(أجراه: بشّار اللقّيس)
أجرت الآداب حوارًا مع الأستاذ سامر غدّار، وهو مدير استثمار وخبير ماليّ متخصّص في الاسواق الماليّة. له مقالات ومقابلات تلفزيونيّة عدة، عن سياسات المصارف المركزيّة واستقرار أسعار الصرف في الأسواق الناشئة.
***
* من أيّ زاويةٍ تستقرئ الأزمةَ اللبنانيّة، أستاذ سامر؟
- مشكلة كلّ الاقتصاديين في العالم أنّهم لا يحْكون إلّا لغةَ الأرقام، في الوقت الذي نَشْهد فيه حوارًا جديدًا بين الاقتصاديين غير المحافظين (Heterodox economists) والاقتصاديين الكلاسيكيين عن معنى الاقتصاد، وعن جدوى أن يتكلّم الاقتصاديون في الأرقام حين يكون الاقتصادُ هو حياةَ الناس! كلُّ الأرقام التي تُذكَر لا تساوي، في الحقيقة، شيئًا إذا ما لم تنعكسْ على تفاصيل حياة الناس اليوميّة ونشاطِهم الاقتصاديّ.
والحقّ أنّ النقد الذي نقدّمه، هنا، للتيّار الكلاسيكيّ في الاقتصاد، قد يجد مكانَه المناسبَ في لبنان اليوم. وبكلامٍ آخر، فإنّ التفكير الاقتصاديّ في لبنان لا زال ينحو منحى الاتجاه الكلاسيكيّ ذي المنحى النيوليبراليّ الضيّق (عرض، وطلب، وإيداع، واستثمار، وميزان مدفوعات، وناتج قوميّ،...)، وكلُّها أمورٌ تُقرأ من خلال الأرقام. أمّا الاقتصاد الحقيقيّ فهو ما تُمْكن قراءتُه من خلال الواقع وتحوّلاته، ومعيشةِ الناس ومتغيّراتِها.
لذا، فإنّ ما سأتقدّمُ بها هنا يمكن اعتبارُه إجراءاتٍ خارج المعيار أو المألوف (out of the norm)، وبعضُها يطول أصحابَ المصارف.
ثمّة ما لا يُحكى عنه من أسبابِ ما وصلنا إلي في لبنان، مثل العقوبات الأميركيّة المفروضةِ عليه. فهذه العقوبات، التي طاولتْ بعضَ المُودِعين، وضيّقت الخناقَ على البنوك، بل استهدفتْ شريحةً لبنانيّةً بأسرها أيضًا، خلقتْ من حيث لم تدرِ شبكةً ماليّةً بديلة؛ وهو ما جعل حجمَ الكتلة النقديّة من الدولار غيرَ معلوم بالتحديد. في تقديري أنّ هناك الكثيرَ من الدولارات بين أيدي الناس، بل من الذهب واليورو أيضًا. ذلك لأنّ تشديدَ المصرف المركزيّ على الحوالات الماليّة في السنوات الخمس أو الستّ الأخيرة (أيْ قبل الأزمة الحاليّة) أفضى إلى احتفاظ الناس بمبالغَ يدّخرونها، أو يشترون الأراضي بها، أو يمارسون غيرَ ذلك من الأنشطة الاستثماريّة أو الادّخاريّة المختلفة. هذا الأمر عزّز عمليّةَ التدوير النقديّ في لبنان، وأدّى إلى نشوء نوعٍ من "الاقتصاد البديل" في مناطقَ محدّدة. وهذا ما جعل الأزمةَ اليوم في الجنوب، على سبيل المثال، أقلَّ وطأةً من المشكلة في أماكن أخرى.
مسألة أخرى لا بدّ من لحظها: لقد سمع الناسُ الكثيرَ من المحلّلين عبر الشاشات يتحدّثون عن haircut أو "قصّ شعر" الودائع. هذا التعبير غيرُ مفيدٍ على الإطلاق في السياق اللبنانيّ، وقد أطلقه أحدُهم (أتحفّظ عن ذكر اسمه) من دون أن يدري مفاعيلَه. والحقيقة أنّ هذا الإجراء لا علاقةَ له بالودائع اللبنانيّة في المصارف؛ بل هو إجراءٌ يتمّ على سندات الدَّيْن اللبنانيّة في حال العجز عن السداد، أو طلب الدولة إعادة الجدولة. لكنّ ما حصل أنّه حين سمع الناسُ بـ "قطع رأس" الودائع، هرعوا إلى المصارف لسحب ودائعهم نقدًا، وكانت الحصيلة أنهم سحبوا 3 مليارات دولار في أقلّ من ثلاثة اشهر!
* كيف تشرح الأزمةَ الاقتصاديّةَ الراهنة بعد 17 تشرين بلغةٍ بسيطةٍ يفهمها الناسُ العاديّون؟
- للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من التوقّف أوّلًا عند الوضع الاقتصاديّ اليوم. في موضوع النقد مثلًا، نذكر أنّ قيمة الناتج المحلّيّ الإجماليّ للاقتصاد اللبنانيّ حوالي 50 مليار دولار. للكتلة النقديّة، ومن ضمنها الأوراقُ النقديّة، قدرةٌ على الدوران بين الناس 5 إلى 7 مرّات (وهو ما يُعرف بـ "المضاعف النقديّ").[1]وهذا يعني أنّ هناك كتلةً نقديّةً قيمتُها 7 مليار ونصفُ المليار من الدولارات، أو ما يعادلها بالليرة اللبنانيّة تقريبًا، وتشمل الحساباتِ الجارية.
حين هرع بعضُ الناس إلى سحب كامل ودائعهم من البنوك (التي لا تملك الدولارَ الورقيّ بل "الدولار المعتمديّ")، وخبّأوه في البيوت، صارت هذه البنوكُ عاجزةً عن تلبية حاجة السوق إلى الدولار الورقيّ، الذي أصبح بحكم الواقع خارج التداول. هنا اختلط على الناس الدولارُ النقديُّ بالدولار الودائعيّ (أو الرقميّ/ المعتمديّ – نسبةً إلى الاعتماد المستنديّ). الدولار المعتمديّ موجودٌ بما يكفي لتأمين احتياجات الاستيراد الضروريّة. لكنّ الناس، بسبب هلعهم، اعتبروا أنّ الدولار النقديّ هو الوديعةُ نفسُها؛ أيْ إنّهم فقدوا الثقةَ بوجود ودائعهم أساسًا ما لم يروْها. وهذا الهلع، في الحقيقة، يعمل ككرة الثلج: يتدحرج، ويتراكم، بسرعةٍ وبقوّة، ولا إمكانيّةَ لوضع أيّ حدٍّ له. وهو يضع المصارفَ في حالة عجزٍ عن تلبية طلبات المُودِعين لأنّ القسمَ الأكبر من الودائع جرى استثمارُه في سندات الدَّيْن الحكوميّة أو القروض المصرفيّة.
الحالة الوحيدة التي يمكن ضبطُ السوق بها هي إنْ نُقْنع كلَّ الناس باتخاذ سلوكٍ اقتصاديٍّ محدّد؛ كأن يمتنعوا عن طلب الدولار (حالةNash equilibrium) - -[2] وهي حالة غير متحقّقة إنْ لم تكن مستحيلةً.
إنّ حرصَ الناس على سحب مالهم من السوق وحفظِه في منازلهم، في الوقت الذي يشتد فيه الطلبُ على الدولار وتعجز البنوكُ عن تلبية حاجة السوق: كلُّ ذلك عواملُ ستفضي إلى انفلات الأمور من عقالها ما لم نخْطُ خطواتٍ جادّةً على مستوى سياسة الاستقرار النقديّ. وهذا يتطلّب مصداقيّةً في تعاطي القطاع المصرفيّ مع الناس، ومصداقيّةً في السياسات النقديّة للدولة. وهو ما لا يمكن تحقيقُه من دون حكومة.
* ما معنى أن تحتفظ الناسُ بأموالها في البيوت؟ وما تأثيرُ ذلك في الاقتصاد؟
- عند الأزمات، يعود النقدُ إلى لعب وظائفه الأساسيّة، ألا وهي: حفظُ الثروة، والقدرةُ على التداول، وتحقيقُ الاستقرار.
لكنّ الليرة اللبنانيّة لم تعد قادرةً منذ سنواتٍ على حفظ الثروة؛ فانتقل الناسُ، بشكلٍ آليّ، إلى التداول بالدولار، لاعتقادهم أنّه - خلافًا لليرة - يحافظ على الثروة أو القيمة الشرائيّة.
أمّا بالنسبة إلى الوظيفة الثانية، وهي التداول، فقد كانت الليرةُ قادرةً على القيام بها ولو بشكل جزئيّ، لأنّ الناس كانوا قادرين على شراء البضائع بها، ولأنّ ثمّة بضائعَ بالليرة اللبنانيّة في الخارج غير مستوردة.
أمّا بالنسبة إلى الوظيفة الثالثة، أيْ تحقيق الاستقرار، فإنّ خوفَ الناس يفاقم الأزمة. فالدولار، على سبيل المثال، تحوّلتْ قيمتُه اليوم من القيمة الشرائيّة إلى "القيمة الذاتيّة"؛ أيْ إنّه صار كالذهب، ومن شأنه حفظُ الثروة. لذا يمكن أن نلتمسَ للناس عذرًا في حرصهم على عدم التفريط بالدولار. كما أنّ تعثّرَ التعاطي مع البنوك، من خلال عدم صرف الشيكات أو عدم الحصول على المال من الصرّاف الآليّ نفسِه، يحوّل الاقتصادَ من اقتصادٍ مصرفيّ إلى اقتصادٍ نقديّ يتعامل بالعملة النقديّة بشكلٍ تدريجيّ. هذه كلّها إجراءاتٌ وقتيّة، والناس ستتأقلم مع هذه الأزمة، إذ إنّ نمط حياة الطبقات الوسطى والفقيرة سيتغيّر.
لكنّما حصل يفيد بأنّ القيمةَ السعريّة لإنتاجنا الداخليّ، وخصوصًا المنتَجات الزراعيّة، انخفضتْ لأنّ قيمةَ العملة الورقيّة انخفضتْ، ويفيد بأنّنا – من ثمّ – أمام زيادةٍ في القدرة التنافسيّة للمنتوج الوطنيّ لم تكن موجودةً في السابق.غير أنّ الانكماشَ الاقتصاديّ المحدود هنا غيرُ سيّئ كلّيًّا لأنه يعني أنّنا "نَهْضم" المرضَ. ولكنّ العكس صحيح في حال استفحال الأزمة. نحن إزاء عوارضَ شبيهةٍ بعوارض ارتفاع حرارة المريض، حيث تَفرض الحرارةُ – بذاتها – على الجسم نشاطًا بيولوجيًّا مختلفًا. لذا، فلا إشكالَ في "الانكماش" ما دامت الدولةُ قادرةً على تسديد رواتب موظّفيها ومستحقّاتهم من دون التسبّب في زيادة التضخّم.
لكنْ تبقى مسألة حجم الكتلة النقديّة بالعملات الصعبة، أو بالدولار تحديدًا. وهذا أمر مقلق في ما خصّ استيرادَ الموادّ الأوّليّة بشكل خاصّ.
* نسمع في الفترة الأخيرة عن التقويم (التصنيف) الائتمانيّ. حبّذا لو تشرح للجمهور معنى هذا.
- التقويم أو التصنيف الائتمانيّ هو تقويمٌ تقدّمه مؤسّساتٌ خاصّةٌ تبغي الربحَ. درجةُ التقويم هذه هي بمثابة تقديرٍ لقدرة الاقتصاد على السداد عند الاستدانة، وذلك بناءً على قراءة نِسَب الدَّيْن مقارنةً بحجم الاقتصاد أو الناتجِ المحلّيّ. ومن النِّسَب المستعملة لتقدير الدرجة الائتمانيّة: الضرائبُ نسبةً إلى خدمات الدَّيْن العامّ، ونِسَب احتياطيّ المصرف المركزيّ من العملات الصعبة. وبموجبها تعطي تلك المؤسّساتُ اقتصادَ البلد "علاماتٍ،" وذلك بعد دراسة وضعه الاقتصاديّ، وتتوزّع هذه العلاماتُ بين "راسب" و"ناجح" و"سوبر ناجح."
تكمن أهميّةُ التصنيف في منحه المستثمِرَ في السندات، الصادرةِ عن الدولة، الثقةَ. مثلًا، عندما تبيع الدولةُ سنداتٍ، فلا بدّ من أن تَخضع هذه الأخيرةُ إلى معايير. وقبل ذلك، فإنّ بروتوكولًا دوليًّا سيكون حاكمًا على مَن يريد الاستثمار. مثلًا، إذا أردنا بيعَ سنداتنا إلى صندوق الاستثمار النروجيّ، فسيقول فريقُ هذا الصندوق إنّه لا يستثمر في أيّ سندٍ منخفضِ التصنيف. لذا فإنّ الدول تطمع في أن تحظى بعلامةٍ عاليةٍ من قِبل شركات التصنيف الائتمانيّ الدوليّة؛ إذ كلّما ارتفعتْ علامةُ التصنيف صارت الدولةُ أكثرَ جاذبيّةً للمستثمرين.
المشكلة في مثل هذه التقارير، أو التقويمات، أنّها تأتي متأخّرةً دائمًا. فهي لا تقول لك ما ينبغي فعلُه، بل ما حصل من قبل. ومن ثمّ، فإنّنا دائمًا نبني تقويمَنا على ما كان، لا على ما ينبغي أن يكون. ولمّا كانت التقويماتُ في حالةٍ سالبةٍ دائمًا، فإنّنا على الدوام نتعثّر في النهوض!
بكلام آخر: عندما تَعْرض البنوكُ سنداتِها للبيع، تطلب تقويمًا من المؤسّسات الدوليّة. وهذه قوّمتْ أداءَ البنوك اللبنانيّة، ووضْعَ الاقتصاد اللبنانيّ المرتبطِ بها، بشكلٍ سالبٍ؛ ما يؤدّي إلى رفع الفائدة على الدَّيْن اللبنانيّ. وفي حين تتّجه الفوائدُ في العالم إلى الصفر، كحالة دولٍ أوروبيّةٍ عدّة (ومنها ألمانيا)، يَدفع لبنانُ فائدةً على الدولار تكاد تقارب 20% في السنة على إصدارات العشر سنوات. وهذه هي أعلى نسبةِ فائدةٍ على دَيْنٍ بالدولار في العالم - - وذلك بسبب التقويم الذي تجريه تلك المؤسّسات، مع ما يرافقه من تدهورٍ متسارعٍ للاقتصاد.
* دار نقاش كبير في الفترة المنصرمة حول الذهب، وبعضهم زعم أنّ الذهب مرهونٌ في الخارج. ماذا جرى في هذا الخصوص؟ وكيف تفسّر غيابَ الذهب اللبنانيّ في المصرف المركزيّ؟
- الذهب غير مرهون، لكنّه مودَع منذ الحرب الأهليّة اللبنانيّة في الولايات المتّحدة. نحن أصدرنا سنداتِ اليوروبوندز (وهي سنداتٌ بالدولار الأمريكيّ)، وقد صدرتْ في لندن بقوانينِ نيويورك.
في الحقيقة، ثمّة إمكانيّة لترك هذه التقويمات جانبًا، لكنّنا مُبتلون بطاقمٍ سياسيٍّ مطيعٍ للآداب الرأسماليّة الكلاسيكيّة التي حظيتْ بنقاشٍ كبيرٍ في الأوساط الأكاديميّة الغربيّة. اليوم، هل مقولةُ "دعه يعمل دعه يمرّ" هي الجوابُ الصحيح لسؤالنا الاقتصاديّ؟ هل مقولة "الدولة تاجر فاشل" سليمة؟ هذان السؤالان هما من جملة أسئلةٍ يردّدها مرشَّحون سياسيّون أمريكيّون، مثل بيرني سانديرز وإليزابيث وارن، صاروا يتحدّثون كثيرًا بلغة اليسار. أمّا طاقمُنا السياسيّ اللبنانيّ فما زال يتغنّى بأدبيّات الاقتصاد الرأسماليّ الكلاسيكيّ الذي مرّ عليه الزمن بعد أن كان رائجًا فترةَ السبعينيّات والثمانينيّات.
للإشكاليّة في مسألة الذهب وجهٌ قانونيّ. في القانون الدوليّ، يتعذّر رفعُ دعوى على دولة لأنّ للدول شخصيّةً اعتباريّةً، إلّا إذا كان هناك قانونٌ يخوِّلك ذلك. فمثلًا ذوو ضحايا 11 سبتمبر لم يستطيعوا رفعَ دعوى على السعوديّة، إلى أن أقرّ الكونغرس قانونًا يسمح بذلك. وفي مثل هذه الحالات، غالبًا ما يحكم القاضي بتدفيع البلد المدَّعى عليه بدلَ أتعاب الدعوى والمستتبَعاتِ الماليّة الخاصّة بالحكم. وإذا لم يمتثل البلدُ، يُدفع بدل الدعوى والحكم من موجودات هذا البلد في الولايات المتحدة.
المشكلة هي في هذه النقطة بالتحديد. نحن رهَنَّا البلدَ، بشكلٍ أو بآخر، من خلال سندات الدَّيْن (اليوروبوندز) عبر التنازل عن "المناعة الدوليّة" (Sovereign Immunity)، ولم نقم بأيّ خطوةٍ من أجل استرجاع ذهبنا من الولايات المتحدة! التنازل عن المناعة الدوليّة بإصدارات اليوروبوندز جعل الذهبَ اللبنانيّ قابلًا للمصادرة من محاكم نيويورك إنْ أقدم الدائنون على رفع الدعاوى على لبنان (في حال عجزه عن السداد) وربحوها.
* كيف السبيل إلى الخروج من الأزمة الراهنة؟ وما هي بدائلُك المقترحة؟
- هناك طرقٌ مختلفة تمارسها المصارفُ المركزيّةُ المعنيّة بالحفاظ على استقرار النقد والأسعار، منها مخاطبةُ الجمهور. في الحالة اللبنانيّة، يخاطِب المصرفُ المركزيّ، بشخص رئيسه، الناسَ بشكلٍ سيّئ. وهو لا يمتلك سياساتٍ واضحةً، ولا يتوافق مع "جمعيّة المصارف" - - ما يزيد من حالة الضياع.
في الإجراءات الكبرى، ثمّة الكثيرُ ممّا يمكن فعلُه. الإجراء الأول: أن تقوم وزارتا الاقتصاد والماليّة بالتنسيق مع مصرف لبنان، لتخرج جميعُها مثلًا بقرارٍ يَمنع التعاملَ بغير الليرة اللبنانيّة، ويمنع تسعيرَ البضائع بغيرها. وبهذا الإجراء، سيُجبَر الناسُ على صرف الدولارات التي يحوزونها أو يخبّئونها في منازلهم.
الإجراءُ الثاني: أن يُنشئ المصرفُ المركزيّ "غرفةَ عمليّاتٍ مشتركة" تجمعه إلى المصارف والصرّافين، ويجري من خلالها تأطيرُ كمّيّة الدولار المصروف في السوق. هذه الطريقة تُضعف سوقَ الدولار السوداء.
الإجراء الثالث: تغييرُ "قانون النقد والتسليف" الذي مضى عليه ما يزيد عن ستّة عقود. كذلك تنبغي إعادةُ دراسة كلّ التعاميم السابقة لتمييز صالحها من طالحها.
الإجراء الرابع: إعادةُ النظر في الهندسة الماليّة التي قام بها مصرفُ لبنان، بسبب افتقارها إلى الشروط المنطقيّة القانونيّة. فمصرفُ لبنان قرّر العامَ الماضي، وبشكلٍ غير مفهوم، إنقاذَ بعض البنوك الكبيرة، كي يساعدَها في إعادة الرسملة، فأعطاها 6 مليارات دولار من دون أيّ مقابل! غير أنّ هذه الأموال أموالٌ عامّةٌ، ولا يجوز التصرّفُ بها. وإذا كان هناك خللٌ في "قانون النقد والتسليف،" فتجب معالجتُه. ولبنان اليوم مدعوّ إلى النظر في تجاربَ أخرى مرّت في السنوات القليلة المنصرمة، منها التجربةُ الأمريكيّة سنة 2009 عند استفحال أزمة الرهون العقاريّة وانهيار عددٍ من المصارف. يومها، قام البنكُ المركزيّ في الولايات المتحدة بإقراض البنوك 700 مليار دولار، لكنْ ليس من دون مقابل، بل أخذت الدولةُ "أسهمَ أفضليّةٍ" من البنوك التي أقرضتْها. وأسهمُ الأفضليّة تعني أنّه لا يحقّ للمصرف أخذُ أيّ أرباحٍ قبل أنْ يردَّ إلى الدولة الديْنَ المستوفَى عليه. وأمريكا، بهذه الطريقة، خرجتْ رابحةً من الأزمة. لذا نحن مدعوّون إلى أخذ إجراءاتٍ مماثلة: فنقول للبنوك إنّنا نريد المليارات الستة من الدولارات التي اقترضتموها؛ وإذا كان المبلغُ غيرَ متوفّرٍ لديكم، فعلينا اقتطاعُ ملْكيّة معيّنة بهذا المبلغ من رأسمال البنوك. والمصرف العاجز عن فعل ذلك يُمهَل فترةَ سماحٍ كي يردَّ المال، وإلّا...
وثمّة سلطة يجب أن تمارسَها الدولةُ من داخل المجالس الإداريّة للمصارف، ولا يجوز التهاونُ بهذه المسألة على الإطلاق.
المسألة الأخرى هي أنّ على الدولة أن تدمج بعضَ البنوك المفلِسة، طوعًا أو كرهًا، بحيث نستطيع تقليصَ عدد البنوك، بما يخفِّف من قدرتها السياسيّة. كلُّ مصرف، كما نعلم، يمثّل عائلةً سياسيّةً ما. لذا فإنّ التخفيف من عدد البنوك سيفضي إلى التخفيف من الأعباء السياسيّة لهذه العائلات داخليًّا وعلى المستوى الوطنيّ العامّ. ويجب أن يكون في معلوم البنوك أنّنا إذا انهرنا ماليًّا فالكلّ سينهار، والبنوك ليست في منأى عن ذلك.
نيويورك