لا شكّ في أنّ التحوّلات العربيّة، التي بدأتْ منذ نهاية العام 2010 وما زالت مستمرّة حتى الآن، قد كانت لها تأثيراتٌ عميقة في الدولة والمجتمع ومختلف البُنى المفاهيميّة. ولعلّ من أبرز هذه التأثيرات ما حدث من تطوّر نوعيّ في مقاربات بعض الحركات الإسلاميّة لنظريّة "الدولة في الإسلام." فلقد باتت تَقطع، وعلى نحوٍ واضح، مع أفكارٍ أساسيّة كانت تتبنّاها طوال عقود، وأضحت تطرح مفهومًا جديدًا هو "الإسلام الديمقراطيّ" تجاوزًا لـ"الإسلام السياسيّ". من الصعب جدًّا أنْ نقارب هذا المفهوم على نحو تفصيليّ، بما في ذلك الفروق الدقيقة التي أثارها لدى الحركات الإسلاميّة في تونس والمغرب والسودان والجزائر واليمن وسوريا. لذا سنقتصر في هذه الورقة على تبيان معالم هذه القراءة الجديدة لدى أحد أبرز منظّري الحركات الإسلاميّة، وهو الشيخ راشد الغنوشي، الزعيم التاريخيّ لـ"حركة النهضة."
الدولة القطريّة والتنظيم الدوليّ
أظهرت التطوّراتُ الراهنة أنّ استمرار التنظيم الدوليّ للإخوان المسلمين، العابرِ للحدود والقوميّات واللغات، لم يعد ممكنًا في ظلّ التوازنات الدوليّة القائمة، وانكسار التنظيم في مصر، وتداعيات ذلك على فروعه في المنطقة. كان لا بدّ للأحزاب المحسوبة على الإخوان في الأقطار العربيّة من أنْ تجري مراجعاتٍ حقيقيّة - - أكان ذلك في المغرب أمْ في السودان واليمن والأردن وتونس. وكان أكثر المراجعات جذريّةً وجرأةً ما قام به الشيخ راشد الغنوشي وحركته في تونس.
فقد أوضحتْ قياداتُ "النهضة" أنْ لا علاقة لحركتها بالإخوان المسلمين، وأنّها ليستْ جزءًا من التنظيم الدوليّ. هذه الفكرة، في رأي الغنوشي، كانت مقبولة حين كان العالمُ قائمًا على امبراطوريّات؛ أمّا اليوم فقد صرنا في عهد الدولة الوطنيّة. صحيح أنّ الإسلام يؤكّد الأخوّةَ بين المسلمين، لكنْ ليس بالضرورة أن تكون هذه الأخوّةُ سياسيّةً اندماجيّةً، بل يمكن أن تكون أخوّةً عقائديّة، بحيث يستطيع كلُّ مسلمٍ التضامن مع المسلمين الآخرين لكنْ ضمن حدود وطنه ودولته.
أوضحتْ قياداتُ "النهضة" أنْ لا علاقة لحركتها بالإخوان المسلمين
موقف الغنوشي هذا يُظهر مدى تجاوز مقاربته السابقة، التي كان يؤكّد فيها أنّ الدولة القطْريّة الحاليّة متناقضة مبدئيًّا مع الفكر السياسيّ الإسلاميّ، وأنّ هذه الكيانات المصطنعة فرضتْها الدولُ الغربيّةُ المستعمرة لترسيخ نفوذها وإضعافنا، وأنّ هذه الكيانات تتناقض مع عقائد الأمّة وتراثها الثقافيّ ومصالح شعوبها وطموحاتها العميقة. وقد قبل الفقهاء بدولة التجزئة كأمر واقع، وتعاملوا معها على أمل تطويرها في اتجاه الانسجام مع المثال.[1]
فصل الدعوة عن السياسة
فرضت التطوّراتُ الأخيرة في المنطقة على الحركات الإسلاميّة أنْ تعيدَ النظرَ في مسألة الدين والدولة. ولمّا كانت "النهضة" قد وصلتْ إلى السلطة، فقد طرحَتْ فكرة جديدة، وهي فصلُ الدعوة عن السياسة، لا فصلُ الدولة عن الدين. وفي مؤتمر صحافيّ أعلنتْ أنّها اتّخذتْ قرارًا بالتفرغ للعمل السياسيّ وقضايا الشأن العامّ، وأنّها انتقلتْ من حزب شموليّ إيديولوجيّ، نشاطُه الأبرز دعويٌّ وتبليغيّ، إلى حزبٍ خدماتيّ، مهمَّتُه تقديمُ خدماتٍ إلى الناس (في مجالات السكن، والبيئة، والحدّ من البطالة، وتحسين أوضاع العمل، وتطوير التعليم وقطاعَي الصحّة والكهرباء).
ويلفت الغنوشي، في توضيحه للأسباب الدافعة إلى هذه الخطوة، إلى أنّ هذا القرار يعكس مرحلةً من تطوّر المشروع الإسلاميّ:
- فالحركات الشموليّة نشأتْ في مواجهة حركاتٍ شموليّةٍ أخرى - - كالحزب الحاكم، والحركة الشيوعيّة، والحركة القوميّة.
- وكانت غيرَ متخصّصة، وتضمّ العملَ الخيريّ والثقافيّ والدعويّ والسياسيّ والاقتصاديّ.
- ونشأتْ في مواجهة الاستبداد. ففي زمن بن عليّ، مثلًا، لم يكن يُسمح للحركات المعارضة بأنْ تعمل في المجال السياسيّ، فكان لا بدّ من أنْ تتوارى تحت مظلّاتٍ وعناوينَ أخرى، كالعمل النقابيّ والمدنيّ والخيريّ والثقافيّ والدعويّ.
أمّا الآن، بعد سقوط الاستبداد، فقد أصبح العمل مفتوحًا، ومن الأفضل – بالنسبة إلى الغنوشي - اللجوءُ إلى التخصّص، وأنْ يعبّر الإسلامُ عن نفسه بأشكالٍ مختلفة: فمن أراد العمل النقابيّ فليعملْ في هذا المجال؛ ومن رأى أنْ يعمل في مجال الدعوة فليذهبْ إليه؛ ومن شاء العمل السياسيّ فليؤسّسْ حزبًا أو فلينضمّ إلى حزب؛ ومن أحبّ العملَ الخيريّ فليفتحْ جمعيّةً. ويقول الغنوشي: لم يعد هناك مجالٌ للحزب الأخطبوط.[2]
وقد حرص الغنوشي، من هذا الفصل، على طمأنة الداخل والخارج إلى أنّ الحزب أصبح ديمقراطيًّا مدنيًّا ذا توجّه إسلاميّ. فالأساس الذي باتت تجري عليه الانتخاباتُ اليوم هو البرامج السياسيّة والإصلاحيّة والخدماتيّة والإنمائيّة المُقدّمة إلى الناس، لا البعد الأيديولوجيّ القديم. وتبقى من مهامّ المجتمع المدنيّ والإعلام والقضاء مراقبةُ "النهضة" ومحاسبتُها إذا ما استخدمت المساجدَ لأغراضٍ انتخابيّة، أو حاولت الدمجَ مجدّدًا بين السياسة والدين. [3]
العلمانيّة
تطوّرتْ مقارباتُ معظم الحركات الإسلاميّة لمفهوم "العلمانيّة." وقد بدا هذا التطوّرُ جليًّا مع "حزب العدالة والتنمية" في تركيا، ومع مهاتير محمد في ماليزيا، ومع "حزب الحريّة والعدالة" في المغرب. كانت نظريّاتُ الإخوان المسلمين، بمن فيهم الغنوشي، لا تفرّق بين أنواع العلمانيّة. وكانوا ينظرون إليها نظرةً عامّةً ونمطيّةً، وبأنّها تناقض الإسلام. وكان يركّزون أيضًا على أنّ المعركة، في أصلها، ينبغي أن تكون مع العلمانيّة لأنّها أصلُ كلِّ المصائب السياسيّة، وهي مرادفة للديكتاتوريّة والظلم والشر؛ فأسُّ الصراع في المجتمع هو أسّ أيديولوجيّ هوياتيّ، كما كانوا يقولون.[4]
كانت نظريّاتُ الإخوان المسلمين، بمن فيهم الغنوشي، لا تفرّق بين أنواع العلمانيّة
بقيت أدبيّاتُ الإخوان المسلمين على حالها في ما يتعلّق بهذا المفهوم. وقد كان ذلك من الاعتبارات الأساسيّة التي أدّتْ إلى انفراط التفاهم مع الأحزاب العلمانيّة بعد ثورة تونس، وبعد تحويل المعركة عن مسيرها. تنبّهت "النهضة" إلى خطورة ذلك، فقدّمتْ قراءةً مختلفةً عن القراءة السائدة، أكّدتْ فيها أنّ المعيار الأوحد الذي تقيم عليه تحالفاتِها هو الالتزامُ بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
فبحسب الغنوشي أنّ العلمانيّة لم تعد إيديولوجيا واحدة، بل علمانيّات:
- فهناك علمانيّة مُلحدة متطرّفة معادية للدّين، كما في الديمقراطيّات الاشتراكيّة؛
- وهناك علمانيّة أقلّ تطرّفًا كما في النمط الفرنسيّ، والتركيّ إبّان حكم مصطفى كمال أتاتورك إلى عهد حزب العدالة والتنميّة؛
- وهناك أيضًا علمانيّة محايدة تتعايش مع الدين، ولا يوجد صراعٌ فيها بين الدينيّ والسياسيّ، بل ينصبُّ جهدُها على حماية جميع الأفكار والإيديولوجيّات والأديان، كحال بريطانيا وبعض الدول الأوروبيّة.
فالعلمانيّة هي تسوياتٌ وفصلُ وظائف، وتحديدًا: فصل الوظيفة السياسيّة عن الدينيّة. والعلاقة بين الديمقراطيّة والعلمانيّة ليست علاقة حتميّة في رأي الغنوشي؛ إذ يمكن أنْ يكون الحاكمُ علمانيًّا وديكتاتوريًّا وإرهابيًّا، ويمكن أن يكون ديمقراطيًّا وإسلاميًّا.
الديمقراطيّة
على الرغم من الانتقادات الكبيرة التي ساقها الغنوشي ضدّ الديمقراطيّة بصيغتها الحاليّة، وذلك في كتابه الحريّات العامة في الدولة الإسلاميّة، فإنه يرى أنها تبقى أفضلَ الأنظمة، أو أقلّها سوءًا، وتتكامل مع مبدأ الشورى، وتبقى مطلبًا مشروعًا للمسلم من أجل الاشتراك مع كلّ الوطنيّين الأحرار في النضال من أجل تحقيقه. فالحصول على الشيء ناقصًا، ثمّ تطويرُه، أفضلُ من افتقاده جملةً.
ويرى الغنوشي أنّ ليس من مهمَّة الدولة أنْ تفرض الإسلام، ولا أنْ تفرض أيَّ إيديولوجيا أو نمط معيّن على المجتمع، بل مهمّتها هي أنْ تحفظ الأمن والعدل وتقدّم الخدمات إلى الناس. فلا علاقة لها إذا صلّى الناس أمْ لم يصلّوا، وإذا تحجّبت النساء أمْ لم يتحجّبن، وإذا سكِر الناس أمْ لم يسكروا.[5]
الشريعة
تشدّد كلّ الحركات الإسلاميّة تقريبًا على ضرورة أنْ ينصّ الدستورُ على الالتزام بتطبيق الشريعة، وإلّا "لا يُعدُّ إسلاميًّا." لكنّ "النهضة" تنازلتْ أخيرًا عن مصطلح "الشريعة" في الدستور، الذي طالما شدّدد عليه الغنوشي في كتبه منذ السبعينيّات، واكتفت بكلمة "الإسلام." وقد أثار هذا القرار موجةَ اعتراضاتٍ واسعة لدى تيّارات الإسلام السياسيّ، حتّى وصل ببعضهم إلى تكفيره، ووصم حركة النهضة بـ"العلمانيّة." وردًّا على ذلك يقول الغنوشي بوضوح:
"لقد أضحت الشريعة مفهومًا ملتبسًا، وليست نظامًا جاهزًا يصلح تطبيقُه في كلّ زمان ومكان. أمّا الإسلام فيصلح تطبيقُه في كلّ زمان ومكان. فلكلّ زمنٍ فقهُه وشريعتُه. فما يطبّق من الشريعة هو ما يقتنع به الناس. وما يختاره الناسُ يعبَّر عنه في المؤسّسات كالمجلس التشريعيّ."
أضحت الشريعة مفهومًا ملتبسًا، وليست نظامًا جاهزًا يصلح تطبيقُه في كلّ زمان ومكان
وحين سُئل عن موضع الشريعة في برنامج حزبه، أخرج برنامج النهضة وقال: "هذا هو شريعتنا، وهو ما نفهمه، وهو ما يتطلّبُه المجتمعُ التونسيّ وما يحتاجه." ويحسم القول بأنّ مفهوم تطبيق الشريعة مفهوم خاطئ، لأنّ الشريعة ليست شيئًا جاهزًا.
أمام هذه الاجتهادات الحديثة الجذريّة، يمكننا أنْ نلفت إلى أنّ مكمنَ الخلاف هو بين مدارس متعدّدة:
- ففريق يعتقد أنّ تقدير المصلحة يجب أنْ يكون في إطارِ ما لم يَرِدْ فيه نصٌّ قطعيُّ الثبوت، قطعيُّ الدلالة في الكتاب أو السنّة؛
- وفريق يعتقد أنّ تقدير المصلحة يمكن أنْ يحصل أيضًا في الأمور التي ورد فيها نصّ: فإذا كان الواقع لا يسمح بتطبيق النصّ، فبإمكاننا تعليقُ النصّ حتّى تنضج الظروفُ التي نستطيع فيها تطبيقَه.
- وفريق يدعو إلى قراءة كثير من الأحكام التفصيليّة وفقًا لسياقاتها الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة والعسكريّة في زمن الرسول، ومقارنةِ هذه الظروف بالسياقات الحاليّة، لكي يَحكم إنْ كانت العلّةُ تقتضي الاستمرارَ في الحكم، أمْ أنّ تطوّر الوقائع أبطل العلّة القديمة فذهب الحكمُ القديم مع علّته، وبقي المقصد العامّ.
وخلال قراءتنا لكتب الغنوشي ونظريّاته، نرى أنّه كان من المدرسة الأولى، ثمّ تطوّر فكره وأصبح من أتباع المدرسة الثانية، ليرسو أخيرًا - بعد التجربة العمليّة وخوضه غمارَ السياسة - إلى اعتناق منهج المدرسة الثالثة.
***
في الختام نقول إنّ ما قام به الشيخ راشد الغنوشي، وبعضُ منظّري الأحزاب الإسلاميّة، من مراجعات عميقة وجريئة، يعكس مدى حاجة الفكر الإسلاميّ إلى الاجتهاد، وإلى المراجعة المستمرّة للطروحات والأفكار، في ضوء السياقات الموضوعيّة لكلّ مجتمع. ومن المرجّح أنْ تكون نظريّةُ "الإسلام الديمقراطيّ" مدار بحثٍ وجدلٍ كبيريْن خلال العقود المقبلة، سواءٌ على المستوى التونسيّ، أو على صعيد الحركات الإسلاميّة في عالمنا العربيّ.
بيروت
[1] انظر: راشد الغنوشي، حاشية كتاب الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة (دمشق: دار البراق، 2001)، ص 170-171.
[2] انظر: التلفزيون العربي، برنامج "وفي روايةٍ أخرى،" الحلقة الخامسة، 13/5/2017.
[3] انظر: بي بي سي، "حوار مع الشيخ راشد الغنوشي،" 16/12/2016.
[4] راشد الغنّوشي، الحركة الإسلاميّة ومسألة التغيير (المركز المغاربي للبحوث والترجمة، لندن، 2000)، ص 16-17. وانظر أيضا راشد الغنّوشي، مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدنيّ (دار المجتهد للنشر والتوزيع، تونس، 2011)، ص 196.
[5] انظر: قناة الجزيرة، برنامج "بلا حدود،" 20/2/2014.