تشكّل أغلبُ وسائل الإعلام في الولايات المتّحدة الأميركيّة منصّةَ ترويجٍ للبروباغندا الإسرائيليّة، وماكينةً لتشويه صورة الفلسطينيّ الرازح تحت الاحتلال. ووجهةُ النظر الصهيونيّة، هناك، هي الأقوى بسبب سطوة الحركة الصهيونيّة على الإعلام الأميركيّ؛ ما يشكّل عائقًا أمام أيّ وسيلةٍ إعلاميّةٍ تتبنّى رؤيةً متضامنةً مع الحقوق الفلسطينيّة. إلّا أنّ ذلك لم يحُلْ دون وجود محاولاتٍ مبكّرة لتأسيس إعلامٍ داعمٍ لفلسطين من قِبَل أبناء الجالية الفلسطينيّة.
المحاولات المبكّرة
يعود الوجودُ الفلسطينيُّ في الولايات المتّحدة إلى مطلع القرن المنصرم، حين هاجر العديدُ من العوائل المسيحيّة من الجنوب السوريّ خوفًا من "السفربرلك" فترةَ العثمانيين.[1]وتزايدتْ موجاتُ الهجرة بعد النكبة.
ثم زاد الوجودُ الفلسطينيّ، مرةً أخرى، في ستينيّات القرن الماضي، مع فتح الولايات المتّحدة بابَ الهجرة. وكانت الهجراتُ، في مجملها، من نصيب رجالٍ وشبّانٍ غايتُهم كسبُ الثروة والعودةُ بها إلى البلاد.
في أوائل الثمانينيّات، سافر فلسطينيون كثر إلى الولايات المتحدة بهدف تحصيل العلم من جامعات دوليّة. وفي الفترة ذاتها بدأتْ تظهر مجلّاتٌ وصحفٌ عربيّة تتناول الشأنَ الفلسطينيّ، وبرزت الحاجةُ إلى منصّةٍ تخاطب الرأيَ العامّ الأميركيّ. لكنّ تلك المجلّات انتشرتْ على نطاق ضيّق لم يتخطَّ أحيانًا سُورَ الحرم الجامعيّ.
من أبرز الدوريّات التي صدرتْ في تلك المرحلة مجلّة The Road to Palestine (الطريق إلى فلسطين)، وهي مجلّة باللغة العربيّة صدرتْ سنة 1981عن الجمعيّة الإسلاميّة من أجل فلسطين (Islamic Association for Palestine). وصدرتْ كذلك مجلّة الإسلام وفلسطين، وهي أيضًا باللغة العربيّة، خلال الانتفاضة الأولى في نهاية العام 1988، وتوقّفتْ عن الصدور سنة 1991 بعد نشر أربعين عددًا منها. وقد كانت هاتان المجلّتان موّجهتيْن بشكلٍ خاصّ إلى الجالية الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة، من دون أن تضعا في الحسبان الجمهورَ الأمريكيّ.[2]
سنة 1992 صدر أوّل عدد من مجلة Inquiry باللغة الإنجليزيّة، عن "اللجنة الإسلاميّة لفلسطين" (Islamic Committee for Palestine). إلّا أنّها اضطرّت إلى التوقّف عن الصدور سنة 1994 بعد تسعة أعداد فقط.[3]
في الحقبة الزمنيّة تلك، لم تكن الشبكةُ العنكبوتيّة قد بسطتْ سيطرتَها على حياة الناس اليوميّة. ولذلك، لم تُفلح تلك المجلّاتُ والدوريّات في أنْ تبْلغ عددًا كبيرًا من القرّاء. ويعود ذلك، جزئيًّا، إلى محدوديّة تمويل تلك المجلّات والعاملين فيها.
عصر الإعلام الجديد
حديثًا، أصبحتْ وسائلُ التواصل الاجتماعيّ والمواقعُ الإلكترونيّة الإخباريّة الوسيلةَ الأبرزَ بين يدي الجالية الفلسطينيّة ومناصري القضيّة من أجل مخاطبة الجمهور الأميركيّ ومجابهةِ الإعلام السائد. مثالُ ذلك: موقع Palestine Chronicle،الذي تأسّس سنة 1999 على يد الفلسطينيّ رمزي بارود؛ وموقع Mondoweiss، الذي أسّسه الأميركيّ فيليب وايز، وهو يهوديّ يُصنِّف نفسَه معاديًا للصهيونيّة.
Palestine Chronicle يحرص على نقل أحداث الأراضي المحتلّة
ويعمد متابعو أخبار الشأن الفلسطينيّ إلى زيارة هذيْن الموقعَيْن لِما يتحلَّيان به من مصداقيّة ودقّة في نقل الأخبار. لكنْ، على عكس الموقع الأوّل، فإنّ Mondoweiss يولي الوضعَ الفلسطينيّ في الولايات المتّحدة اهتمامًا أكبر، خصوصًا القرارات الأميركيّة ذات التأثير في الساحة الفلسطينيّة. وأما Palestine Chronicle فيحرص على نقل أحداث الأراضي المحتلّة، ومتابعة انتهاكات جنود الاحتلال ورصد تأثيراتها في جوانب الحياة الفلسطينيّة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وإنسانيًّا.
يضاف، إلى ذلك، موقع The Electronic Intifada (الانتفاضة الإلكترونيّة)، الذي كان أحدَ أبرز مؤسّسيه الفلسطينيُّ علي أبو نعمة، بالتعاون مع ثلّة حقوقيين أميركيين. ويُعتبر هذا الموقع من أكثر المنصّات الفلسطينيّة الناطقة بالإنجليزيّة نجاحًا وانتشارًا في الوسط الأميركيّ. وقد اختصّ في نقل الصورة الإنسانيّة للفلسطينيّ من خلال تصوير واقعه الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، وتفاصيل حياته اليوميّة، وما يتخلّلها من مآسٍ وصعوبات بسبب الاحتلال الإسرائيليّ.
ولكنْ، على الرغم من الجهد الجبّار الذي بذلته وتبذله تلك المواقع في نقل صورة حقيقيّة للواقع الفلسطينيّ، فإنّ ملفّ اللاجئين الفلسطينيين في مخيّمات الشتات يبقى هامشيًّا لدى أغلبها. فعدا عن مناسبة ذكرى النكبة، تكاد تخلو تلك المواقع من تقارير ترصد حياةَ اللاجئين، ووجهات نظرهم، وأوجاعهم. وأسباب ذلك عديدة، أبرزُها: غيابُ صلةِ وصلٍ بين مخيّمات الشتات وتلك المواقع الإلكترونيّة، وقلّةُ الصحفيين الفلسطينيين الناطقين بغير اللغة العربيّة في تلك المخيّمات.
كما يُلاحظ أنّ تلك المواقع تتجنّب، عادةً، الخوضَ في أحقّيّة الأفعال الفلسطينيّة المقاومة (من عمليّات استشهاديّة، وعمليّاتِ طعن، وقصفٍ للمستوطنات، وغير ذلك) ردًّا على الإجرام الصهيونيّ. ولعلّ ذلك التجنّب يعود إلى خشية تلك المواقع أن توضَعَ في مرمى نيران الحركات الصهيونيّة، فتتعرّضَ لاتهاماتٍ من قبيل "دعم الإرهاب" و"معاداة الساميّة."
الإعلام الأميركي: بين فلسطين و"إسرائيل"
في نهاية العام 2018، نشر مركزُ الأبحاث الكنديّ Labs 416 دراسةً لتقويم موقف الإعلام في الولايات المتّحدة الأميركيّة من "الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ،" وذلك عن طريق تحليل الأخبار الواردة عن فلسطين والكيان الإسرائيليّ في خمسٍ من أكثر الصحف الأميركيّة تأثيرًا في الرأي العامّ على مدى خمسين سنة (1967 – 2017).
وقد خلص البحث إلى أنّ عناوين الصحف كانت تتمحور حول "إسرائيل" أربعةَ أضعاف تمحورها حول فلسطين؛ وأنّ العناوين التي تمحوَرتْ حول فلسطين كانت بالمجمل سلبيّة، في حين أنّ باقي العناوين كانت تروِّج للرواية الإسرائيليّة.[4]
نتائج الدراسة البحثيّة قد تصدم البعض،لكنّ المثل القائل "مَن يدفع للزمّار يختار اللحن" ينطبق على عالم الإعلام؛ فمن يمتلك رأسَ المال يحدّد سياساتِ وسيلة الإعلام المدعومة، ويسهم في تشكيل الرأي العامّ في وسطٍ ما.لكنّ الصورة ليست سوداويّة بشكلٍ مطلق.
فسابقًا، لم يتمكّن الفلسطينيّون من إطلاق قناة إذاعيّة أو تلفزيونيّة موجّهةٍ إلى الرأي العام الأميركيّ، وذلك لأسباب كثيرة، أبرزُها أنّهم لم يكونوا قادرين على فهم تركيبة المجتمع الأميركيّ من أجل مخاطبته. أمّا الآن فقد أصبح هناك جيلٌ كاملٌ من الفلسطينيين الذين خُلقوا ونشأوا في الولايات المتّحدة، وهم قادرون على فهم المجتمع المحيط بهم، واختيارِ الطريقة الأنسب لمخاطبتهم.وقد مهّدتْ وسائلُ التواصل الاجتماعيّة والمواقعُ الالكترونيّة، إضافةً إلى بعض الفضائيّات العربيّة التي تبثّ باللغة الإنجليزيّة، الطريقَ أمام إعلامٍ فلسطينيٍّ يخاطب الرأيَ العامَّ الأمريكيّ.
غير أنّ المجال الإعلاميّ الأمريكيّ أرضٌ وعرةٌ بالنسبة إلى الفلسطينيين، وعليهم التأنّي في السير فيها حتى لا تصنَّفَ الوسائلُ الإعلاميّة الفلسطينيّة "معاديةً للساميّة" مثلًا - وهو سلاحٌ قويّ يحاول اللوبي الصهيونيّ إسقاطَ الفلسطينيين في شراكه.
الولايات المتحدة
[2]مقابلة أجريتها من أجل هذا المقال مع الدكتور سامي العريان، أحدِ مؤسِّسي "اللجنة الإسلاميّة لفلسطين."
[3]من المقابلة مع د. العريان.