كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.
خالد علي من القامات الشابّة في وطننا العربيّ. ناشط وحقوقيّ وثائر وسياسيّ، ومتّزن إلى أبعد الحدود. شارك في ثورة 25 يناير وبرز فيها، وكان قد اشتُهر بدفاعه عن عمّال منطقة المحلّة، واستمرّ نشاطُه القانونيّ في الدفاع عن المتظاهرين ومعتقلي الرأي في السجون المصريّة مع منظّمات حقوقيّة عديدة. وانتهى به الأمر إلى أن رَفَعَ، وفريقَه، دعوى قضائيّةً على الدولة المصريّة لتنازلها عن جزيرتيْ تيران وصنافير للمملكة العربيّة السعوديّة. وللمفاجأة ربح خالد علي، وأَوقفَ عمليّة تسليم الجزيرتين، وهو الآن يتعامل مع طعنٍ قدّمتْه الدولةُ المصريّة ضدّ قرارٍ قضائيّ حفظ مصريّة الجزيرتين، في ما يُعدّ سابقةً لن تتكرّر على الأرجح.
استضافته المفكّرة القانونيّة في بيروت ليقدّم ندواتٍ قانونيّة. وبدورنا اقتنصنا منه حديثًا سريعًا، مشوِّقًا، وغير مكتمل نظرًا لضيق الوقت.
ــــ أهلًا بك في بيروت، وفي مجلّة الآداب. نبدأ من المستوى القانونيّ. في حال رفض الطعن الذي تقدّمتْ به الحكومةُ المصريّة، ما الخطوات المتوقّعة منها بعد ذلك؟ وما استعداداتكم لذلك؟
لو جاء الحكمُ في صالحنا ورُفض الطعن، فستكون الدولةُ في مأزق: فهي ملتزمةٌ بالحفاظ على الأرض لأنّ المحكمة أقرّت أنّ الأرض مصريّة، ولكنّها عاجزة عن تنفيذِ ما اتّفقتْ عليه مع السعوديّة. على السعوديّة أن تتفهّم أنّ هناك اتّفاقاتٍ واشتراطاتٍ قانونيّةً ضروريّةً لكي تسير أيُّ اتّفاقيّة. والحقيقة أنّ هذه أزمةٌ خلقها النظامُ المصريّ من الأساس: فقد وقّع اتّفاقيّةً لا يملك صلاحيّةَ توقيعَها. وإذا أيّدت المحكمة الإداريّة العليا موقفَنا، فستبقى هذه الجزر مصريّةً على ما هي عليه الآن.
ــــ في مداخلتك البارحة، في بيروت، تحدّثتَ عن الأمل الناجم عن مجريات هذه المحاكمة. ألا ترى أنّ الخرابَ الناجمَ عن السياسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي تتبعها السلطة الحاليّة في مصر يسابق الأملَ بأشواط؟
ليست السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة هي وحدها السيّئة. الخيارات السياسيّة سيّئة هي أيضًا. وحين نقيس الأمل، فإنّنا لا نقيسه بحجم الخراب الواقع، بل بحجم أداء الشارع. فلقد كنّا في حالة فقدان الثقة بكلّ شيء، وكانت السلطة مسيطرةً على عقول قطاعات كبيرة من الشارع، بل نجحتْ في تصدير الفكرة القائلة "إنّ الأزمة هي بسبب ثورة 25 يناير!" لكنّ ذلك الآن بدأ ينكسر. وبرغم قتامة المشهد فإنّني أرى أنّ الأمل يزيد لأنّ الناس بدأوا بتقويم سنتين من حكم السيسي، وبدأوا يراقبون حجمَ صدقه معهم، ومدى "انحيازه" فعليًّا إلى حماية الطبقات الفقيرة والمتوسّطة على المستوى الاقتصاديّ الاجتماعيّ. وأعتقد أنّ هذا التقويم غيرُ إيجابيّ بتاتًا. لقد بدأ ميزان القوى يختلف؛ أعتقد أنّ الناس نزحوا من كفّة السلطة، ولم يصلوا بعدُ إلى كفّة الفصائل المؤمنة بالثورة، لكنّهم في الطريق إلى هناك.
ــــ فلنحاولْ أن نفهم "منطقَ" السلطة المصريّة المتخبّط، وذلك من خلال إجابتك، كحقوقيّ وسياسيّ وناشط، على مجموعة من الأسئلة. مثلًا: ما رأيك في أداء الدولة في قضيّة الطالب الضحيّة الإيطالي ريجيني؟
أبدأ بالقول إنّ كلّ المواقف المتّخذة في السنوات الثلاث الماضية ــــ على الأقلّ ــــ تعكس أزمةَ كفاءةٍ في الإدارة المصريّة. ربّما يوجد مستشارون أكفاء، لكنّ إدارةَ القرارات الصادرة تنمّ عن ضعفٍ في فهم المشهد، وفي أدوات التعامل مع كلّ قضيّة على حدة. قضيّة ريجيني كانت نموذجًا، وقضيّةُ السيّاح المكسيكيين الذين تمّ قصفُهم شاهدة على ذلك أيضًا؛ كذلك قضيّة تفجير الطائرة الروسيّة في شرم الشيخ؛ إضافةً إلى أزمة تيران وصنافير أيضًا.
ــــ أتوقّف عند معالجة قضيّة أخطر، تتعلّق بالأمن القوميّ المصريّ؛ أقصد معالجة السلطة لقضيّة بناء سدّ النهضة في أثيوبيا.
في هذا الملفّ، أرى أنّ الخطأ الكبير فيه يتحمّله الأثيوبيّون. إدارة الملفّ في مصر كانت خطأً منذ البداية، إذ اعتمدتْ على حسن النوايا؛ فقد اعتبرت السلطةُ المصريّة أنّ مجرّد التوقيع على اتّفاق مبادئ كافٍ لفكرة العيش المشترك. وقد أكون منحازًا إلى الهدف العامّ الذي صَبَتْ إليه السلطةُ المصريّةُ في هذا الملفّ، وهو العيشُ المشترك بين كلّ دول حوض النيل، وحلُّ أزمةٍ كهذه بغير العنف. لكنّ هذه الأزمة وقعتْ ضحيّةً للعنتريّة السياسيّة في كلا البلدين، وضحيّةً لاستخدام الأزمة سياسيًّا على الصعيد الداخليّ في الدولتين. والحلّ المنطقيّ والعادل والوحيد لها هو في اختيار الدول المعنيّة العيشَ المشتركَ في تصميم الحلّ، أيْ: عدم التسبّب بمشاكل خلال الملء الأوّل للسدّ، وموافقة مصر على هذا الملء بإرادة واعية ومدروسة لا تؤدّي إلى الإضرار بمصر المعتمدة كلّيًّا على النيل في عيشها، خصوصًا أنْ لا بدائلَ كافيةً ومنطقيّةً لديها. وإذا كان الهدفُ الأثيوبيُّ المعلن من هذا السدّ هو توليدَ الكهرباء، لا تخزينَ المياه وبيعَها، بما يعنيه هذا الأمر من اعتداءٍ على حصّة مصر التاريخيّة في مياه النيل، فيمكن حينها الاتّفاقُ على آليّة الملء الأوّل: كأنْ تعمل مصرُ على تحصين نفسها من الانخفاض الذي سيحصل في حصّتها من المياه، وذلك وفق برنامج زمنيّ مدروس يسمح لها، بعد اكتمال الملء، بزيادة حصّتها مؤقّتًا.
ثم إنّه يجب أيضًا أن يكون هناك تصوّر مشترك لإدارة سدّ النهضة الإثيوبيّ والسدّ العالي في مصر بما يحفظ الحقوقَ لكلا الشعبين، وبالطبع لشعب السودان الواقع بينهما. الخطأ هو في تجاهل السودان؛ فالسودان في رأيي هو كلمة السرّ في مسألة العيش المشترك. صحيح أنّ مصر لم تهدّد بالحرب، وهذا أمر إيجابيّ، لكنّها لم تعلن عن بديل من الحرب. ولا أرى مسارًا بديلا من دون السودان.
ــــ هل أُعلن عمّا اتُّفق عليه مع أثيوبيا؟
ليس بشكلٍ حقيقيّ. ما نُشر كان اتّفاقاتٍ بروتوكوليّةً لا تعبّر عن حقيقة ما يجري في الاتّفاقيّات. لكنّ ما نعرفه حتّى الآن أنّ الاتّفاقيّات لم تنجح، وأنّ أثيوبيا لم تلتزم باتّفاق المبادئ الذي ينصّ على العيش المشترك ومصالح البلدين...
ــــ مع احترامي لتقديرك الإيجابيّ لعدم تهديد مصر بالحرب، ألا ترى ذلك سلبيًّا في مفاوضات مصيريّة، مرتبطة بالنيل، حرمتْ مصرَ نقاطَ قوّةٍ تستعملها في القضيّة الأكثر حيويّةً بالنسبة إلى شعب مصر؟
قد لا يتمّ التهديدُ بالحرب عبر إعلان صريح، وربّما يتمّ في الجلسات المغلقة أو عبر رسائل غير مباشرة. في كلّ الأحوال أتمنّى ألّا يحدث ذلك. كما أتمنّى أن يعي القادة الأثيوبيّون أنّ ما يفعلونه خطير، وأنّ العدوانَ على حقوق مصر التاريخيّة في المياه لا يقلّ أبدًا عن عدوان "إسرائيل" على سيناء. وهو أمرٌ يستدعي من المصريين الدفاع بكلّ الطرق لأنّه يؤدّي إلى العطش والموت وانعدام الحياة؛ فمصر تعاني نقصَ مياهٍ بشكل حقيقيّ، وهي لا تملك بدائل: فأمطارها قليلة، ولا بحيرات تتجمّع فيها المياه...
ــــ بمراجعة الإعلانات التلفزيونيّة الحكوميّة الأخيرة حول ترشيد استعمال المياه، نلْحظ نفسًا انهزاميًّا فيها: فما وقع قد وقع، وعلينا أن نحترم حصّةَ غيرنا من النيل، وكأنّ النيل لا ينتهي في مصر!
تبدو الدولة المصريّة عديمة الحيلة إزاء قضيّة بهذا الحجم؛ فلا رؤية أو استراتيجيّة واضحة لديها في التعامل مع أزمة سدّ النهضة. ولطالما كرّرتُ أنّ مصر في حاجة إلى إلقاء حجرٍ في مياه المفاوضات الراكدة. أمّا التعامل مع هذا الملفّ بالطريقة التي تتعامل بها الدولة المصريّة فغيرُ إيجابيّ البتّة: فمصر لم تطلب من الأمم المتّحدة مثلًا وقفَ بناء السدّ، ولم تقدِّمْ شكوى إلى أيّ منظّمة أفريقيّة أو دوليّة. وكلّ ذلك يعكس روحًا انهزاميّةً، أو محاولةً لحصر الأمر بمصر وأثيوبيا ودولِ حوض النيل من أجل الحؤول دون حصول تدخّلات خارجيّة قد تخلق توتّراتٍ أكبر. لكنْ، في المحصّلة، أداءُ الحكومة المصريّة غير مقْنع أبدًا، لا للشارع المصريّ ولا للشارع العربيّ.
ــــ بالعودة إلى محاولة فهم منطق السلطة المصريّة، كيف تفسّر اعتمادَها على أناسٍ صدرتْ في حقّهم أحكامٌ مرتبطةٌ بالفساد (محافظ القاهرة الجديد عاطف عبد الحميد، ورئيس جهاز الكسب غير المشروع عادل السعيد...)؟ وكيف نفسّر أداءها القمعيّ الرهيب (مصر الآن من الدول القليلة التي ما تزال تمارس "الإخفاءَ القسريّ" للمعتقلين)؟ هل الأمور مرتبطة بسلطة فردٍ مسيطِرٍ، أم بجهازٍ كامل؟
لا أستطيع أن أقول إنّ ذلك نابع من فرديّة، وأعتقد أنّ ثورة 25 يناير بدأتْ ولم تنتهِ، ولا يمكن تقويمُها الآن. وإذا كانت قد استطاعت إطاحةَ جزءٍ من رموز النظام (الحرس القديم)، فإنّ النظام استطاع أن يُنتج حرّاسًا جددًا له. فهذا النظام، منذ عهد حسني مبارك حتّى الآن، لم تختلفْ [من حيث الجوهر] طريقةُ إدارته لعددٍ من الملفّات، برغم بعض الاختلافات الشكليّة؛ لقد تغيّر مثلًا في إدارة ملفّ النشطاء السياسيين، فصار أكثر بطشًا وعنفًا. واختلف في الكفاءة، فصار أقلَّ حنكةً ودرايةً. لكنّ جوهر هذا الصراع هو في عمليّة اختيار الحرّاس الجدد وإعدادهم، والطريقة ما زالت هي نفسها: الاعتماد على أهل الثقة لا أهل الكفاءة، وإنْ لم يتمتّع الأوّلون بالنزاهة؛ ذلك لأنّ هذا النظام يعتمد على الفساد أداةً من أدوات الحكم. ولهذا يُختار محافظُ القاهرة على هذا النحو، ويُفتح البابُ "للتصالح" على قضايا فسادٍ في المال العامّ. وإذا كان مفهومًا أن نفتح بابَ التصالح مع فاسدٍ من القطاع الخاصّ فيدفع غرامةً مضاعفةً مثلًا، فإنّ التصالح مع موظّفٍ كبيرٍ فاسدٍ أمرٌ غير مقبول بكلّ المعايير. لقد وصلت الأمور إلى التصالح مع رئيس ديوان رئيس الجمهوريّة (زكريا عزمي) ورئيس مجلس الشورى (صفوت الشريف) وغيرِهما من المدانين بالفساد. وهذا يشجّع الفسادَ والفاسدين، الذين تحتاج إليهم الحكومة لتسيير أمورها!
لا دولة في العالم تستطيع أن تقضي على الفسادَ. لكنّ من المهمّ أن تكون الدولةُ راغبةً في ذلك وساعيةً إليه. خذْ رواندا مثلًا: كانت في حرب أهليّة في نهاية التسعينيّات بين الهوتو والتوتسي، وها هي اليوم ــــ عبر مكافحة حقيقيّة للفساد ــــ قد خطت خطواتٍ إيجابيّةً مكّنتْها من أن تصل إلى مكانة أهمّ في مستويات التنمية.
ــــ بالعودة إلى مفاعيل ثورة يناير، لمَ كان ترشُّحُك إلى الانتخابات الرئاسيّة سنة 2012 منفردًا؟ ولِمَ لَمْ تستطع قوى الثورة الاتّفاقَ على مرشّح واحد منافس للإخوان وفلول النظام؟
كان ترشّحي المنفرد شأنَ ترشّح غيري. حتّى مَن كان منتميًا إلى حزب، ونوقش ترشُّحُه داخل حزبه، فقد ترشَّحَ انفراديًّا. وأعتقد أنّ ذلك كان مقبولًا في ذلك الوقت؛ فالثورة عبّرت عن حراكٍ واسع وأطيافٍ متعدّدة اتّفقت على هدف واحد هو إسقاط هذا النظام، لكنّها بالطبع اختلفت في كيفيّة هذا الإسقاط. الانحيازات الاقتصاديّة والاجتماعيّة اختلفت، وأنا بالطبع غير متّفق مع حمدين صباحي أو عبد المنعم أبو الفتوح أو محمد مرسي. كانت هناك اختلافات جوهريّة وموضوعيّة ــــ بالطبع في السياسة لا في الأمور الشخصيّة. وهذا ما جعل الجميع عاجزًا عن طرح رؤية جامعة، يُتّفق فيها على الحدّ الأدنى كمرحلة انتقاليّة.
كنتُ المرشّح الوحيد الذي ظهر على تلفزيون النهار المصريّ، في لقاء في برنامج محمود سعد، ذي نسبة المشاهدة العالية. وكان ذلك يوم استبعاد عمر سليمان وصلاح أبو اسماعيل. قلتُ يومها إنّني على استعداد للتنازل عن خوض هذه الانتخابات شرط أن يكون هناك تصوّر جماعيّ واتّفاق من عدد من المرشّحين، منهم عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي وهشام بسطويسي (مرشّح حزب التجمّع) وأبو العزّ الحريري (مرشّح حزب التحالف الشعبيّ الاشتراكيّ) وأيمن نور. لم أضف إلى هذه المبادرة الإخوانَ المسلمين، ولا ممثّلي الدولة (عمرو موسى أو أحمد شفيق). وأعلنتُ يومها أنّه لو اتّفق هؤلاء الخمسةُ ــــ برغم أنّ أيمن نور كان قد استُبعد ــــ على مرشّح واحد، فسأكون أوّلَ المنسحبين. وللأسف لم يحدث ما كنت أصبو إليه.
لم يكن ترشّحي للانتخابات أكثرَ من مبادرة شبابيّة قام بها عددٌ من الشباب والفاعلين لإيصال صوتهم، صوتِ هذا الجيل، لا صوتي شخصيًّا؛ فأنا كنتُ أصغر مرشّح في الانتخابات، وقد أعلنتُ عن ترشّحي يوم عيد ميلادي الأربعين، وقبل ذلك لم يكن يحقُّ لي الترشّح. وإذا راجعتَ مسارَ الانتخابات يومها، فستجد أنّ أيًّا من المرشّحين لم يطرح برنامجًا لحملته، فيما كان هدف نزولي إلى الانتخابات طرحَ برنامجٍ يضمن العدالةَ الاجتماعيّة، ويساعد في جذبِ المرشّحين إلى هذه الأرضيّة من البرامج السياسيّة والرؤى الاجتماعيّة الاقتصاديّة. ولقد كنتُ على ثقة بأنّ فرصي في هذه الانتخابات ليست كبيرة، لكنّني حصلت على متابعة جيّدة لحملتي الانتخابيّة، وعلى ترتيبٍ لم أكن أتوقّعه (وهو المركز السابع). وكان يمكن أن تكون نتائجي أفضلَ لولا تكوّنُ الاستقطابات التي رأت أنْ لا أمل لي في النجاح، فصبّت الأصواتَ لصالح مرشّحين آخرين، مثل عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صبّاحي. وفي رأيي أنّ المشكلة الكبرى تقع في عدم توحّد هذين الأخيرين؛ فقد كان كلٌّ منهما يجرّ قدمَ الآخر إلى الأسفل في مقابل أن يصعدَ لينافسَ الإخوان ــــ أصحابَ الكتلة الصلبة الواحدة الموحّدة المدعومة إعلاميًّا، وأصحابَ القدرة الماديّة على تبنّي حملة إعلاميّة مؤيّدة لهم. حمدين نال ثلاثة ملايين صوت، وأبو الفتوح حوالى ثلاثة ملايين. ولو توحّدا خلف مرشّح واحد لفاز بسهولة. لم يكن حسم النتائج في يدي أو يد بسطويسي أو غيرنا، بل كان في يد حمدين وعبد المنعم.
ــــ هنا أستطرد إلى انتخابات 2014. كيف تقوِّم ترشّح حمدين صباحي الذي أسبغ على ترشّح السيسي شرعيّة الانتخاب حيث أضفى شرعيّة على هذه العمليّة، عوضًا من صيغة التفرّد والتعيين التي كانت ستبدو عليها لو بقي السيسي المرشّح الوحيد؟
حمدين إنسان طيّب وحميم، وأنا على علاقة إيجابيّة معه على المستوى الشخصيّ. إنّما على المستوى السياسيّ فهناك تقاطعاتٌ بيننا. قبل هذه الانتخابات دعوتُ الأستاذ عبد الغفار شكر، رئيسَ حزب الاتّحاد الشعبيّ الاشتراكيّ، إلى لقاء، وأخبرتُه أنّ الانتخابات قادمة، ولا أريد أن يقال إنّنا عاجزون عن الاتّفاق. وقلت له إذا كان حمدين راغبًا في خوضها، فلنتّفقْ على برنامج موحّد، وأنا مستعدّ لعدم خوضها. في ذلك الوقت لم يكن السيسي قد ترشّح. لاحقًا، أعلن حمدين ترشّحَه بإرادة منفردة، وحاولنا أن نستوعب هذا الأمر. وبعد أسبوعين تقريبًا، بدأتْ تظهر بوادرُ قرار السيسي بالترشّح. ونحن كحملة قرّرنا عدم خوض هذه الانتخابات...
ــــ أكان ترشّح السيسي مفاجئًا حقًّا؟
لقد كان احتمالًا قائمًا منذ البداية...
ــــ احتمال؟! ألم يكن الأمر واضحًا؟
كان بعض الأطراف يشكّكون في ترشّحه، لكنّي كنت واثقًا بأنّه سيترشّح. بعض السياسيين فسّروا النصّ الوارد في الدستور ــــ والذي يجعل وزيرَ الدفاع غيرَ قابل للعزل ــــ وكأنّه تحصينٌ للسيسي في موقعه كوزير دفاعٍ مكرّس، وأنّه لن يرغب في الترشّح إلى موقع أقلّ ثباتًا، يُجبَر فيه على الإتيان بوزيرٍ يمتنع عليه عزلُه. ولا تنسَ أنّ السيسي حاول لاحقًا ــــ كبالون اختبار ــــ طرحَ تعديلاتٍ على الدستور، ووجد أنّ الأمر غير مقبول، على الأقلّ في ذلك الظرف. وفي لقاء مع حمدين، عرضنا وجهة نظرنا في عدم الترشّح لكوننا نرى أنّ الأمر مسرحيّة (حتّى قبل ترشّح السيسي رسميًّا)، فيما كان حمدين ومجموعتُه يروْن أنّه يجب عدمُ ترك المجال للسلطة وحدها. وبعدها أعلن السيسي ترشّحه بالسترة العسكريّة (لمن يريد أن يفهم!)، وبدأت الانتخابات، ثمّ جرى تمديدُها يومًا ثالثًا (28 مايو 2014) نظرًا لضعف الإقبال عليها. استمرّ حمدين في الانتخابات ولم ينسحب، وهذا قرارُ حملتِه الذي لا أراه موفّقًا.
ــــ ألم يكن انسحابُ حمدين مؤثّرًا في العمليّة بما يجرّدها من الشرعيّة؟
ربّما كان يتوجّب عليه ذلك، على الأقلّ في اليوم الممدّد الثالث من الانتخابات. لكنّها خيارات سياسيّة يقوم بها الأفراد والمجموعات. وبتقديري لم يكن ذلك خيارًا موفّقًا.
ــــ في 25 يناير، اتّفق الناسُ على شعار "إسقاط النظام." هل الثورة "سُرقتْ" بسبب غياب الإيجاب في الطرح؟ فإذا كان إسقاط النظام فعلًا سالبًا، وضروريًّا، فماذا بعد إسقاطه؟ ما البرنامج؟
لنكن متواضعين. الشعار كان "إسقاط النظام" فعلًا، لكنّه لم يسقط أبدًا! وطوال الوقت، ظلّ القلبُ الصلبُ للنظام ــــ أي الجيش ــــ مسيطرًا على الوضع؛ ولم يسقط مبارك إلّا عندما أعلن الجيش التخلّي عنه. وربّما الخطأ الرئيس كان في سعي بعض الفصائل إلى التحالف مع الجيش، وعلى رأسها الإخوان والسلفيّون. والخطأ نفسُه وقعتْ فيه القوى المدنيّة في 30 حزيران، حين اتّفقتْ مجدّدًا مع الجيش. وقد بقي الجيش طوال الوقت هو اللاعب الرئيس، وهو الثابت في النظام,
الآن، أعتقد أنّ خبرة الشارع المصريّ ورؤيته إلى الأمور اختلفتا. كما أنّ مزاج الناس اختلف بشكل سريع وحادّ وغير متوقّع: فلقد أعطوْا الإخوانَ أصواتهم، ثمّ خرجوا بعد سنة ضدّهم؛ وهم دعموا القادة العسكريين، ولكنْ لديهم اليوم رؤى نقديّة قاسية أحيانًا ضدّهم.
ــــ ألا يقلقك أن يتغيّر المزاجُ، فينزل الناسُ إلى الشوارع مجدّدًا في ظلّ استمرار ضبابيّة المطالب الإيجابيّة: ماذا نريد، لا ماذا لا نريد؟ وهذه المرّة سيكون شعار "إسقاط النظام" موجّهًا بشكل مباشر ضدّ الجيش!
قد يحدث ذلك. لكنْ من الكياسة أن نفكّر أنّ السيناريو القادم قد لا يكون تمامًا ما حدث في 25 يناير. قد تختلف الطريقة، إنّما المهم الجوهر: وهو أن يقتنع المواطنُ العربيّ، في مصر أو غيرها من الدول العربيّة، أنّ نمطَ هذا النظام ــــ بكلّ مكوّناته بما فيها الجيش ــــ لا يصلح لإدارة البلاد؛ وأنّه لا يَصْلح أن تتقدّم مجتمعاتُنا عبر سياسات نستمدّها من الخمسينيّات والستينيّات وصولًا إلى الثمانينيّات؛ وأنّنا في حاجة إلى نهضة حقيقيّة تتعاطى مع العالم وفق آليّاته الجديدة.
هنا أشير إلى أنّ خوف الناس من التماثل مع ما يروْنه في ليبيا وسوريا وغيرهِما هو عامل مؤثّر. قد يكون المسار الذي اختاره الناسُ حينها هو النزول إلى الشارع، لكنْ الآن ــــ وخوفًا من التكلفة الباهظة للنزول إلى الشارع، ولا سيّما بالقياس إلى ما يحدث حولنا ــــ قد يرى البعض أن ينتظر إلى يوم الانتخابات لفرض تغييرٍ آمن. فالكلّ يعرف أنّ صوتَ الهتاف يضيع كلّما ارتفع صوتُ السلاح، والناس حينها لا تريد أكثر من درعٍ تحميها من الرصاص.
وهنا يمكن أن نفهم الحركة العكسيّة التي قام بها العديدُ من الأنظمة في منطقتنا، حين سعت إلى تسليح فصائل الثورة، فانهارت المطالبُ التي كان الناسُ يرفعونها، وتحوّلتْ حركتُهم إلى شيء آخر. وأرى في عسكرة الثورات محاولةً مقصودةً من أنظمة محلّيّة وعالميّة مكّنتها من السيطرة على هذه الثورات، واحتوائها، وتفريغِها من مضمونها. من هنا علينا أن نعي أنّ المشهد القادم في مصر قد لا نرى فيه خروجًا جماهيريًّا متناسبًا مع الغضب؛ فقد ينحاز الشارع إلى آليّاتٍ أخرى علينا أن نتعامل معها ونستعدّ لها. وبالطبع، ذلك لا يعني إسقاط فرضيّة بقاء الناس في الشارع بأعداد كبيرة ولأوقات كافية لإسقاط النظام.
هل نجح النظامُ الحاليّ في جرّ الخصومة صافيةً بين الناس والجيش؟ ألم تتحوّل قياداتُ الجيش إلى طبقة ذات مصلحة مباشرة في إبقاء الوضع على حاله، مع ما يحمل ذلك من خوف من المزيد من القمع؟ أليس مخيفًا أيُّ خروج على النظام؟
ذلك مخيف بالتأكيد، لكنّني أزعم أنّ دخولَ الناس طرفًا في المعادلة سيغيّر الصورةَ بشكلٍ كبير. هذا يفسّر كمّيّة الأموال الهائلة التي يتمّ ضخُّها في الإعلام لتصدير الرعب إلى الناس، ولإبعادهم عن الفاعليّة، ولحرق كلّ القيادات السياسيّة التي يمكن أن يلتفّوا حولها. لكنْ إذا التفّ الناسُ بعضُهم على بعض، وخرجوا إلى الشارع، فلن يكون الرعبُ كبيرًا. لقد كان الخروج على مبارك مرعبًا، وكانت المظاهرة من ألفي شخص حلمًا يصعب تحقيقُه قبل ذلك. خروج الناس إلى الشوارع أظهر ضعفَ مبارك. وينطبق الأمر كذلك على خروج الناس على الإخوان، الذين هدّد بعضُهم بحمّامات الدم في حال حصوله. لو لم يخرج الناس في 30 حزيران لما استطاع المجلس العسكريّ أن يفعل ما فعله. ونزول الناس اليوم بأعداد كبيرة سيجعل الجيشَ يضحّي بقياداته المتورّطة في الأحداث اليوم، ويبحث عن سيناريو جديد؛ ربّما إيجاد مدنيّ متقاعد من الجيش، أو إيجاد حرّاس جدد. لكن في كل الأحوال، نزول الناس بكثافة يخفّف من حدّة المشهد، ومن الرعب المتوقّع.
لو تمكّنتْ قوى ثوريّة نظيفة من استلام دفّة الحكم، فما هي خارطة الطريق التي تراها لإنقاذ مصر من الخراب؟
هنالك مجموعة محاور لا بدّ من القتال من أجلها، أوّلُها محورُ التعليم. لا يمكن أن يستمرّ التعليم المصريّ بهذه الطريقة، بما فيها من فسادٍ وتفاوتِ فرص. لا بدّ من ضخّ أموالٍ حقيقيّة، وخلقِ تعليم حقيقيّ بعيدٍ بمناهجه عن الاستخدام السياسيّ. وبغير ذلك لن تتحقّق نهضةٌ في مصر.
المحور الثاني هو مكافحة الفساد؛ فهذا سيوفّر لنا العديد من مصادر الدخل، ويخلق حالة من العدالة.
المحور الثالث هو خلق خطّة وطنيّة حقيقيّة للصناعة والزراعة. فمصر ليست دولةً سياحيّة، أو مجرّد ممرّ ملاحيّ دوليّ عبر قناة السويس؛ كما أنّها ليست مجرّد عمالةٍ في الخارج ترسل الأموالَ إلى الداخل المصريّ. المصادر الرئيسة للدخل المصريّ حاليًّا هي: قناة السويس، وتحويلات المصريين في الخارج. لكنّ الإنتاج في الصناعة أو الزراعة لا نلحظه في مصادر الدخل.
غير أنّ هذه المحاور لا تسير من دون إصلاح سياسيّ: مؤسّسات قضاء حقيقيّة، مؤسّسات شرطة بعيدة عن الاستخدام السياسيّ (فليس دورُ الشرطة تصديرَ الرعب إلى كلّ صوتٍ معارض). لكنْ لا يمكن تحقيقُ أيٍّ من ذلك من دون رؤية ومسار. إذا نجحتْ قوى الثورة في الوصول إلى السلطة فأعتقد أنّها ستخلق برنامجًا لتحقيق مطالب الثورة. لكنْ مَن سيأتي متخيّلًا أنّ دوره يقتصر على إعادة ترميم النظام، كما فعل الإخوان، فسيخسر الشارع.
ــــ لكنْ يجري تكبيلُ الشارع المصريّ بقروضٍ وضرائبَ وإنفاقاتٍ وعمليّاتِ تسليحٍ لا طائل منها، إلّا أنّها رشًى للخارج ومجالاتٌ لنهب الداخل. الوقت ليس في صالحكم!
ما أقوله ليس مجرّدَ فسحة أمل. والشعوب لو آمنتْ بقدراتها فسوف تنهض لا محالة. أسوأ ما حدث هو ما يبدو وكأنّه عقابٌ للشعوب العربيّة على خروجها على الحاكم، ورغبتِها في التحكّم بمصائر بلدانها! من هنا تُكال لها الاتّهامات: أنتِ أخطأتِ... أنتِ لا تعرفين التفكير الصحيح...
إفقادنا الثقة بأنفسنا وبخياراتنا أمرٌ ظالم. انظرْ إلى ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية. انظرْ إلى اليابان. تلك شعوبٌ آمنتْ بنفسها وبإرادتها. كيف استطاعت فيتنام أن تُحرج أميركا بترسانتها النوويّة وتقدّمها التكنولوجيّ؟ إنّها الثقة بالنفس، وهو أمر مقدور عليه وليس بعيدًا عن الشعب العربيّ.
ــــ أشكرك أستاذ خالد، وأحيّي فيك شعلة الأمل التي نتمنّى اتّقادَ جذوتها أكثر فأكثر.
بيروت
كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.