ماركسي من تونس.
كلّما خَفَتَ النقاشُ حول الصراع العربيّ ــــ الصهيونيّ في تونس، فإنّه سرعان ما يعود ليتصدّر اهتمامَ الرأي العامّ بمجرّد تصاعد وتيرة الاعتداءات الصهيونيّة في فلسطين والأراضي العربيّة، أو بمجرّد إقدام السلطة التونسيّة على التطبيع مع الكيان الصهيونيّ. وهكذا تصبح تونس ساحةَ مواجهةٍ بين أنصار التطبيع والرافضين له. ويَستدلّ كلُّ طرف بحجج عديدة: فإذا حاجج الأوّل بأنّ مواجهة الصهيونيّة ومقاطعتَها ومحاصرتَها لا طائلَ منها، وأنّ العرب لم يَجْنوا من النضال ضدّها سوى التخلّف عن ركب "الحداثة" و"التقدّم" والتشجيع على نشر خطاب "التحريض على الكراهية ونبذ التسامح،" فإنّ الاتجاه الثاني يؤكّد أنّ الصهيونيّة عقيدة استعماريّة عنصريّة، وأنّ الكيان الصهيونيّ اغتصب أرض فلسطين وشرّد شعبَها وهدّد الأراضي العربيّة كافّةً، ولذلك وجب النضالُ ضدّه، لا في فلسطين فحسب، بل يجب أن تكون تونس شريكًا في ذلك أيضًا بحكم الانتماء إلى أمّة مضطهَدة واحدة وبحكم المصير المشترك.
هذه المواجهة ليست جديدةً، بل قديمة منذ نهاية القرن التاسع عشر. لذلك من الضروريّ رصدُ مراحل نشاط الحركة الصهيونيّة في تونس، وقياسُ أثره طوال فترة الاستعمار المباشر وبعد العام 1956. ومن الضروريّ كذلك إبرازُ القوى التي تصدّت للحركة الصهيونيّة في تونس، لأنّ تونس لم تكن معزولةً عن مخطّطات الحركة الصهيونيّة من أجل حشد الدعم لها تحت راية "بناء وطن قوميّ لليهود" في فلسطين.
***
انطلق النشاطُ الصهيونيّ، كما هو معلوم، منذ المؤتمر الصهيونيّ الأوّل سنة 1897 في بازل (سويسرا). ومرّ بمراحل عديدة، تتراوح بين المدّ والجزر.[1] وقد عملت الحركةُ الصهيونيّة، في بداية وجودها في تونس، على التغلغل في أوساط التونسيين اليهود، الذين كانوا يَعدّون حوالي 50 ألفًا مع نهاية القرن التاسع عشر. وينقسم هؤلاء إلى طائفتين:
1) طائفة "القرانة" الذين ينحدرون من أوروبا (تعود تسميتُهم إلى مدينة الغرنة الإيطاليّة). وقد رُحّلوا "لأنّهم، بتخصّصهم الوظيفيّ في التجارة، شكّلوا عقبةً أمام نموّ الطبقة البورجوازيّة. وقد اقتصر تواجدُهم على تونس العاصمة خاصّةً، وبعض المدن الساحليّة كسوسة وصفاقس، لتعاملهم التجاريّ مع اوروبا."[2] هؤلاء شكّلوا وحداتٍ سكنيّةً مستقلّة، وسُمّوا "جاليةَ المنفى."
2) أمّا الطائفة الثانية فهم تونسيون منذ عهود قديمة، وينتمي معظمُهم إلى طبقات اجتماعيّةٍ دنيا، ويشتغلون في مهنٍ عديدة، إذ نجد أعدادًا وافرةً من الحذّائين والإسكافيين وباعة السكّر.
تجدر الإشارة إلى أنّ العلاقة بين المسلمين واليهود في تونس آنذاك حدّدها العاملُ الاقتصاديّ: "إنّ أيّ يهوديّ لا يدخل الفضاءَ الاجتماعيّ إلّا كموقف طبقيّ. فهناك يهوديُّ "الحارة"المضطهَد على يد غيره من اليهود وعلى يد بعض المسلمين؛ وهناك اليهوديّ الغرنيّ المضطهِد لغيره من اليهود والمسلمين؛كما أنّ هناك من اليهود مَن تقلّد مناصبَ هامّةً في الدولة التونسيّة."[3]
أمّا العلاقات بالأوروبيين زمنَ السنوات الأولى من دخول الاستعمار الفرنسيّ إلى تونس وقبيْل ذلك، فقد اتّسمت بالتوتر، وبلغتْ حدّ التصادم، إذ رأى الأوروبيون فيهم منافسًا لهم على التجارة، وهو ما جعل الرأسماليين الفرنسيين يهاجمونهم في العديد من المنابر والصحف بهدف الحدّ من نشاطهم الاقتصادي.
هذه العوامل مكّنت الحركةَ الصهيونيّة من وضع أقدامها في تونس، خصوصًا أنّ السلطات الفرنسيّة في تونس لم تمنح اليهودَ التونسيين الجنسيّةَ الفرنسيّة التي كانوا يتطلّعون إليها، ولم تمنحهم طلبَ الاحتكام إلى محاكمها.
***
فشلت المحاولاتُ الأولى لتأسيس كيان تنظيميّ صهيونيّ في تونس بعد العام 1897، وكان قابريال علّوش، الذي ربطتْه علاقاتٌ وطيدة بالصهيونيّ الفرنسيّ برنار لازار، من الرموز التي ساهمتْ مساهمةً فعّالة في محاولة بعث هذا التنظيم.
ومع ذلك شرعت الحركةُ الصهيونيّة في تونس آنذاك في توسيع هامش دعايتها وكسب أنصار جدد، وذلك عبر تأسيس جرائد وعقد ندوات .كما أوْلى المؤتمرُ الصهيونيّ العالميّ الثاني اهتمامًا كبيرًا بتونس. وتُوّج هذا الجهدُ بتأسيس أوّل تنظيم صهيونيّ في تونس سنة 1911، "الاغودات صيون،" الذي تحصّل على رخصة للعمل القانونيّ، وكانت له نشرةٌ شهريّة، صوت صيون. هذا وقد شهد هذا التنظيم خلافاتٍ داخله، بين المتديّنين واللائكيين، انتهى بانقسامه إلى تنظيمين. كما شهدت البلاد ولادةَ تنظيمات صهيونيّة أخرى، أهمُّها: "ترهام صيون" في سوسة، و"وها صيون" في صفاقس.[4]
تونس ساحةَ مواجهةٍ بين أنصار التطبيع والرافضين له
لئن خمد نشاطُ الحركة الصهيونيّة في أوائل الحرب العالميّة الأولى، فإنّه انتعش مع صدور وعد بلفور (1917)، فتكاثرتْ تنظيماتُهم وتضاعفتْ جرائدُهم ومنابرُ دعايتهم. لكنْ "بقيت الحركةُ الصهيونيّة منحصرةً في بعض الأوساط البورجوازيّة الصغيرة والمتوسّطة، وثانويًّا في الأوساط البروليتاريّة."[5] ثمّ ازداد زخمُ نشاط الحركة الصهيونيّة مع بداية العشرينيّات وبداية الثلاثينيّات بسبب عوامل عديدة، منها ما يتعلّق بالأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي غرقتْ فيها البلاد، إذ رأى المتعاطفون من اليهود أنّ إرساء وطن لهم في فلسطين سيجنّبهم هذه الصعوبات ويقيهم شرَّ الازمات .كما أنّ إيقاف فرنسا لسياسة التجنيس بدءًا من العام 1934، ووصولَ هتلر إلى السلطة في ألمانيا، قوّيا من موجة انضمام اليهود إلى الحركة الصهيونيّة.
إلّا أنّ هذه الموجة سرعان ما تراجعتْ تحت تأثير عوامل عالميّة تتمثّل، أساسًا، في صعود "الجبهة الشعبيّة" إلى السلطة في فرنسا. وقد أدّى ذلك إلى انقسام الحركة الصهيونية إزاءها. كما أنّ تأسيس فروع فاشيّة فرنسيّة وأوروبية في تونس أسهم في ذاك التراجع. إضافةً إلى أنّ المدّ الشعبيّ الكبير تجاه الانتفاضة الفلسطينيّة الكبرى سنة 1936 جعل جزءًا من اليهود في تونس "يميلون إلى الاعتقاد بأنّ أيّام المستوطنات الصهيونيّة بفلسطين أصبحتْ معدودة."(6)
لم يدم هذا التراجعُ طويلًا. فقد حقّقت الحركةُ الصهيونيّة في تونس قفزةً نوعيّةً عند صعود حكومة فيشي إلى الحكم في فرنسا، ومع الاحتلال النازيّ لتونس، وما نجم عنه من اضطهاد كبير لليهود ثم الإعلان عن قيام "اسرائيل."[7] تجدر الإشارة إلى أنّ السلطات الاستعماريّة الفرنسيّة سهّلتْ هجرةَ اليهود نحو فلسطين بعد سقوط حكومة فيشي وهزيمة النازيّة، فكان من نتائج ذلك تأسيسُ مستوطنة صهيونيّة مثّلتْ عشرون عائلةً من يهود مدينة سوسة ركيزتَها الأساسيّة، وسُمّيت "موشاف ريقافيم" في سنة 1947.
هذا وقد بلغ عدد اليهود الذين هاجروا من تونس نحو الكيان الصهيونيّ بين العامين 1948 و1957: 20625 شخصًا.
***
مع بداية الخمسينيّات، نشأتْ علاقات بين سياسيين تونسيين ومسؤولين في الكيان الصهيونيّ. وهذه العلاقات أبرزتْها كتاباتٌ عديدة، من بينها سلسلةُ مقالات صدرتْ في جريدة القدس اللندنيّة في العام 2007 تحت عنوان "إسرائيل والعرب" موقّعةً باسم "الطاهر الأسود." وقد أثارت هذه المقالات نقاشات كبرى، فاضطرَّ أحمد بن صالح، الوزيرُ السابق في فترة حكم بورقيبة، إلى تقديم شهادته، التي نُشرتْ على حلقات في جريدة الشروق التونسيّة).
أفادت هذه المقالات، وغيرُها من الدراسات، أنّ الهادي الأدغم، وهو أحدُ القيادات البارزة في الحزب الحرّ الدستوريّ الجديد، التقى في 25/6/1952 ممثِّلًا عن الكيان الصهيونيّ في الأمم المتحدة. كما دعا الحبيب بورقيبة، في حوار له في جريدة لوموند الفرنسيّة، إلى عقد تسوية بين العرب والكيان الصهيونيّ؛ وجاء ذلك أثناء لقائه ايستمان، رئيسَ المؤتمر اليهوديّ العالميّ، سنة 1954، وفي لقاء آخر له في شهر فيفري 1956 مع سفير الكيان الصهيونيّ في باريس.
تواصلت العلاقات بين السلطة التونسيّة والوفود الصهيونية. فالتقى الحبيب بورقيبة الابن، وكان آنذاك وزيرَ الخارجية، في مارس 1965، وفدًا رسميًّا أمريكيًّا من أجل التوسّط لدى الصهاينة لشراء الخمور التونسيّة، والتوسّط أيضًا لدى فرنسا من أجل تقديم معونات وقروض للسلطة التونسيّة. وأثمرتْ هذه الجهود عن إرساءِ قناةِ اتّصالٍ دائمة بين السلطة التونسيّة والكيان الصهيونيّ، عبر سفير تونس في باريس، محمد المصمودي، الذي أصبح فيما بعد وزيرًا للخارجيّة، والسفير الصهيونيّ في باريس، والتر إيتان.
***
الغارة الصهيونية على حمّام الشطّ في تونس أكتوبر، 1985
طوالَ السبعينيّات وبداية الثمانينيّات تراجعت العلاقاتُ الرسميّة بين الطرفين بسبب تصاعد تيّار شعبيّ في تونس رافضٍ لهزيمةِ 1967 ولاتفاقيّة كامب ديفيد التي وقّعها السادات مع الكيان الصهيونيّ، وأيضًا بسبب انتشار العمل الفدائيّ الفلسطينيّ وانتشار أدبيّات الثورة الفلسطينيّة في صفوف واسعة من الطلبة والمثقّفين والنقابيّين والمناضلين التونسيّين.
وبين منتصف الثمانينيّات ونهايته، شهدتْ تونس حدثين بارزين نجحا في تعبئة الشارع ضدّ الكيان الصهيونيّ والسلطة التونسيّة في آنٍ واحد:
1) الغارة الصهيونيّة على حمّام الشطّ في تونس، وخلّفتْ شهداء وجرحى، ما اضطرّ السلطةَ إلى اتخاذ خطوةٍ ضعيفة لاستيعاب الغضب الشعبيّ.
أما الحدث الثاني ، فقد وقع بعد انقلاب السابع من نوفمبر (1987) واعتلاء بن علي الحُكمَ. فقد تسلَّل الكومندوس الصهيونيّ إلى التراب التونسيّ واغتال المناضل الفلسطينيّ خليل الوزير (أبا جهاد). وقد وُجِّهتْ هنا شبهةُ التورّط والتعاون بين بعض الأجهزة الأمنيّة التونسيّة والكيان الصهيونيّ.
***
إنّ رصدنا لهذه المحطّات من العلاقات الرسميّة التونسيّة والإسرائيليّة يؤكّد أنّ خيار الاستسلام الذي اتبعته السلطةُ التونسيّة إزاء الصراع العربيّ ــــ الصهيونيّ لم يكنْ خيارًا طارئًا، بل ركيزةً من ركائز الحُكم في تونس؛ كما أنّه يجلو وظيفةَ السلطة إزاء القوى الاستعماريّة ومصالحها. لقد تحرّكتْ تلك القيادات، سواء في خضمّ الحركة الوطنيّة "ضمن الأفقين التاليين: أفقه [المقصود: الحزب الحرّ الدستوريّ الجديد بزعامة بورقيبة] الاجتماعيّ الوسطيّ، وأفقه الجغرافيّ الناتج عن قناعته بوجود "أمّة تونسيّة"."[8]
***
على أنّ النشاط الصهيونيّ في تونس اصطدم، منذ نهاية القرن التاسع عشر، بموجة من المقاومة الرافضة للمشروع الصهيونيّ والمحرِّضة على النضال ضدّه، ففضحتْ رجعيّتَه وجوهرَه المُعادي لتحرّر الشعوب في منابر عدّة، وكشفت ارتباطَه بالمصالح الاستعماريّة. ولهذا، تطوَّعَ العديدُ من المناضلين للكفاح المسلّح في فلسطين المحتلّة.
أسهم في تبلور هذا الوعي، في فلسطين والوطن العربيّ، بدءُ ربط خيوطِ التواصل بين شخصيّاتٍ وتيّاراتٍ داخل الحركة الوطنيّة في تونس ونظيرتها في المشرق العربيّ؛ هذا إضافةً إلى الإحساس بالانتماء الواحد والاشتراك في المصير. سنحاول هنا أن نرصد أهمّ المحطّات التي تؤكّد ما ذهبنا إليه:
ــــ في سنة 1924، سافر الأمين العامّ للحزب الدستوريّ القديم، عبد العزيز الثعالبي، إلى فلسطين، فالتقى الحاجّ أمين الحسيني، واستقرّ في القدس. وقد وطّد هناك علاقاته بمناضلين عرب كُثر، ما جعله يشارك في المؤتمر الإسلاميّ العامّ في القدس (1931) بهدف حشد الدّعم لفلسطين ضدّ الانتداب البريطانيّ والحركة الصهيونيّة.[9]
ــــ صدرتْ مقالاتٌ كثيرة في عددٍ من الصحف، كـ الزهرة والوزير ولسان الشعب، تدعو إلى تصعيد الكفاح ضدّ الانتداب البريطانيّ في فلسطين وضدّ مطامع الصهيونيّة في استيطانها. كما عُقدَ الكثير من الندوات والمحاضرات، من أبرزها محاضرةٌ للشيخ محمد الفاضل بن عاشور على منبر الجمعيّة الخلدونيّة تحت عنوان "فلسطين الوطن القوميّ للعرب." وقد كان لهذه المحاضرة دور بارز في التعريف بتاريخ فلسطين وإيضاح الترابط بين الاستعمار البريطانيّ والمشروع الصهيونيّ.[10]
ـــــ شهدتْ تونس هبّاتٍ شعبيّةً ضخمة نصرةً للانتفاضات الفلسطينيّة في الثلاثينيّات. وتغنّى التونسيّون بالشهداء الفلسطينيّين الثلاثة، عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، الذين أعدمتهم السلطاتُ البريطانيّة. كما تصدّوا للعديد من المحاضرات التي ألقاها الصهاينة في تونس، وللعديد من الوفود الصهيونيّة الزائرة. فقد شهدتْ تونس أوّلَ تحرّك جماهيريّ ضخم سنة 1932 ضدّ الصهيونيّة، ما اضطرّ سلطاتِ الاستعمارِ الفرنسيّ إلى إلغاء زيارة إحدى الشخصيات الصهيونيّة الى تونس. كما أُجبرت على الانصياع إلى إرادة المتظاهرين في إلغاء محاضرةٍ كان سيلقيها الصهيونيّ لويز هالبان، في 11/6/1993.
ــــ جُمعت التبرّعات الماليّة، وأنشئتْ "لجنة إغاثة فلسطين الشهيدة" في العام 1936، ووُضع على رأسها الشيوعيّ أحمد بن ميلاد، واشترك فيها الحزبُ الحرّ الدستوريّ وطلبةُ جامعة الزيتونة الذين اعتمدوا شكلَ الإضراب عن الدراسة.
ــــ توسّعت الفعّاليّاتُ المناهضة للمشروع الصهيونيّ وامتدّت جماهيريًّا، إذ نظّم التونسيّون تظاهرتينْ جماهيريّتين في جانفي 1938 لمنع نشاطين دعائيّين لفائدة الصهيونيّة، تمثّلتا في شريط سينمائيّ بعنوان الأرض الموعودة ومحاضرة. وقد شارك في هاتين التظاهرتين عددٌ غفير من الدساترة ، إلّا أنّ الحبيب بورقيبة تبرّأ من هذه الفعّاليّات نافيًا علاقة حزبه بهما، ما جعله محطّ تشهيرٍ في أوساطٍ عديدة.[11]] وقد كشف هذا الموقفُ عن التباين الجذريّ في المواقف إزاء فلسطين والمشروع الصهيونيّ بين قيادات الحزب الحرّ الدستوريّ القديم، وعلى رأسه عبد العزيز الثعالبي، والحزب الحرّ الدستوريّ الجديد الذي تزعّمه الحبيب بورقيبة.
ــــ أسهم تأسيس "الاتحاد العام التونسيّ للشغل" سنة 1947 في توسعة الأنشطة المناهضة للمشروع الصهيونيّ في تونس. فقد نُظّم المتطوِّعون التونسيون للكفاح المسلّح في فلسطين، وبلغ عددهم قرابة 3 آلاف متطوّع، وكان للزعيم فرحات حشّاد دور كبير في تنظيم صفوفهم ووصولهم إلى فلسطين.
ــــ أسهم تصاعدُ النضال العربيّ ضدّ الإمبرياليّة والصهيونيّة في ارتفاع وتيرة الوعي الوطنيّ، الذي كان من أبرز مظاهره: تشابك النضالات في المغرب العربيّ، وتأسيس "مكتب تحرير المغرب العربيّ" تحت قيادة عبد الكريم الخطّابي. فارتفع عددُ المناضلين الذين ذهبوا للكفاح المسلّح في فلسطين وسُهّلَ مرورهم إلى هناك عبر ليبيا ومصر. كما تكوّنتْ نواةٌ مسلّحة أسهمَ أعضاؤها في مدّ المقاومة في فلسطين بالمقاتلين. ولم تتوقّف هذه الهَبّات الجماهيريّة بعد العام 1956. إذ شهدَت البلادُ التونسيّة مظاهراتٍ ومسيرات كثيرة، وتوزيعًا للمناشير، وإنشاءً للعديد من اللجان من قبَل الطّلبة والنقابيّين والمناضلين السياسيّين. وقد ساعد في ذلك نموُّ تيّارٍ من اليسار الجديد تصدّى بجرأة عالية للطروحات الانعزاليّة القطْريّة، سواء داخله أو في اتّجاه السلطة في الستينيّات والسبعينيّات والثمانينيّات، وذلك على خلفيّة مسألة وجود "أمّة عربيّة مضطهَدة،" فضلًا عن تلازم النضال القطْريّ والقوميّ وترابط النضال الطبقيّ والوطنيّ.
والحقّ أنّ نقاشاتٍ عديدة شقّت صفوفَ تلك التيّارات، ما أسهم في الوعي بالترابط بين المشروع الامبرياليّ والصهيونيّ، وفي اعتبار الأنظمة العربيّة أنظمة عاجزة مستسلمة مرتبطة بالمصالح الإمبرياليّة. ولذلك فإنّ إنجاز مهمّات التحرّر والانعتاق تقع على عاتق الجماهير العربيّة المضطهدة. فليس ثمّة نظرة قوميّة خاصّة حول قضيّة قوميّة بل توجد نظرة طبقيّة حول قضيّة قومية
كما رَفعت الحركةُ الطلّابيّة في فيفري (شباط) 1972 شعار "النضال ضدّ الإمبرياليّة ومساندة كافة حركات التحرّر الوطنيّ في العالم وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة” شعارًا من شعاراتها المركزيّة.
***
بناءً على ما تقدّم، يمكن أن نستنتج الآتي:
ــــ مرّ وجود الحركة الصهيونيّة في تونس بفترات جزْر ومدّ، متأثّرًا في ذلك بعوامل محليّة وعربيّة ودوليّة.
ــــ نشأت الحركة الصهيونيّة في تونس في أوساط البورجوازيّين اليهود. ثم حاولتْ كسبَ شرائح من الفئات الاجتماعيّة الدنيا.
- تأثّر نشاطُ الحركة الصهيونيّة بالتناقضات التي شقّت تيّاراتِها المتعدّدة. وتجدر الإشارة إلى أنّ العلاقات بين اليهود الأوروبيين واليهود التوانسة والحركة الصهيونية، والعلاقات بين بقيّة السكّان واليهود، خضع وتأثر بالوضع الاجتماعيّ والطبقيّ. "فلقد عاشت اليهوديّة ليس على الرغم من التاريخ بل في صلب التاريخ."[13]
- نشأتْ في تونس حركةُ مقاومةٍ متعدّدة الأوجه للصهيونيّة مبكّرًا. ثمّ سرعان ما تنامى حجمُها، وتوسّع تأثيرُها، لتشمل فئاتٍ واسعة مع تنامي الوعي الوطنيّ في تونس والوطن العربي بمخاطر الصهيونية كحركة استعماريّة عنصريّة مترابطة مع المشاريع الإمبرياليّة.
- كشف المشروعُ الصهيونيّ في فلسطين عن ترابط النضالات في الوطن العربيّ. كما كشف عن الفئات والشرائح الاجتماعية التي تقف مع مشروع التحرر، والفئات والقوى التي ترتبط مصالحها بقوى الاضطهاد والاستعمار.
تونس
[1] ــــ [8] الهادي التيمومي، النشاط الصهيونيّ في تونس بين 1897 و 1948 (تونس: التعاضديّة العمّاليّة للطباعة والنشر، ط 1، 1982)، ص 27، 28، 115، 49، 40، 39، 33، 31.
[9] الشيباني بن بالغيث، بحوث ودراسات في تاريخ تونس المعاصرة (صفاقس: مكتبة علاء الدين، 2003)، ص 117 ــــ 154.
[10] منير السعيداني، "الشيخ الفاضل بن عاشور مناضلًا نقابيًّا،" جريدة الشعب، العدد 850، 28 جانفي 2006.
[11] ــــ [12] الهادي التيمومي، مصدر سابق.
[13] كارل ماركس، المسألة اليهوديّة، ترجمة محمد عيتاني (بيروت: مكتبة المعارف، 1956)، ص56.
ماركسي من تونس.