بتاريخ 14/3/2021، عقدتْ مجلّة الآداب ندوة رقميّة بعنوان "الولايات المتحدة: التطوّر المتلازم للفاشيّة المحلّيّة والإمبرياليّة العالميّة." شارك فيها كلٌّ من كالي أكونو وريتشارد بَكِر، وأدارها إيّاد قيشاوي. هنا مداخلة بكر. لقراءة تقديم قيشاوي، أنقرْ هنا. 

***

ما العلاقة بين الرأسماليّة والإمبرياليّة وصعودِ الفاشيّة في الولايات المتحدة؟ لماذا تزداد المنظّماتُ العنصريّة والفاشيّة هناك، وما دلالةُ ذلك بخصوص النظام الأميركيّ الحاليّ؟ ما العلاقة بين جهاز الدولة القامع وصعودِ الفاشيّة؟

إنّ تبنّي نزعة التفوّق العنصريّة البيضاء (white supremacy) والعنصريّة العنيفة أمرٌ يشترك فيه كلُّ الفاشيّين الأميركيّين، بصرف النظر عن الاختلافات التي قد تكون بين كوكلوس كلان و"الصبيان الفخورين" (Proud Boys) و"حرّاس العهد" (Oath Guards) و"النازييّن الأميركيّين" وغيرهم.

إيديولوجيا التفوّق الأبيض كامنة في أساس الولايات المتحدة، حتى من قبلِ أن تصبحَ دولةً-أمّةً. وهذه الإيديولوجيا قدّمت "التبريرَ" لاستعباد ملايين الأميركيّين من أصلٍ أفريقيّ، ولإبادة الشعب الأصلانيّ، ولشنّ الحروب والفتوحات ما وراء البحار في عصر الإمبرياليّة الحديثة. ولقد شكّلتْ قرونٌ من السُّخْرة ومصادرةِ مساحاتٍ واسعةٍ من الأراضي المنتِجة العناصرَ الأساسيّةَ في البناء الاقتصاديّ الذي استندت إليه الرأسماليّةُ الأمريكيّةُ كي تصبح القوةَ العالميّةَ المهيمنة.

الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني (يناير) 2021 قادَه تحالفٌ من المجموعات الفاشيّة، بمعاونة عناصر من داخل البنتاغون والشرطة. والواقع أنّ المنظّمات الفاشيّة كانت قد تعزّزتْ كثيرًا بسبب حملة ترامب سنة 2016، ونتيجةً لحكمِه طوال 4 سنوات. قد يتبنّى ترامب أو قد لا يتبنّى الإيديولوجيا الفاشيّة، لكنّه بلا شكٍّ من متبنّي نزعة التفوّق العنصريّ الأبيض، وهو اليوم - خارجَ البيت الأبيض - زعيمُ الفاشيّين والعناصرِِ الأخرى من اليمين المتطرِّف.

لم يكن هجومُ 6 يناير تمثيليّةً، وإنّما تمرّدًا أو عصيانًا عنيفًا (insurrection). وكان ترامب ومستشاروه والقادةُ الفاشيّون قد اجتمعوا قبل أيّامٍ من الهجوم، وكانوا يأملون في قلب نتائج الانتخابات من خلال حلّ الكونغرس لحظةَ تأكيد فوز بايدن بالرئاسة. وفي خطوةٍ غير اعتياديّة على الإطلاق، عمد ترامب، بعد خسارتِه الانتخابات، إلى طرد وزير دفاعِه، وأحلّ محلَّه تابعًا له ذا مرتبةٍ منخفضة، هو كريستوفر ميلير، الذي لعب دورًا رئيسًا في الانقلاب برفضه نشرَ قوّات الحرس الوطنيّ في الوقت المناسب.

غالبيّةُ الطبقة الحاكمة والإستابليشمنت السياسيّة الأميركيّة نظرتْ بغضبٍ وارتباكٍ شديديْن إلى صور أعضاء الكونغرس وهم منكمشون خوفًا، في حين راح رعاعٌ زاعقون يجولون في قاعات مبنى الكابيتول وهم يُنْشدون "اشنقوا مايك بَنْس،" نائبَ رئيس ترامب، وكان حتى ذلك الوقت خانعًا ذليلًا لترامب. فقد رأت تلك الغالبيّةُ في الهجوم على المبنى خطرًا فادحًا على صورة الولايات المتحدة في العالم كمجتمعٍ يسوده "حكمُ القانون" بشكلٍ مستقرّ. وما بُشِّر طويلًا بأنّه تقليدٌ عريقٌ من "الانتقال السلميّ" افتُضح الآن، شأنَ مفهوم "الاستثنائيّة الأميركيّة." وعليه فقد كلّف احتلالُ المبنى الإمبراطوريّةَ الأميركيّةَ ثمنًا باهظًا من ناحية الرأسمال السياسيّ.

يشكّل صعودُ الفاشيّة تهديدًا جدّيًّا لذوي البشرة غيرِ البيضاء، وللحقوق الديمقراطيّة في الولايات المتحدة. وهذا الصعود هو، في الوقت نفسه، أحدُ أعراض النظام المتحلِّل. وهذا الانحلال (decay) واضحٌ على جبهاتٍ عدّة.

ففي حين أنّ أرباحَ الشركات، وانعدامَ المساواة، أعلى من أيّ وقتٍ سابق، فإنّ النظام لا يستطيع أن يفيَ بالحاجات الأساسيّة لقسمٍ هائلٍ من السكّان. إذ بحسب إحصاءات الحكومة نفسِها، فإنّ نصفَ سكّان البلاد تقريبًا يصنَّفون فقراءَ أو "أصحابَ دخلٍ منخفض، أو بشكلٍ أدقّ، يعيشون في الفقر أو الفقرِ المدْقع."

المشرّدون في الولايات المتحدة هم بالملايين، بينما هناك أكثرُ من 18 مليون وحدة سكنيّة شاغرة! عشراتُ الملايين يواجهون الحجزَ على أملاكهم، أو الطردَ من بيوتهم، بسبب وباء كوفيد-19وضياعِ مداخيلهم. أعدادٌ مماثلةٌ من الناس يعانون ما يسمّى بشكل ملطَّفٍ ومخفّفٍ "عدمَ الأمان الغذائي" (food insecurity) - وهو ما يُسمّى أيضًا الجوع - في حين تُرمى كميّاتٌ هائلةٌ من الطعام يوميًّا لأنّها لا يمكن أن تُباعَ بفائدة! ليس هناك أيضًا نظامُ رعايةٍ صحّيّة على مستوى البلاد، وهذا سببٌ رئيسٌ يدفع بالولايات المتحدة إلى أن تتصدّرَ اليومَ حالاتِ الإصابة بهذا الوباء والوفَيات الناجمة عنه في العالم. فهي، وإنْ شكّلتْ 4%من سكّان العالم، تضمّ أكثرَ من 25% من مجمل وفَيات كوفيد-19 في العالم.

خلال الشهور الستّة الأولى من انتشار الوباء، راكم أصحابُ المليارات في الولايات المتحدة 845 مليار دولار من الثروة الإضافيّة، ومعظمُها جاءت من المعونات الحكوميّة ومن إعادة استثمارها. تسعةٌ من أصحاب المليارات جمعوا حتى اليوم 360 مليار دولار إضافيّة منذ أن بدأت الجائحة، وعلى رأس هؤلاء ايلان ماسك (Elon Musk) الذي يملك 118 مليار دولار.

إنّ الكلمات التي كتبها كارل ماركس قبل 173 سنةً تصدحُ بالحقيقة اليوم: "إنّ العاملَ الحديث، بدلًا من أن ينمو مع تقدّم الصناعة، يَغْرق أعمقَ فأعمقَ تحت مستوى طبقتِه نفسِها. لقد غدا مُعوِزًا، وقد زاد الإملاقُ أسرعَ ممّا زاد السكّانُ والثروة."

خلال الأعوام الخمسة الأخيرة قتلت الشرطةُ الأميركيّةُ ما معدَّلُه ثلاثةُ أشخاصٍ يوميًّا، أيْ 1100 شخص سنويًّا، مع انزياحٍ في عدد الضحايا لناحية الشبّان السُّود ومن الأصول اللاتينيّة والأصلانيّة. هذا بالفعل شيءٌ "استثنائيّ": إنّ معدّلَ قتل الشرطة في الولايات المتحدة هو أربعُ أضعاف نظيرِه في كندا، التي هي بلدٌ غنيٌّ وتمتلك المعدّلَ الثاني الأعلى في هذا المجال؛ و14 ضعفَ معدّل الأراضي المنخفضة (هولندا)، و26 ضعف معدّلِ ألمانيا، و67 ضعفَ معدّلِ إنكلترا والوايلز. ومن بين كلّ مساجين العالم، %22 منهم موجودون في الولايات المتحدة وحدها.

العنصريّة والتحضير للحرب على الصين

قادةُ الولايات المتحدة، بمن فيهم المستشارون العسكريّون ومستشارو السياسة الخارجيّة في إدارة بايدن، يكثّفون تحضيراتِهم للحرب على الصين. وهم يروْن أنّ التفوّقَ العسكريّ هو أهمُّ ما في جعبتهم من أجل قلب مسار انحدارِ الهيمنة الأميركيّة في العالم.

لقد ثمّنت الطبقةُ الرأسماليّة الأميركيّة خفضَ ترامب الهائل للضرائب، والتراجُعَ عن الإجراءات البيئيّة، وتدفُّقَ القُضاة اليمينيّين. ما اعترضتْ عليه الاستابليشمنت بشكلٍ متزايد، قبل وقتٍ طويلٍ من محاولة الانقلاب في 6 يناير، إنّما هو تفرّدُ ترامب في مقاربته للسياسة الخارجيّة، واعتقادُها أنّه لا يأبه إلّا لنفسه -- لا لإدارة الشؤون العامّة المتعلّقة بالبورجوازيّة بأسْرها.

إنّ عبارةَ بايدن المتكرّرة، "أميركا عادت،" ذاتُ معنًى محدّد. فقد حشد فريقَه المختصَّ بالسياسة الخارجيّة وأمور العسكر بمحافظين جددٍ من إدارتَيْ كلينتون وأوباما. وكلُّ الحديث عن "إعادة بناء تحالفات" إنّما هو في الحقيقة حديثٌ عن التحضير لحروب جديدة. وها هي السفنُ الحربيّةُ من دولٍ إمبرياليّةٍ أخرى في حلف الناتو، بما فيها ألمانيا وفرنسا وكندا والمملكة المتحدة، تقوم بجولاتٍ استفزازيّةٍ في بحر الصين الجنوبي وممرّ تايوان.

في ديسمبر 2017، تحوّلتْ أُولى أولويّات "استراتيجيّة الأمن القوميّ" الرسميّة من "الحرب على الإرهاب" إلى "منافسة القوى الكبرى،" مع تحديد روسيا والصين منافسيْن للولايات المتحدة. ومنذ ذلك الوقت بات واضحًا جدًّا أنّ جمهورية الصين الشعبيّة هي الهدفُ الأساس.

في 1 آذار (مارس) 2021، دعا آمرُ قيادة منطقة المحيط الهندي-الهادي، التي تغطّي 34 بلدًا وأكثر من 60% من شعوب العالم، إلى تقديم 27.3 مليار دولار إضافيّة لتسليح قوّاته. فقد أخبر الأدميرال فيليب ديفيدسون أعضاءَ الكونغرس أنّ الولايات المتحدة "تتطلّب شبكاتِ إصابةٍ دقيقةٍ ذات قابليّةٍ للحياة بشكلٍ عالٍ على امتداد السلسلة الأولى من الجزر (first island chain)، وتشمل كمّيّاتٍ إضافيّةً من الأسلحة البرّيّة... وهذه الشبكات ينبغي أن تكون لامركزيّةً من الناحية العملانيّة، وموزّعةً على طول أرخبيلات المحيط الهادي الجنوبيّة." والمعلوم أنّ وزيرَ الخارجيّة الأميركيّ الأسبق، جون فوستر دالاس، هو مَن صمّم هذه الاستراتيجيّةَ ردًّا على الثورة الصينيّة سنة 1949. وسلسلةُ الجزر في هذه الاستراتيجية هي اليابان وأوكيناوا وتايوان وشمالي الفيليبين وبورنيو، وقد وصفها دالاس بـ"حاملات الطائرات غير القابلة للغرق."

تكشف اللغةُ الاستعماريّةُ في كلام الأدميرال دايفيدسون التفكيرَ الوحشيَّ لمخطِّطي الحروب الإمبرياليّة. فهو يقول إنّ الولايات المتحدة "تتطلّب شبكاتِ إصابةٍ دقيقةٍ ذات قابليّةٍ للحياة..." و"ينبغي... [أن تكون الأسلحةُ البرّيّة] موزّعةً على طول أرخبيلات المحيط الهادي الجنوبيّة." الافتراض هنا هو أنّ حلفاءَ الولايات المتحدة في حربها على الصين لن يكون لديهم أيُّ خيار سوى المشاركة في جهود هذه الحرب وتحمّلِ الخسائر، وربّما الخسائرِِ الفادحة. لا يكترث دايفيدسون لقابليّة الشعوب للحياة في تلك السلسلة، بل يهمّه فقط الحصولُ على ما يكفي من الأسلحة لمواصلة القتال، أيًّا كان حجمُ الدمار وعددُ القتلى.

إنّ الفكرة التي يجترّها السياسيّون والقادةُ العسكريّون والإعلامُ السائد في الولايات المتحدة من أنّ الصين "تهديدٌ عسكريّ للولايات المتحدة والعالم" محضُ تلفيق. فميزانيّةُ الصين العسكريّة هي ربعُ نظيرتِها في الولايات المتحدة تقريبًا. وثمّة كذبةٌ أخرى يجري تداولُها بشكلٍ واسع، وهي أنّ الصين مسؤولةٌ عن الجائحة الحاليّة.

إنّ موجات العداء للصين قد حَرَفت الرأيَ العامَّ [الأميركيَّ] بشكلٍ خطير، وأدّت إلى سلسلةٍ من الاعتداءات الخبيثة، والمميتةِ أحيانًا، على الأميركيّين من أصلٍ آسيويّ. والحقّ أنّ الحروب الإمبرياليّة دائمًا ما تسبقُها حملاتٌ من شيطنة البلدِ المستهدَف، وشيطنةِ قيادتِه وشعبِه، ونزعِ الإنسانيّةِ عنهم.

إنّ شيطنةَ الصين والصينيّين وغيرِهم من الأميركيّين من أصولٍ آسيويّة قد اندمجتْ بالإيديولوجيا الفاشيّة الأوسع، معزِّزةً الاعتداءاتِ العنصريّةَ وعنفَ الغوغاء.

آفاقُ النضال

ثمّة استقطابٌ متزايدٌ وعميقٌ في المجتمع الأميركيّ. هذه حقيقةٌ لا مجال للشكّ فيها. والسبب الرئيس هو عجزُ النظام الرأسماليّ عن الوفاء بالحاجات الأساسيّة لقسمٍ كبيرٍ من سكّان الولايات المتحدة. ويدور صراعٌ حول كيفيّة التعامل مع هذا الانهيار العظيم.

في الصيف الماضي، وعلى إثر جرائم قتل الشرطة لكلٍّ من جورج فلويد وبريانا تايلور وأحمد أوبيري وغيرِهم، اكتسحتِ البلادَ ثورةٌ هائلةٌ ضدّ العنصريّة. فقد تظاهر أكثرُ من 30 مليون شخص، في أكثر من 5000 مدينة وبلدة وقرية أمريكيّة. كان ذلك أكبرَ تحرّكٍ جماهيريّ في تاريخ الولايات المتحدة. أُلقي القبضُ على الآلاف، ونال المئاتُ جناياتٍ قد تؤدّي إلى أحكامٍ طويلةٍ بالسجن إنْ أُدينوا. ثلاثةُ منظّمين من منظّمتي، وهي "حزبٌ من أجل الاشتراكيّة والتحرّر،" في دنفر (كولورادو)، دِينوا بـ"الخطف" وبأحكامٍ خطيرةٍ أخرى بسبب قيادة تظاهرةٍ أمام محطّةٍ للشرطة احتجاجًا على قتلها رجلًا أسودَ في الثالثة والعشرين من عمره، يُدعى إيلايجا ماكلاين.

قبل انتخابات نوفمبر وبعدها، حصلتْ تحرّكاتٌ فاشيّةٌ ويمينيّةٌ عديدةٌ بتحريضٍ من ترامب، فضلًا عن صداماتٍ عديدةٍ على امتداد البلاد. صحيح أنْ ليس كلُّ مَن شارك في تظاهرات 6 يناير في واشنطن فاشيًّا، غير أنّ الهجومَ على المبنى كان أكبرَ وأهمَّ تظاهرةٍ تقودها الفاشيّةُ خلال سنواتٍ كثيرة.

إنّ ردّ الحزب الديمقراطيّ على الهجوم يُظْهر مدى عدم جهوزيّته للتعامل مع التهديد الفاشيّ. فبدلًا من اتهام ترامب ومعاونيه الأساسيين بالمؤامرة الفتنويّة، عمد الحزبُ المذكورُ إلى إجراءات عزلٍ جديدةٍ لا أملَ في أن يدينَها مجلسُ الشيوخ، ولم تكن لتحملَ أيَّ تبعاتٍ إنْ وُجد مُذنبًا. واليوم يغادر ترامب حرًّا طليقًا، وهو القائدُ الحقيقيُّ للحزب الجمهوريّ.

الفاشيّة، في الحقيقة، شكلٌ متطرّفٌ من الرأسماليّة. وهي عاجزةٌ عن حلّ التناقضات الأساسيّة للنظام الحاليّ، وتعتمد على مخاطبةِ أكثرِ المشاعر والمعتقدات الرجعيّة والعنصريّة والمعادية للأجانب.

على الحركة المعادية للعنصريّة والفاشيّة أن تطرحَ برنامجًا يخاطب حاجاتِ الطبقة العاملة والفقراء الذين يُضلَّلون باتجاه [الانحراف إلى] الفاشيّة. وينبغي إعطاؤهم القدرةَ على الدفاع عن أنفسهم ضدّ الفاشيّين المتشدّدين.

نعتقد أنّ ما نحتاجه اليوم هو "جبهةٌ موحَّدةٌ ضدّ الفاشيّة،" تَجْمع التنظيماتِ العمّاليّةَ والاجتماعيّةَ والسياسيّةَ وغيرَها، إلى جانب الأفراد.