كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.
لا تتوقّف مساعي الكيان الصهيونيّ وحلفائه في العالم عن تزوير الواقع في القدس المحتلّة، وعن تظهير صورة "إسرائيل" في وصفها "دولةً عصريّةً تحترم الأديانَ وحريّةَ العبادة،" خصوصًا في المواسم الدينيّة "السياحيّة" والمناسبات الكبرى، كأعياد الميلاد المجيد وشهرِ رمضان المبارك. وبرغم الصمت الدوليّ، ورياءِ النظام العربيّ الرسميّ، وتباكي سلطة أوسلو على أحوال المدينة ومصيرِ أهلها، فقد استطاعت جماهيرُ القدس وبلداتِها وقراها ومخيّماتِها (وتحديدًا فتيانُها الفقراءُ من سكّان أحزمة البؤس) أن تقدِّمَ إلى العالم روايةً مُغايرةً، ولو أنّها دائمًا ما تأتي على شَكل زفرةٍ غاضبة.
إنّ الصور التي تخرج إلى الرأي العامّ لا تؤثِّر فيه إلّا إذا صاحبتْها صرخاتُ غضبٍ ومقاومةٍ، ورسالةٌ سياسيّةٌ واضحة. فحالةُ الحصار المستمرّة التي يفرضها الاحتلالُ على القدس منذ العام 1993، وممارساتُ العدوّ وأجهزتِه الأمنيّة، تدفع أهلَ المدينة إلى الذهاب نحو الحقيقة الباردة والعارية، وإلى الأخذ بحكمة المَثَل المعروف: "ما حَكَ جِلدَكَ مِثلُ ظفرك!"
لقد أغلق الاحتلالُ نحو 90 مؤسّسة فلسطينيّة إغلاقًا تامًّا في القدس.(1) ومع ذلك فإنّنا لم نسمعْ إلّا بياناتِ "إدانة" لا قيمةَ لها، صادرةً من الاتحاد الأوروبيّ و"المجتمع الدوليّ." فالعدوّ يعتبر كلَّ جمعيّةٍ أو مؤسّسةٍ وطنيّة مقدسيّة متورّطةً في "التطرّف والإرهاب والتحريض،" إلى أن يَثْبتَ العكس...حتى لو كان الموضوعُ إقامةَ أُمسيةٍ ثقافيّةٍ أو مسرحيّةٍ للأطفال.
ويدرك الكيانُ الصهيونيّ أن تجريدَ المقدسيّين من مُنظّماتِهم ومؤسَّساتِهم الشعبيّةِ والثقافيّة، والتضييقَ المستمرَّ عليهم، يعنيان كشفَ ظَهْرهم، ودفْعَهم إلى الرحيل، أو إلى "الاعتماد" عليه في كلّ مفاصل حياتهم. كما يرى الصهاينة أنّ أيَّ مظهرٍ للسيادة الشعبيّة الفلسطينيّة الحقيقيّة داخل المدينة وداخل مؤسّساتها ومراكزِها وأنديتِها الثقافيّةِ والفنّيّة تعني أنّه لم يُحرِّر "أورشليم" 100%. ولذا فإنّه يكرّر اليوم ما قاله في العام 1948: "نريد أورشليم نظيفةً!"
واليوم، كما في مناسباتٍ كثيرةٍ على امتداد سنوات الاحتلال، تنتفض الجموعُ المقدسيّةُ الغاضبة التي تئنّ تحت وطأةِ الفقرِ والحصارِ والحواجزِ والقوانينِ العنصريّة. ويَعرف المقدسيّون (نحو 350 ألف عربيّ/ـة)، بالخبرة التاريخيّة الطويلة، أنّ مدينتَهم ستغرق في بطن العتمة والنسيان إنْ لم يتحرّكوا - أوّلًا - ولم يذكّروا جماهيرَ وطنهم العربيّ والعالم كُلّه - ثانيًا - بما تكابده المدينةُ على مدار الساعة من قتلٍ وقمعٍ وبطشٍ واستجوابٍ واعتقالٍ وتهويدٍ وأسرلةٍ وهدمٍ للبيوت وأعمالِ حفْرٍ تحت المسجد الأقصى واقتلاعٍ لأحياء عربيّةٍ بأكملها (الشيخ جرّاح نموذجًا راهنًا) بدعمٍ من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وكندا وغيرها.
يُلخِّص الكاتبُ الفلسطينيّ مجد كيّال ممارساتِ العدوّ في القدس على النحو الآتي:
"لجانٌ ومكاتبُ تخطيطٍ حضريّ تُعيد رسمَ المدينة بحيث تَعْزل الأحياءَ الفلسطينيّةَ عن بعضها بالمستوطنات والطُرقِ والمتنزَهاتِ والمشاريعِ السياحيّة، وتمنعها من الاتصال بمركز المدينة التاريخيّ، بينما تسعى لربط المستوطنات ببعضها وبمركز المدينة (خطّ القطار الخفيف مثلًا)، وتُكثّف إصدارَ أوامر هدم البيوت، فتُبقي عشراتِ الآلاف تحت ضغوطات الغرامات الماليّة المنهِكة الكفيلة بتدمير العائلات اقتصاديًّا، أو تُجبر الناسَ على أن يهدموا بيوتَهم بأيديهم. وزاراتُ صحّةٍ وبيئة، وسلطاتٌ ضريبيّة، تشنّ هجماتٍ ممنهجةً على التجّار لإذلالهم يوميًّا بالغرامات وإغلاقِ محلّاتهم، وذلك بهدف ابتزازهم لبيع أملاكهم للمستوطنين أو لتسليم شبّانٍ مناضلين أو منع نشاطٍ سياسيّ واجتماعيّ، وأغراضٍ مخابراتيّةٍ أخرى. صناديقُ استثماريّة، ومؤسّساتُ تشغيلٍ ودمجٍ اقتصاديّ، بتنسيقٍ حثيثٍ مع رؤوس أموالِ محلّيّين، تضخّ عشراتِ ملايين الدولارات من أجل ’دمج‘ الفلسطينيّين بسوق العمل والاستهلاك الإسرائيليّ، وتسعى لإقامة خدماتٍ ومراكزَ شرائيّةٍ على مستوى الأحياء، تُغْني الناسَ عن التواصل مع مركز مدينتهم وسوقِها. وزارةُ المعارف، ومعها مؤسّساتٌ صهيونيّة، تسعى لتصفية الطواقم التدريسيّة في القدس من المربِّيات والمربّين المناضلات والمناضلين، وتسعى لفرض المناهج الإسرائيليّة على المدارس المقدسيّة؛ هذا في ظلّ معطياتٍ متضاربةٍ حول نِسَبِ تسرّبٍ هائلةٍ من مدارس المدينة، تتراوح بين 40 و60 في المئة من طلبة المدارس الإعداديّة والثانويّة. منظومةُ التكافل الاجتماعيّ في المدينة، التي كانت قائمةً في فلك العمل الوطنيّ والنضاليّ والدينيّ، استُهدفتْ عمدًا، وحاولوا استبدالَها بخدمات ’رفاهٍ اجتماعيّ‘ استعماريّة، في مجتمعٍ يعيش 80 في المئة منه تحت خطّ الفقر (وهذا قبل كورونا!)."(2)
وعليه، فإنّ الهبّةَ المقدسيّةَ الجديدة، شأنَ سابقاتها من حيث الجوهر، تأتي في مواجهة كلِّ هذه السياسات الصهيونيّة المتمادية منذ الاحتلال، بغضِّ النظر عن عنوانها "الجديد،" وعن قرارات العدوّ الصهيونيّ الجديدة التي تتعلّق بالحواجز والبوّابات الإلكترونيّة وبابِ العمود، وبغضّ النظر أيضًا عن مواقف قوى سلطة أوسلو العاجزة ونواياها السيّئةِ والمكشوفةِ التي تحاول توظيفَ "أحداث" القدس من أجل الدفع نحو تأبيدِ هيمنتها على القرار السياسيّ وكلِّ مؤسَّسات الحكم الذاتيّ.
الواقع القائم في القدس لن يتغيّرَ إلّا إذا أصبحتْ - هي وشعبُها - على رأس أولويّات العمل النضاليّ الشعبيّ الفلسطينيّ والعربيّ، بحيث يتجاوز هذا العملُ شعاراتِ "الدعم" و"التضامن" إلى مستوى المشاركة الفعليّة في الدفاع عن فلسطين وعاصمتها. فهذه المدينة هي أحدُ الموازين الحقيقيّة التي نقيس بها أحوالَ مئاتِ الملايين من العرب، وكثيرٍ من المسلمين والمؤمنين بالعدالة في العالم. وبهذا الميزان نعرف تَقدُّمَ الأمّة وتراجعَها، ويتكشّف لنا أين يقف معيارُ العدالة في هذا الكون.
وإذا أخذنا بهذه المعادلة، فالكلُّ تقريبًا سقط في "امتحان القدس،" مثلما سبق أن سقط في امتحان فكّ الحصار عن غزّة. وأوّلُ الساقطين جامعةُ الدول العربيّة، وبتحديدٍ أدقّ: ثيرانُها الكبار، وملوكُها، وسلاطينُها، الذين يهرولون إلى التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، ويَدّعون أنّهم حُماةُ الأقصى ورُعاةُ المقدَّسات الإسلاميّة والمسيحيّة وحرّاسُ مسرى رسول الله، أُولى القِبْلتيْن وثالثِ الحرميْن!
ويسعى الكيانُ الصهيونيّ إلى تصوير كلّ فِعلٍ مقاومٍ في القدس المحتلّة عملًا مُعاديًا لليهود، يقوم به "الأغيارُ" والأشرار، وذلك من أجل تحويل حقيقة الصراع في فلسطين والمنطقة إلى صراع بين أديانٍ وعقائدَ سماويّةٍ وطوائف. وهذا "منطقٌ" يُحاول استخدامَه من أجل تجييش يهود العالم، وتعبئةِ قوًى صهيونيّةٍ أمريكيّةٍ تمدُّه بالسلاح والمال والمستعمِرين وتتلطّى خلف الصليب وصورةِ المسيح.
لقد وصلت الفاشيّةُ والعنصريّةُ في مجتمع الصهاينة إلى درجةٍ قصوى من التشبّع والطفْح التامّ - إنْ كان لهذه العبارة الأخيرة أيُّ معنًى في ما يخصُّ الصهيونيّةَ التي لا يمكن إلّا أن تكونَ مشبعةً وطافحةً بالإجرام والعنصريّة ونزعةِ التفوّق العِرقيّ. وتكشف لنا القدسُ ما يجري داخل الكيان نفسِه من هيمنةٍ لليمين الصهيونيّ الفاشيّ ... على "الحمائمّية" الصهيونيّة المزعومة نفسِها. كما تكشف هشاشةَ كلّ الأحزاب العربيّة التي "تشارك" في برلمان العدوّ (وقد كان مشهدُ أعضاء الكنيست يثيرُ الغثيانَ وهم "يتحاورون" مع قوّاتِ العدوّ في ساحة باب العمود). ونقلتْ وسائلُ الإعلام شريطَ فيديو يُظهر مستعمِرين صهاينةً يهتفون "الموت للعرب!" فضلًا عن مستوطِنةٍ إسرائيليّة تردّ على صحفيٍّ سألها إذا كانت توافق على هذه الهتافات قائلةً: "أنا لا أقول ’لتحترقْ قُراكم!‘ لكن اخرجوا من قراكم، ونحن سنسكن مكانَكم!"(3) هذا هو المنطقُ الصهيونيّ "العاديّ" و"الشعبيّ" منذ ثلاثينيّات القرن الماضي. وهذه الفتاة الصهيونيّة مقتنعةٌ بأنّها "تتكرّم" علينا لأنّها لن تُحرقَ قرانا، بل ستكتفي... بمصادرةِ بيوتنا!
هذا بالضبط ما يحدُث كلَّ يومٍ في فلسطين والقدس منذ العام 1948: السطو على الأرض والبيوت والمواقعِ التاريخيّة، وعمليّةِ ترانسفير (ترحيل قسريّ) للسكّان في السِّرّ والعَلن. وهذه تسمّى في عُرف القانون الدوليّ "جريمةَ حربٍ" متكاملةَ الأوصافِ والأركان، يقوم عليها مجتمعُ الكيان وجيشُه معًا.
لا يستطيع الشعبُ الفلسطينيُّ الوصولَ إلى عاصمته المحتلّة، ولا الصلاةَ في المسجد الأقصى وكنيسةِ القيامة في أيّام الجُمَع والآحاد. كما أنّ منعَ سكّان الضفّة المُحتلّة من الوصول إلى القدس يَحْرم اقتصادَ المدينة وأهلَها عواملَ صمودٍ كثيرة. وهناك أجيالٌ فلسطينيّة في قطاع غزّة المحاصر لم ترَ القدسَ ولو مرّةً واحدةً في حياتها. أمّا الشعب الفلسطينيّ في الشتات فلم يصل إلى مدينته منذ العام 1948. ولولا الجزءُ الصامدُ في الجليل والمثلّث والنقب، ودورُه الوطنيّ والرياديّ في الدفاع عن القدس، إلى جانب صمود المقدسيّين والمقدسيّات، وعمليّاتِ الدهس البطوليّة، والمقاومة المسلّحة؛ أقول لولا ذلك، لاحترق المسجدُ الأقصى أكثرَ من مرة، ولاحترقت الكنائسُ، ولفَرَغت المدينةُ من سكّانها العرب وأصبحت كلُّها في قبضة كهَنة الهيكل.
لكنْ بالتوازي مع ذلك، وعلى الوتيرة ذاتها، تسير عجلة ُالتطبيع على يد أنظمة النفط الخائنة وغيرها. كما تزداد خواءً الحالةُ الفلسطينيّةُ -- الرسميّةُ والفصائليّةُ -- على حدٍّ سواء. وتتنافس الفصائلُ في الضفّة الغربيّة وقطاعِ غزّة على جيفة الحكم الذاتيّ المحدود، في انتخاباتٍ تدعو إلى السخرية، ولا قيمةَ لها في ميزان مقاومة منظومةِ الاحتلال والاستعمار. وإنّه لمشهدٌ سرياليٌّ عجيب، يُذكِّر بروما القديمة وهي تحترق في الخارج، بينما يتجادل الفلاسفةُ في الداخل حول جنس الملائكة!
قوى أوسلو التي جاءت إلى فلسطين تحت يافطة "غزّة-أريحا أوّلًا" تذكّرتْ فجأةً أنّ "القدسَ أوّلًا." وهذا، لعَمري، هو شعارُ المنتصر والمهزوم في آنٍ واحد. فمَن باع صفد و78% من فلسطين لن يحميَ شارعًا في"القدس الشرقيّة." ومَن لا يرى في القدس إلّا المسجدَ الأقصى لن يرى القدسَ كلَّها، ولن يأبهَ لفلسطينَ بأسْرها. ولنتذكّرْ: لم يدخلْ أحدٌ من رموز سلطة أوسلو، أو "سيّاحِ" التطبيع العربيّ، إلى المسجدِ الأقصى أو كنيسةِ القيامة، أو حضر مناسبةً عامّةً داخل أسوار المدينة، إلّا وسمع من الجماهير المقدسيّة موقفَها الواضحَ والصريح -- وأحيانًا بالأحذيةِ والشباشبِ والكراسي والبصاق!
***
بإرغام الشرطة الإسرائيليّة على إزالةِ الحواجز أمام باب العمود في القدس قبل أيّامٍ قليلة، انتصر فتيانُ القدس وصباياها وشبابُها الفقراء، بإرادتهم الوطنيّة الفلسطينيّة الصلبة التي تجاوزتْ عنتريّاتِ السلطة الفارغة وتجّارَ الانتخابات الانتهازيّين. فأعادوا، مع شعبهم الذي احتضن حَراكَهم، من مخيّم قلنديا إلى مخيّم البدّاوي في لبنان وصولًا إلى برلين، صورةَ القدس التي تقاوم وتتمرّد. وجرى إسنادُ هذه الهبّة الشعبيّة بالنار من أرض القطاع المحاصَر، وبالمولوتوف والمظاهرات الغاضبة في بعض مواقع الضفّة المحتلّة. ولا مبالغة في القول إنّ القدس، مثلما تُقاتل دِفاعًا عن كلّ شبرٍ واحدٍ فيها، تُدافع في الوقت ذاته عن وطنٍ عربيٍّ كبير يمتدُّ من المحيط إلى الخليج، وعن كرامة أممٍ وشعوبٍ مسلوبةِ الوعي والإرادة.
على طلائع الشعب الفلسطينيّ والقوى المناضلة من شعبنا العربيّ أن تستلهمَ هذا الدرسَ المقدسيَّ البليغ، وأن تقرأ عنادَ المدينة المحاصرة وصبرَها تحت الاحتلال، وكيف تكون جاهزةً للسير على درب الآلام، كما سار المسيحُ عليه السلام حاملًا صليبَه وعذابَه، وكيف تقاتل كي تصون هويّتَها/هويّتنا الفلسطينيّة-العربيّة، وتنتصر.
مونريال
الصورة في أعلى المقال من تصميم الفنّانة الفلسطينيّة رنا بشارة.
1 – مجد كيّال، "القدس: مجتمع يتمرّد على الكارثة،" السفير العربيّ24/04/2021 :
https://assafirarabi.com/ar/37267/2021/04/24/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3-%D9%85%D8%AC%
2- المصدر نفسه.
3- https://www.facebook.com/esraa.alshaikh/videos/1098409280635690
كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.