السلطة الفلسطينيّة، ممثّلةً في رئيسها محمود عبّاس وفريقِ "التسوية" الأمريكيّة، كانت وما تزال خطرًا داهمًا، لا على حاضرِ فلسطين فحسب، بل على المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ ومستقبلِ الشعب والقضيّةِ الوطنيّة كذلك.
هذا الفريق الفلسطينيّ المهزوم، الذي يبيع حقوقَ الشعب الوطنيّة ويدمِّر مكتسباتِه التاريخيّة، يرتكب الجرائمَ السياسيّةَ كلَّ يوم، ويعمل على فرض مشروع التصفية من خلال البوّابة الداخليّة - - بالسيطرة على المؤسّسة الفلسطينيّة وأموالِ الصندوق القوميّ الفلسطينيّ تارةً، وبقوّة التنسيق الأمنيّ مع الاحتلال وواشنطن والأنظمةِ الرجعيّة العربيّة تارةً أخرى.
وها قد انتقلنا اليوم مع "مخاتير" المرحلة إلى صورةٍ مصغّرةٍ عن النظام العربيّ الرسميّ المتهالك في أسوإ نماذجه رجعيّةً وهشاشةً: النظام الفلسطينيّ الهجين.
***
في ظلّ هذا الواقع المأساويّ، تخوض قوى المقاومة اليوم، وفي مقدّمتها الجبهةُ الشعبيّةُ لتحرير فلسطين، معركةً سياسيّةً في مواجهة عسف السلطة وتَغوُّلِ اليمين ورأسِ المال التابع. هذه الطبقة تقوم بدور المتعاون مع الاحتلال، وتستهدف الطبقاتِ الشعبيّةَ الفلسطينيّة. وكلُّ مَن تمرّد على سلطة "كرزاي فلسطين" بات يُحاصَر ويُتَّهم ويعاقَب حتى يُثْبِتَ ولاءه لسلطة الحكم الذاتيّ!
تخوض قوى المقاومة، وفي مقدّمتها الجبهةُ الشعبيّةُ، معركةً سياسيّةً في مواجهة عسف السلطة
وضمن هذا السياق، أصدرتْ حركةُ فتح قبل بضعة أيّام بيانًا تضمّن هجومًا بائسًا على الجبهة الشعبيّة. في البيان تسأل الحركة: "لمذا رفض مندوبُ الجبهة إلى اجتماعات موسكو، العامَ الماضي، التوقيع على مذكّرةٍ في أهمّ بنودها تأكيدُ الإقرار بمنظمة التحرير باعتبارها الممثِّلَ الشرعيَّ والوحيدَ للشعب الفلسطيني؟"[1]
ولكنْ ما لم يذكرْه لنا بيانُ فتح هو أنّ "وثيقة موسكو" تضمّنتْ، في الوقت ذاته، تنازلًا للعدوّ عن 78% من الأرض الفلسطينيّة المحتلّة، والاعترافَ الضمنيَّ بالاتفاقيّات الموقَّعة بين هذا العدوّ وما يُسمّى الدولةَ الفلسطينيّةَ في الضفّة وغزّة و"القدس الشرقيّة." هذه المواقف الواردة في البيان ترفضها الجبهةُ الشعبيّة بكلّ تأكيد، ومعها كلُّ قوى المقاومة الرئيسة.[2]
وفي هذا الصدد "نبشِّر" الإخوةَ في حركة فتح، خصوصًا أبو مازن، بأنّهم لن يحصلوا على هذا التوقيع ولو انتظروا ألفَ عام. فلا يحلمنَّ أبو مازن وفريقُه أنّه سيتمكّن، بالابتزاز وبمحاولة ليّ ذراع الجبهة الشعبيّة وحصارِها ماليًّا، من إجبارها على التوقيع على أيّ وثيقةٍ تفرِّط في ذرّة ترابٍ واحدةٍ من فلسطين أو في أيٍّ من حقوق شعبنا وثوابتِه الوطنيّة.
إنّ قيادةَ فتح تعْلم بالتأكيد أنّ ما يَحْكم قراراتِ الجبهةِ الشعبيّة هو موقفُ قواعدِها. ولعلّها تعلم أيضًا أنّ مؤسّساتِ الجبهة الشعبيّة وهيئاتها المركزيّة تختلف عن تلك الموجودة في مزرعة محمود عبّاس؛ فالأولى تأخد قراراتِها بشكلٍ جماعيّ وديمقراطيّ. وإنّ أمثالَ عزّام الأحمد أو ماجد فرج ورئيس "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيليّ" محمد المدني لا يمكن أن يستوعبوا هذا المنطقَ الثوريَّ الديمقراطيّ في العلاقات الداخليّة، المخالفَ لمنطق الشلّة والتبعيّة والتنسيق مع الأميركان والإسرائيليين وإماراتِ البترودولار.
ويتّهم بيانُ حركة فتح الجبهةَ الشعبيّة بأنها تتلقّى الأموالَ من "دولٍ في الإقليم." ولا تجرؤ قيادةُ فتح والسلطة على القول إنّها تعني بذلك إيران، ربّما لأنّ الأخيرة في واقع الأمر تقدِّم مساعداتٍ ماليّةً إليهما أكثرَ بما لا يقارَنُ مع ما تقدِّمه إلى الجبهة الشعبيّة. والحقيقة الأخرى هي أنّ إيران تتعامل مع السلطة على أنّها هي، لا غيرُها، الممثّلُ الرسميّ، وتفتح لها مكتبًا في طهران، وتستقبل قياداتِ فتح في سفاراتها ببيروت ودمشق وطهران.
***
لا يوجد فلسطينيٌّ يملك الحدَّ الأدنى من الوعي والمعرفة إلّا ويَعرف أنّ الكارثة التي يعيشها شعبُنا سببُها - إلى جانب العدوّ الصهيونيّ - هذه القيادةُ الفلسطينيّةُ المستسلمةُ والمهيمنة، التي عملتْ على مدار أكثر من ربع قرن على تدمير المؤسّسات الوطنيّة وكيِّ الوعي الوطنيّ ومحاصرةِ حركة المقاومة واختراقِ القوى الوطنيّة.
إنّ مشكلةَ أبي مازن ليست مع "حماس" أو "الجبهة" أو أيّ فصيلٍ بعينه داخل منظّمة التحرير أو خارجها. مشكلتُه الحقيقيّة هي مع الشعب كلّه، ومع المقاومة، ونهجِ التحرير والعودة والكفاح المسلّح. هذا هو موقفُه العلنيّ، الذي يكرّره ويُصرّ عليه. وهو يفاخر بسياسة "التنسيق الأمنيّ" مع الاحتلال، وبنهج الاستسلام الذي يسمّيه "سلامًا."[3]
عبّاس يفاخر بسياسة "التنسيق الأمنيّ" مع الاحتلال، وبنهج الاستسلام الذي يسمّيه "سلامًا"
الردّ الحقيقيّ والمباشر لا ينبغي أن يكون على الكتبة الصغار وأزلام السلطة من "سحّيجة" حركة فتح، بل بالدعوة إلى إسقاط رأس السلطة ورأسِ الفساد الذي يمِثل نهجَ التفريط.
***
الفساد جريمة. وملاحقة المقاومة جريمة. والمساهمة في حصار غزّة جريمة. والتنسيق الأمنيّ مع الاحتلال جريمة. وقد ارتكبت السلطةُ، بقيادة أبي مازن تحديدًا، جرائمَ كثيرةً في حقّ شعبنا وصلتْ إلى التورّط في الدم والقتل، واعتقالِ المناضلين والمناضلات، وتعذيبِهم، وانتهاكِ حرمة البيوت والجامعات، واعتقال قيادات المقاومة والحركة الطلابيّة.
وهذا ما حدث عشراتِ المرات منذ الانتفاضة الثانية، ليس في الوطن المحتلّ فحسب، بل في الشتات أيضًا، إذ تحوّلتْ بعضُ السفارات الفلسطينيّة إلى أماكنَ للتحريض على قيادات وطنيّةٍ فلسطينية، بل يُشتبه في تورّط بعض العاملين في إحدى السفارات في استشهاد الرفيق عمر النايف.
لذا، فإنّ على قوى المقاومة أن تحاصِرَ هذه الشلّةَ الصغيرةَ وتعزلَها من مواقعها، وأن تطرحَ برنامجًا وطنيًّا واضحًا يتمثّل في جبهةٍ وطنيّةٍ موحَّدةٍ تضمّ كلَّ قوى المقاومة. بل المرحلة اليوم تقتضي العملَ على تشكيل منظومة الحماية الوطنيّة والأمنيّة لكلّ القوى والمؤسّسات والأجسام الوطنيّة التي تعمل على مواجهة الاستعمار الصهيونيّ.
إذا أردنا توصيفَ هذه السلطة بدقّة، لقلنا إنّها الصورةُ المتجدِّدة عن المشروع القديم نفسه، الذي كان اسمُه "روابطَ القرى،" أو "الحكمَ الإداريّ الذاتيّ" الذي تُسنده أميركا والأنظمةُ الرجعيّة ومخابراتُ الاحتلال وأدواتُه. هذه السلطة هي جزءٌ لا يتجزّأ من معسكر تصفية القضيّة الوطنيّة. ولا حلّ لمشروع التصفية إلّا البديل الثوريّ الديمقراطيّ الوطنيّ، الذي يستعيد فيه الشعبُ الفلسطينيُّ صوتَه وقرارَه من أجل استكمال مشروع العودة والتحرير وإعادة بناء الإنسان والمجتمع الفلسطينيّ الحرّ المقاوم.
بلجيكا