خبرُ حرائق لبنان حتى استفاق العالمُ مع مطلع العام الجديد (2020) على خبر حرائق أستراليا، التي دمّرتْ ما يقارب 19 مليون هكتار من الأراضي، أيْ ما يعادل 18 ضعف مساحة لبنان. ويقدِّر أحدُ العلماء في "معهد أستراليا للعلوم" أنّ عددَ الكائنات الحيّة التي قُتلتْ من جرّاء حريق أستراليا قد تجاوز المليار.[3]
ليست كلُّ هذه الأحداث مصادفةً. ففي تقريرٍ صدر عن المنظّمة العالميّة للأرصاد الجوّيّة (WMO) في 27/9/2019، أنذرت المنظّمةُ بأنّ الاحتباسَ الحراريّ للكرة الأرضيّة قد ازداد بنسبة 20% خلال الأعوام الخمسة الأخيرة (2015 – 2019).[4] وللمقارنة فقط، فإنّ نسبةَ ارتفاع درجة حرارة الأرض منذ ما قبل الثورة الصناعيّة في أوروبا في العام 1850 إلى الآن قد بلغتْ 1.1 درجة مئويّة، بينما كان الارتفاعُ خلال السنوات الخمس الأخيرة 0.2 درجة مئويّة و 0.6 منذ العام 2000.[5] وأكّدت المنظّمة في التقرير نفسه أنّ سرعةَ ذوبان الثلج في القطب الشماليّ رفعتْ من منسوب المحيطات بمعدّل 5 مم سنويًّا في الأعوام الخمسة الماضية مقارنةً بـ 2.3 مم معدّلًا سنويًّا منذ العام 1993. ونتيجةً لهذا الارتفاع الكبير، شهد العالمُ تغيّراتٍ في المناخ تمثَّلتْ في ازدياد الفيضانات والعواصف الهائلة، وفي ارتفاعٍ كبيرٍ في نسبة الحرائق المدمِّرة. وحذّر التقريرُ من أنّ الإجراءات التي اتّفقتْ عليها دولُ العالم سنة 2016 في باريس للحدّ من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون (CO2) لم تعد كافيةً، ومن أنّ العالم في حاجةٍ إلى زيادة مجهوده بنسبة 3 - 5 أضعافِ ما اتُّفِق عليه من أجل تجنّبِ كوارثَ أسوأ بكثيرٍ ممّا يشهده العالمُ اليوم.
ثانيًا: تسارعٌ في انتشار الأوبئة الحديثة النشأة
في توقيتٍ شبهِ موازٍ، حذّرتْ منظّمةُ الصحّة العالميّة في تقريرٍ صدر سنة 2007 من أنّ العالم يشهد منذ مطلع القرن الحاليّ ظهورًا متزايدًا للأوبئة المُعْدِية الحديثة، وأنّ سرعةَ انتشار هذه الأوبئة تزداد بشكلٍ كبيرٍ نتيجةً لحركة تنقّل الناس بين الدول. وقدّرت المنظّمة أنّ عددَ الأوبئة الحديثة التي ظهرتْ في السنوات الثلاثين الأخيرة يتجاوز الأربعين.[6] ومن أشهر هذه الأوبئة التي شهدها العالم منذ العام 2003:
(1) فيروس سارس (SARS) الذي ظهر في الصين سنة 2003 وأدّى إلى مقتل 774 شخصًا في العالم من أصل ثمانية آلاف أصيبوا به. ويرجِّح العلماءُ أن تكون أوّلُ إصابةٍ به قد ظهرتْ جرّاء انتقال عدوى من حيوان زباد النخيل الآسيويّ (Asian Palm Civet) في سوقٍ لبيع لحم الحيوانات البرّيّة في قوانغدونغ فى جنوب الصين.[7]
(2) إنفلونزا الخنازير (H1N1) الذي ظهر في المكسيك سنة 2018 وأدّى إلى مقتل ما بين 151 - 575 ألف شخص من أصل حوالى مليار ونصف مليار شخص تُرجَّح إصابتُهم بالعدوى. أمّا مصدر هذه الانفلونزا فهو خنزيرٌ في إحدى مزارع الخنازير في وسط المكسيك.[8]
الوطواط الآكل للفواكه يرجّح أنه مصدرُ انتقال فايروس إيبولا وكورونا إلى البشر
(3) فيروس إيبولا (Ebola) الذي اكتُشف سنة 1976، واختفى فترةً، ثمّ ظهر مجدّدًا سنة 2014 في غينيا، وانتشر في دول غرب أفريقيا، وأدّى إلى مقتل أكثر من 11 ألف شخص من أصل 28 ألف إصابة بالعدوى. ويرجِّح العلماءُ أن تكون أوّلُ إصابة بهذا الفيروس قد ظهرتْ بانتقال العدوى من حيوان الوطواط الأكلِ للفواكه (Fruit Bat) إلى الإنسان في إحدى مناطق غينيا.[9]
(4) فيروس كورونا (COVID - 19) الذي ظهر للمرة الأولى في 17/11/2019 في سوقٍ لبيع لحم الحيوانات البرّيّة في مدينة ووهان الصينيّة، وأصاب (حتى تاريخ كتابة هذا المقال في 7/4/2020) أكثرَ من مليون وثلاثمئة وخمسين ألف شخصٍ في العالم، وأدّى إلى مقتل حوالى 75 ألف شخص.[10] لم يُحدَّدْ، بعدُ، الحيوانُ الذي انتقل منه الفيروسُ إلى الإنسان، لكنْ يرجِّح العلماءُ أن يكون قد انتقل من الوطواط الآكل للفاكهة إلى حيواناتٍ أخرى في السوق، كآكل النمل (Pangolin)، قبل أن ينتقل إلى الإنسان.[11]
ثالثًا: هل من رابطٍ بين ظهور الأوبئة والتغيّر المناخيّ؟
إنّ التزايدَ في الأوبئة الجرثوميّة، والتسارعَ في التغيّر المناخيّ منذ بداية هذا القرن، مترابطان. فقد أظهرت الأبحاثُ أنّ التغيّر المناخيّ يؤثّر في حركة الحيوانات وتصرّفاتها بحثًاعن الطعام والطقس الدافئ، ما يزيد من فرص احتكاك البشر بها، ويؤدّي إلى انتقال الفيروسات إليهم وانتشارها.[12]
من بين هذه الحيوانات: الوطواطُ الأكلُ للفاكهة كما ذكرنا. هذا، وتؤكّد الدراسات[13]أنّ ارتفاعَ نسبة الأمطار في بعض المناطق نتيجةً للتغيّر المناخيّ يؤدّي إلى زيادة نموّ الفواكه، ما يجذب مزيدًا من الوطاويط إليها. وهذه الوطاويط تتكاثر بسرعةٍ حيث يتوافر الطعامُ، وتتجمّع حول مصادره، ما يؤدّي إلى اختلاطها بالبشر وبالحيوانات الأخرى التي تنافسها على هذه المصادر، فتنتقل الفيروسات من الوطاويط إلى هذه الحيوانات وإلى الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر. أمّا في المناطق التي تشهد انخفاضًا في نسبة الأمطار وجفافًا، فيُضطرّ المزارعون فيها إلى الذهاب إلى الغابات بحثًا عن الطعام؛ ما يزيد من احتكاكهم بالحيوانات، ومن بينها الوطاويطُ الحاملةُ للفيروسات.
وتؤكّد الأبحاث أيضًا[14] أنّ انتقالَ الأمراض من الحيوانات إلى البشر سوف يتزايد مع التغيّر المناخيّ، وسوف يُسهِّل انتشارَها؛ ذلك لأنّ أكثرَ من ثلثي الأمراض المُعْدية ينقلها البعوضُ الذي يفضِّل العيشَ في المناطق الحارّة. وستؤدّي كثرةُ الحرائق في بعض المناطق إلى هجرة بعض الحيوانات إلى مناطقَ أقربَ إلى المدن بحثًا عن الطعام؛ ما سيزيد من انتقال الأوبئة الجديدة في المدن أيضًا.
إنّ ما يشهده العالمُ اليوم نتيجةً لانتقال فيروس كورونا (COVID - 19) إلى البشر ومدى تأثيره في الحياة اليوميّة لكلّ سكّان الأرض يدفعنا إلى التذكير بأهمّيّة أن يعي الناسُ والدولُ أنّ التغيّرَ الحراريّ أخطرُ بكثيرٍ ممّا يظنّون. فإنْ لم نبدأ اليوم العملَ جدّيًّا على خفض نسبة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، فسيكون مستقبلُنا مليئًا بالكوارث الطبيعيّة والأمراض المميتة.
علينا كمواطنين ألّا "ننتظر" الحكومات لكي تبدأ بخفض هذه الانبعاثات؛ ذلك لأنّ كلَّ فردٍ منّا يُمكن أن يُحْدث تأثيرًا إيجابيًّا على صعيد التغيّر المناخيّ إذا قام بتضحياتٍ بسيطةٍ في حياته اليوميّة. ومن هذه التضحيات البسيطة:
(1) فرزُ نفاياتنا المنزليّة، وفصلُ ما تُمْكن إعادةُ تدويره لكي يعادَ استخدامُه.
(2) وقفُ استخدام الأكياس البلاستيكيّة، واستبدالُها بأكياسٍ قماشيّة قابلةٍ للغسل وإعادةِ الاستعمال.
(3) التوقّفُ عن شراء المياه في الزجاجات البلاستيكيّة، وشربُ المياه المعقّمة منزليًّا بدلًا من ذلك.
(4) استخدامُ وسائل النقل المشترك بدلًا من السيّارة الخاصّة، بل الاعتمادُ على المشي والدرّاجة الهوائيّة حيث أمكن.
إنّ الفرصة لا تزال ممكنةً لكي ننقذ الأرضَ وننقذَ مستقبلَنا ومستقبلَ أولادنا. ولكنْ يجب أن نبدأ الآن.
كاليفورنيا