يصعب وصفُ الحدث الفلسطينيّ اليوميّ وصفًا دقيقًا بفعل كمّ التناقضات التي يحتويه. لكنّ التناقض الأساس في التاريخ الفلسطينيّ المعاصر هو بين مشروعيْن متناحريْن متنافييْن. فمن جهة، هناك قوّة استعماريّة إسرائيليّة تَنتهك وتَقتل وتَسرق وتنكّل، بدعمٍ من قوى الإمبرياليّة العالميّة والكمبرادور المحلّيّ. ومن جهة ثانية، هناك طاقات شعبيّة متناثرة، مذرَّرة، مفكَكة، مسلوبة الفعل والقدرة على التنظيم، ولكنّها لا تستكين ولا تيأس. الأولى تملك القوةَ العسكريّة والاقتصاديّة والتحالفات مع قوى الاستعمار العالميّ. أمّا الثانية فتملك أسلحةً أضعفَ من الناحية التقنيّة، ولديها تحالفاتُها هي الأخرى، لكن أهمَّ ما تملكه هو الإرادة. وهذا هو سرُّ نجاح أيّ ثورة: فـ"تفاؤل الإرادة" يطوِّع حركةَ القوة الغاشمة لصالحه.
تتكثّف لحظةُ التناقض في ما اصطُلح عليه فلسطينيًّا بـ"النكبة." والنكبة هي مجموعُ الأفعال الاستعماريّة التي أدّت إلى قيام الكيان الصهيونيّ، وأرّختْ لتعريفٍ "هويّاتيّ" جديد للشعب الفلسطينيّ. غير أنّ هذا التعريف خلق أزماتٍ ما زلنا نعانيها، ومن ضمنها أزمةُ التعريف بالمشروع التحرّريّ الفلسطينيّ. فهذا التعريف ينبغي ألّا يكون محضَ ردّ فعل على أفعال المستعمِر؛ ذلك لأنّ الاستعمار عادةً ما يكون أكثرَ تنظيمًا من الشعوب التي يستعمرها، فعلى هذه الأخيرة أن تبتدع آليّاتِ مقاومةٍ شاملة.
استمراريّة النكبة
هناك إشكاليّة أخرى لفهمنا للنكبة. فالنكبة ليست حدثًا وجب علينا التخلّصُ من "آثاره،" وإنّما هي فعلٌ يوميٌّ يعانيه الكلُّ الفلسطينيّ ما دام هناك كيانٌ استعماريّ إحلاليّ، يُهجِّر المواطنين، ويصادر أراضيَهم، ويقمع حريّاتِهم؛ ومادام هناك أيضًا لاجئون في مخيّماتٍ تعاني الحرمانَ والتضييقَ السياسيّ وتدهورَ المعيشة.
صحيح أنّ مصطلح "النكبة" لغويًّا يحيل على انطلاق مسلسل نكباتٍ جزئيّة، إلّا أنّ ذلك قد يعمينا أحيانًا عن المحاولات الرامية إلى "متحفة" النكبة وجعلِها محضَ جزءٍ من "ذاكرة" الفلسطينيّ وهويّته التاريخيّة. وهو ما قد يأخذ شكلَ "الندب الجمعيّ،" ما لم نُعد إحياءه بفعلٍ يوميّ مقاوم لكلّ سياسات الاستعمار في الوعي والممارسة.
ومن أجل مقاومة "النكبة" بشكلٍ يتخطّى النزعةَ "المتحفيّة،" فإنّ علينا نقدَ ممارساتنا اليوميّة في مقاومة الاحتلال الصهيونيّ. وقد تتبلور أولى المراجعات الذاتيّة لفعلنا المقاوم من خلال نقد تاريخ نضالنا على الرغم مّما قد يحمله هذا التاريخُ من "قداسة."
وللتوضيح نقول إننا لا نقلّل ههنا من أيّة ممارسةٍ تصبّ في مصلحة التحرير. غير أنّ "خطاب القداسة،" الذي يتمحور حول التضحيات والبطولات الفلسطينيّة، ويتجنّب مقاربةَ العمل النضاليّ برؤية نقديّة، أعطى بعضَ القيادات السياسيّة الانتهازيّة الفرصةَ لخلق خطابٍ رجعيّ في جوهره؛ خطابٍ يقوم على انتزاع تضحيات الشعب، وتجييرها لصالح طبقةٍ سياسيّةٍ ترى في وجود الاستعمار وسيلةً لتحسين ظروف حياتها وبسطِ سيطرتها على الشعب.
أوسلو تقويضًا لنضالات الفلسطينيين
لا يجادل كثيرون اليوم، من المستفيدين من أوسلو ومن معارضيه على حدّ سواء، في أنّ هذا الاتفاق قد أفرز واقعًا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا أرجع الفلسطينيين خطواتٍ كثيرةً إلى الوراء، زادت من مسافة الطريق للوصول إلى التحرير. والخطوة الأولى التي تستتبعها خططُ النهوض تتجلّى في تشخيص آليّات العمل الفعّال. فليس الحدادُ والإضرابُ، مثلًا، هما الآليتيْن الأنجع حاليًّا. كما أنّ علينا أن نسأل أنفسَنا أيضًا: هل وجود المتظاهرين السلميين عند نقاط التماس والاشتباك مع الكيان الصهيونيّ هو الآليّة الأكثر فعاليّةً، على الرغم ممّا قد يثيره ذلك من حشد الرأي العامّ العالميّ والعربيّ مع نضالنا؟
كلّ أشكال المقاومة مهمّة، على ما ينبغي أن نكرّر. لكنّ اختزالَ المقاومة في شكلٍ واحد، السلميّ منه تحديدًا في هذه الفترة، قد يصبّ في مصلحة الاستعمار. وإذا اضطررنا إلى التماشي مع خطابٍ يقول إنّ "الواقع لا يَسمح لنا إلّا بالعمل السلميّ،" فهناك خطوات وآليّات عمل كثيرة أخرى، غير عنفيّة، نستطيع أن نلوي بها أذرعَ الاستعمار، وسبق أن استخدمها الشعبُ الفلسطينيّ في نضالاته.
فمثلًا، يُشكّل العمّالُ الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة عام 48 قوةَ ضغطٍ اقتصاديّةً هائلة، قادرةً على تهديد الكيان الصهيونيّ لو جرى تنظيمُ برنامج إضراب أسبوعيّ، كما كان يحصل في انتفاضة 1987. كما ينبغي خلقُ قطاع اقتصاديّ إنتاجيّ في الضفّة، بديلٍ من العمل في الداخل المحتلّ عام 1948 ــ ــ وذلك كلّه أجدى من الإضرابات في الضفّة التي لا تضرّ إلّا بمصالحنا.
علاوةً على ذلك فإنّ من الضروريّ البدءَ بمقاطعة بضائع الاحتلال الإسرائيليّ، والانخراط في توعية الجماهير بذلك، رغم تحفّظنا عن سقف طموح حركة المقاطعة وشكل تفكيرها الاقتصاديّ.
لا رهان، في كلّ الأحوال، على دور السلطة الفلسطينيّة. فهذا الدور وظيفيّ، ولا يتعدّى سقفَ الشعارات الخالية من أيّة مقدرةٍ على تفكيك منظومة الاستعمار. بل إنّ وجودَ السلطة نفسه مرتبطٌ عضويًّا بوجود الاستعمار. وعليه، وجب علينا أن نأخذ المبادرة بأنفسنا، فنعيد تنظيمَ ذواتنا، ونضع برنامجًا عمليًّا يمكّننا من تغيير الواقع البائس.
خاتمة
اليوم، بعد سبعين عامًا على استعمار الأرض والإنسان، تبقى إرادةُ الأمل لدى الشعب الفلسطينيّ ثابتةً. وهذا ما عكستْه مسيراتُ العودة الكبرى في غزّة، والمقاومةُ في الضفّة، على الرغم من محاولات تمزيقها.
وعلى المقلب الآخر، فقد وصل الاستعمار، باستخدامه لأدواته الوحشيّة إلى لحظة قصوى، ستليها ــــ بفعل العمل المقاوم ــــ لحظةُ التعفّن والانحسار. وحينها ستتجلّى الأهميّةُ الحاسمةُ لما راكمناه من تنظيم ووعي.
فلسطين
*ينشر هذا المقال بالتعاون مع "اتجاه" وهي نشرة دورية تصدرها مجموعة نبض الشبابيّة