(أدارها: سماح إدريس)
بتاريخ 28/3/2021، نظّمتْ مجلّة الآداب وحملةُ مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان ندوةً رقميّةً حواريّةً مع د. سلمان أبو ستة بعنوان "لا صلاة تحت الحِراب ولا حياة مع الذئاب." الندوة عُرضتْ مباشرةً عبر تطبيق زووم وصفحتيْ المجلّة والحملة على فيس بوك، وأدارها رئيسُ تحرير المجلّة د. سماح إدريس.
بعد الترحيب، عرّف إدريس بأبو ستّة على النحو الآتي: وُلد في بئر السبع (فلسطين) سنة 1937، وهجّرته العصاباتُ الصهيونيّةُ من أرضه سنة 1948. حصل على البكالوريوس في الهندسة المدنيّة من جامعة القاهرة سنة 1959، وعلى الدكتوراه في الاختصاص نفسه من جامعة لند سنة 1964. ألّفَ أكثر من ثلاثين بحثًا علميًّا وكتابًا في الهندسة، ونال جوائزَ عدّةً من جمعيّة المهندسين البريطانيّة. عمل بروفيسورًا في إحدى جامعات كندا. كان عضوًا مستقلًّا في المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ بين العام 1974 وحتى توقيع اتفاقيّة أوسلو المشؤومة، التي اعتبرها "أخطرَ من وعد بلفور." عضو هيئة التعاون الفلسطينيّة في جنيف، ورئيس لجنة اللاجئين والأونروا بها. انتُخب في العام 2017 رئيسًا للهيئة العامّة للمؤتمر الشعبيّ لفلسطينيّي الخارج، لكنّه استقال في ربيع العام 2020. أمضى أكثرَ من أربعين عامًا ينقّب عن معلومات تخصّ فلسطينَ قبل قيام الكيان الصهيونيّ أو بعد ذلك.
رسم د. أبو ستة خريطةً تضمّ كلّ قرى فلسطين ومدنِها، وُزِّع منها مليونا نسخة باللغتيْن العربيّة والإنجليزيّة. من مولَّفاته: 1) سجلّ النكبة 1948 (2000). 2) حقّ العودة مقدّس وقانونيّ وممكن (2001). 3) طريق العودة: دليل المدن والقرى المهجَّرة والحاليّة والأماكن المقدّسة في فلسطين (2007). 4) أطلس فلسطين 1917-1966، وهو عملٌ موسوعيّ وتوثيقيّ ضخم، استغرق نحو ربع قرن، ويتضمّن مئاتِ الوثائق المتخصّصة في القضيّة الفلسطينيّة، ومعلوماتٍ مفصّلةً عن نحو 1600 مدينة وقرية فلسطينيّة. 5) أطلس فلسطين 1871-1877 (2020)، وهو يوثّق فلسطين العربيّة قبل الغزو الصهيونيّ.
* السؤال الأول: في العام الماضي كتبتَ: "منذ ا نيسان وحتى 14 أيّار 1948 – أيْ قبل أن تعلَنَ دولةُ إسرائيل وقبل أن يغادِرَ البريطانيّون وقبل أن يَدخلَ فلسطينَ أيُّ جنديٍّ عربيٍّ لإنقاذها – احتلّت الميليشياتُ الصهيونيّة فلسطين. تهجيرُ 220 قرية (من أصل 560 قرية وبلدة فلسطينيّة سنة 1948) من قِبل تلك الميليشيات والجيش الإسرائيليّ لم يكن ليحصلَ من دون حملةٍ منظّمةٍ من المجازر والفظاعات، التي سُجل منها 156 فعليًّا..." ما هي، دكتور، السماتُ المشتركةُ لهذه المجازر التي وصفتَها بالتطهير العرقيّ؟
- شكرًا جزيلًا، أخي سماح، على هذه الدعوة الكريمة. وشكرًا أيضًا لمجلة الآداب العريقة، عِمادِ القضيّة العربيّة بوجهٍ عامّ. والشكر كذلك لحملة مقاطعة داعمي" إسرائيل" في لبنان. نحن في عصر الزووم نتحدّث كثيرًا، ولكنّ معظمَ أحاديثنا هي بالإنجليزيّة، وموجَّهةٌ إلى الغرب. وقد حان الوقت الآن لأن نخاطبَ أنفسَنا ونخاطبَ الشبابَ منّا بالذات لكي يعرف عن قضيّته، قضيّةِ العرب الأولى.
أوّلًا: بالنسبة إلى القسم الأول من عنوان هذه الندوة، "لا صلاةَ تحت الحِراب،" فقد اقتبستُه من الشيخ عبد الحميد السائح، آخرِ رئيس مجلسٍ وطنيٍّ محترم رفض الدخولَ إلى فلسطين بموجب اتفاق أوسلو، ورفض عقدَ اجتماع المجلس الوطنيّ تحت حِراب الاحتلال. أمّا بالنسبة إلى القسم الثاني، "لا حياة مع الذئاب،" فأنا أعتذر للذئاب لأنّ في بعضهم الخيرَ؛ غير أنّ ما نريد قولَه هو أنْ لا حياةَ على الإطلاق مع الوحوش، وأقصد أعداءَنا الصهاينة.
أبدأ الردّ على السؤال الذي تفضّلتَ به. كما جاء في مقدّمتك، أكثر من 560 قرية ومدينة هُجّر أهلُها في العام 1948، 220 منها أثناء الانتداب البريطانيّ الذي كان يُفترض أن يكون الفلسطينيّون تحت "حمايته" -- بل هم هُجّروا بمساعدة الجيش البريطانيّ، وبغطاءٍ بريطانيّ، في أماكنَ عدّة، مثل طبريّة وحيفا. وكان ذلك قبل إعلان "دولة إسرائيل،" وبواسطة ميليشيات الهاغانا والبالماخ.
كانت المذابح جزءًا أساسيًّا من الخطط، وكانت منظّمة. وأريد أن أدلّلَ على ذلك بدراسةٍ نُشرتْ لنا العام الماضي،[1] وحاولنا أن ندرسَ فيها توقيتَ الجريمة في كلّ قرية، ومَن هو اللواءُ المشاركُ فيها تحديدًا. كان مجموعُ الجنود الصهاينة آنذاك 120 ألفًا. وقد كشفنا حصولَ 31 عمليّة عسكريّة سنة 1948 حدثتْ فيها مجازر، بمعدّل اثنتيْن أو ثلاث في كلّ عمليّة. وهذا لا يمكن أن يحصل إلّا بترتيبٍ وتنظيمٍ مسبّقيْن. ووجدنا مطابقةً كاملةً بين كلّ هذه الحوادث. فعلى سبيل المثال، نشرنا قبل أشهر قليلة تفصيلًا كاملًا، ساعةً بساعة، عن مذبحة أبو شوشة، ووجدنا أنّ ما حصل فيها يشترك مع بقيّة المذابح في أمورٍ كثيرة، منها:
أوّلًا: معظمُ هذه المجازر حدث بعد احتلال العدوّ القريةَ، أيْ إنّه لم يكن هناك سببٌ "عسكريٌّ" لها.
ثانيًا: أنّ الصهاينة دخلوا كلَّ بيت وقتلوا مَن فيه، وكان قتلُ الأطفال يتمّ بطريقةٍ بشعة، إذ كانوا يَشقّون رؤوسَهم بالفأس، ويُجبرون الأمّهاتِ على الذهاب إلى باقي أفراد القرية كي يروين لهم ما حصل (وهذا ما حدث في قرية الدوايمة وأبو شوشة).
ثالثًا: قام الصهاينة بقتل الرجال الذين كانوا يسيرون قرب القرية، أو خارجين منها. في كلّ قرية كان يُقتل حوالي 20 على الأقلّ، ويؤخذ الباقون إلى معسكرٍ للذكور. لكنّ معسكرات الاعتقال كانت قد أُغلقتْ في ألمانيا قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات، فكيف نشأتْ في فلسطين؟ نعم لقد أنشئتْ في فلسطين معسكراتُ اعتقال، وقد رصدنا خمسةً زارها الصليبُ الأحمر، و17 معسكرًا آخر عرفناها من مقابلة الناجين.[2]
كان الذكور بين الثانية عشرة والستّين، وكانوا يؤخذون ويُجبَرون على أعمال السخرة، كحفْر الخنادق ونقلِ المنهوبات من البلاد العربيّة ودفنِ الجثث ونقلِ الذخيرة، مدّةً تتراوح بين سنةٍ وثلاث سنوات. وكان يُفرج عنهم مبكّرًا إنْ وافقوا على التهجير خارج فلسطين. وهذا كلُّه موثّقٌ ونُشر في واشنطن عام 2014.
إذًا، هذه الجرائم النكراء منظّمة. ولكنّها لم تتوقّف؛ فجزءٌ منها يتواصل الآن: مِن هدم بيوتٍ، وقتلٍ عشوائيّ، وغيرِ ذلك. حصارُ غزّة مثالٌ واضحٌ للعيان. فغزّة هو القطاع الذي لجأ إليه أهالي 274 قريةً فلسطينيّةً في جنوب فلسطين، ومَن كانوا يعيشون في 50% من مساحة فلسطين حُصروا في %1.3 من مساحة فلسطين! الحصار المفروض عليهم هو عبارةٌ عن إبادةٍ بطيئةٍ بحسب ميثاق روما، المؤسِّسِ لمحكمة الجنايات الدولية. المادّة 6 تقول إنّ الإبادة (Genocide) تشمل "إخضاعَ الجماعة عمدًا لأحوالٍ معيشيّةٍ يُقصد بها إهلاكُها الفعليُّ كلّيًّا أو جزئيًّا."[3] والمادّة 7-ج تنصّ على أنّ الإبادة تشمل "تعمُّدَ فرض أحوالٍ معيشيّة، من بينها الحرمانُ من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزءٍ من السكّان." وما يحدث في غزّة تنطبق عليه المادّة 8 التي تتحدّث عن جرائم حرب.
ولقد زاد الصهاينة نوعًا جديدًا من الإبادة، هو الإبادة التدريجيّة. فعندما بدأتْ مسيرةُ العودة الكبرى أمام خطّ الهدنة المحيط بقطاع غزّة، لم يكتفِ الصهاينةُ بقتل شبابٍ ينتمون إلى الجيل الثالث أثناء توجّههم إلى ديارهم التي هُجّروا منها وكانوا يروْنها رؤيةَ العين، بل الجديد أنّهم أصابوا 7650 في رُكبهم. واليوم، لا تجد شارعًا في غزّة إلّا وفيه أكثرُ من شابٍّ دُمّرتْ ركبتُه! وما الغرضُ من ذلك؟ الغرض هو أن يكون هؤلاء الشبابُ عالةً على مجتمعهم ويحتاجون إلى رعايته، في حين أنّ هذا المجتمع محاصَرٌ اقتصاديًّا. وهكذا يصبح عليهم أن يطالبوا برغيف الخبز أو بمجرّد العيش بدلًا من أن يطالبوا بتحرير الوطن من العدوّ الصهيونيّ.
المطلوب منّا الآن هو تسجيلُ كلّ هذه المجازر. وهذا عملٌ مستمرٌّ ولم ينتهِ، وهو كبيرٌ جدًّا. قد يقول قائل إنّ هذا التاريخ الإجراميّ السابق كلّه قد نجا من العقاب. نحن لا نعتقد ذلك، لسبب بسيط، هو أنّ الجريمة إذا تكرّرتْ طوال الوقت، فمعنى ذلك أنّها جريمة مستمرّة. وحين تُكشف في آخر المطاف، فبمقدورك أن تُرجعَها إلى مصْدرها الأوّل، فتقولَ إنّ هذا المجرم مزمنٌ وله تاريخٌ طويل، ثمّ تنطلق من آخر جريمةٍ اعترفتْ بها محكمةُ الجنايات الدوليّة، و"تشدّ الحبلَ" رجوعًا إلى العام 1948. هذا عملٌ مطلوب، ومَن يقصّر فيه فهو... لا أريد أن أستخدمَ كلماتٍ قويّة، لكنّكم تعرفون وصفَ مَن يقصِّر في واجبه الوطنيّ.
* في جامعة لندن، في شهر شباط (فبراير) الماضي، تحدّثتَ بالإنكليزيّة عن 11 حربًا ضدّ الفلسطينيّين: عسكريّة، ولإسكات أصوات ضحايا النكبة، وجغرافيّة، وتاريخيّة (لمحو ألفيْ سنة من تاريخ فلسطين في المنهج الدراسيّ الإسرائيليّ)، وآثاريّة (كتدمير آثارٍ بيزنطيّةٍ وعربيّةٍ وإسلاميّة)، وسياسيّة (كحرص الغرب على عدم إدانة جرائم العدوّ)، ودينيّة (كـ"تجنيد" الله في خدمة الاحتلال)، وتشهيريّة (كتسمية الفدائيّين "إرهابيّين")، وقانونيّة (كتجريم حركة المقاطعة العالميّة BDS)، واقتصاديّة (كقَطْع المساعدات عن الأونروا وحصار غزّة 15 سنة)، وإباديّة (كتحطيم رُكَب المتظاهرين، وتشويه المواليد الفلسطينيّين الجدد بسبب قصف غزّة وغير غزّة بالغازات السامّة). لكنّكَ تعلن في النهاية رهانَكَ على عامليْن: 1) الديموغرافيا، إذ سيزيد عددُ الفلسطينيّين إلى 18 مليونًا سنة 2030 (مقابل 6-7 مليون يهوديّ في فلسطين). 2) المثقّفون. سؤالنا مركّب: هل الديموغرافيا مضمونةٌ للمواجهة في ظلّ مؤامراتٍ يشترك فيها عربُ التطبيع وقياداتٌ فلسطينيّةٌ نافذة، ووسط الدفْع الإسرائيليّ الدائم إلى هجرة الفلسطينيّين؟ أليس من الممكن أن يتحوّلَ النموُّ الديموغرافيّ إلى عبء، بسبب الإفقار مثلًا؟ وكيف الرهانُ على "المثقّفين" وقسمٌ كبيرٌ منهم اليوم بات ذيلًا للأنظمة الرجعيّة أو منشغلًا بترقيته الوظيفيّة أو معزولًا في برجه الأكاديميّ العاجيّ؟
- بالنسبة إلى الشقّ الأوّل من السؤال، فإنّه لا توجد في تاريخ الاستعمار الاستيطانيّ حروبٌ كاملةٌ مستمرّةٌ على كلّ الأوجه كالحروب التي شُنّت علينا نحن الفلسطينيّين والعرب. والتفسير البسيط المباشر هو أنّ الفرنسيّين، مثلًا، لم يكونوا محتاجين إلى شنّ 11 حربًا على الجزائريّين، إذ كان يكفيهم أنّهم احتلّوا الجزائرَ عسكريًّا لأخذ البلاد. فلماذا، إذًا، هذا العددُ الكبيرُ والمستمرّ من الحروب الصهيونيّة ضدّنا؟ الجواب: لأنّ الصهيونيّة لا كيانٌ [محدّدٌ] لها جغرافيًّا، ولا تاريخٌ موثّق، ولا مبدأٌ لديها يتعلّق بحقوق الإنسان. الصهاينة يريدون إبادةَ الشعب من كلّ النواحي كي يقولوا إنّهم لم يتسبّبوا لأحدٍ بـ"الضرر"؛ فإنْ "لم يكن هناك قتيلٌ، فليس ثمّة جريمة!"
وردًّا على سؤالك عمّا اذا كانت الديمغرافيا ضمانةً لاسترجاع حقوقنا، فجوابي هو: قطْعًا لا. وهناك أدلّةٌ كثيرة. مثلًا بريطانيا حكمتْ 360 مليون هنديّ بخمسين ألف جنديّ بريطانيّ فقط طوال 300 سنة. العدد في حدّ ذاته ليس سببًا في أيّ نصر، بل قد يسبِّب الإفقارَ كما ذكرتَ في سؤالك، بمعنى أنّ الشعب سيكون في هذه الحال منشغلًا بتأمين خبزه اليوميّ. وهذا، بالمناسبة، ما يسعى إليه الصهاينةُ في الضفّة وغزّة: يحاولون إخضاعَ الناس بأن يجعلوهم يهتمّون ببطنهم أكثرَ من وطنهم.
جوابُنا هو ضرورةُ تجنيد الطاقات كافّةً، كفرض عينٍ لا كفاية. وأنا متفائل. فقد كان لي حظُّ التحدّث في بعض جامعات أوروبا وأميركا واليابان وغيرها، وأجدُ في النشْء الجديد صفاتٍ رائعةً جدًّا. أوّلًا، هم ذوو عقلٍ منفتح، ويسعوْن إلى العلم والمعرفة؛ وثانيًا ليست لديهم مصالحُ ماليّةٌ أو سياسيّةٌ يخافون عليها من الضياع إنْ قامت الصهيونيّةُ بالتشهير بهم. (وهاتان الصفتان مفقودتان لدى الساسة الغربيّين الحامين لـ"إسرائيل").
وهذا يوصلنا إلى الحديث عن ضرورة التعليم في المدارس الفلسطينيّة. فكثيرٌ من الشباب ما بعد أوسلو لم يروا الفدائيّين وحركةَ المقاومة، ولم يشهدوا النكبةَ طبعًا. ولذلك ثمّة رقابةٌ شديدةٌ على مناهج التعليم في البلاد العربيّة، بما فيها فلسطين (باستثناء غزّة). وأريد أن أعطي مثالًا بسيطًا. ففي سنة 2012 وَزّعتُ على جميع مدارس الأونروا [وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيّين وتشغيلهم] 710 نسخ من أطلس فلسطين 1917- 1966 [من تأليف د. أبو ستّة]، وطلبتُ من الوكالة تدريسَه، فعارضتْ في بادئ الأمر. عندها، أظهرتُ للمسؤولين قرارَ الامم المتحدة الذي بموجبه أُنشئت الوكالة،[4] فقالوا لي إنّهم يتعرّضون لضغوطٍ شديدةٍ من أميركا و"إسرائيل." أجبتهم: إنْ كنتم تخافون منهما، فاتركوا الوكالة؛ ولكنْ عليكم واجبٌ أمام الأمم المتحدة، هو واجبُ تذكير اللاجئ بالوطن الذي هُجّر منه، وبمدينته وقريته.
أنا معجبٌ بالشباب الذين يستخدمون الإعلامَ البديل (كالسوشال ميديا في كافة منصّاتها). ونحن عندما نجد مجموعةً من هؤلاء الشباب فإنّنا نزوِّدهم دائمًا بالمعلومات، بحيث يحوّلونها إلى مادّةٍ سهلةٍ ليتعلّمها الشبابُ الآخرون. لكنْ لا ننسى أبدًا أنّ التربية البيتيّة هي أهمّ شيء. وبعد ذلك على الشباب ألّا ينسوا المقاومةَ بكلّ أنواعها. يقولون إنّ هذا صعب، لكني أقول إنّ الناس تضحّي بحياتها كلَّ يوم. نحن شعبٌ قابلٌ للتضحية، لكنْ على العدوّ أن يدفعَ ثمنًا لها. وأنا أدعو الشبابَ إلى المقاومة بكلّ وسيلة، بالعقل والمنطق والفعل والقول.
أمّا ما تفضّلتَ به، أخ سماح، عن "المثقّفين" الذين يزوّرون بعضَ الأمور، فإنّي لا أسمّيهم مثقّفين. المثقف هو مَن يعلّم الحقيقة ويدرّسها. وقد عرّض إدوارد سعيد بالمثقفين المسالمين، فقال إنّهم يختارون الطريقَ الأسهل، ويريدون الوظيفةَ والمكاسب، بدلًا من القيام بواجبهم، ألا وهو الجهرُ بالحقيقة ونشرُها. هؤلاء خدمٌ، أبواقٌ، لأعدائنا. ومن حسن الحظّ أنّ ما وجدتُه في شبابنا هو أنّهم يستطيعون أن يصنِّفوا كلَّ مَن يدّعي أنّه "مثقّف" ولكنّه في الحقيقة يخدم العدوَّ، فيُسقطوه من حسابهم.
لكنْ على نشاط الشباب من أجل وطنهم أن يكون مؤطَّرًا. وللأسف فإنّ هذا الإطار غائبٌ الآن، وهو مجلسٌ وطنيٌّ يمثّل الشعبَ الفلسطينيّ تحت قيادةٍ فلسطينيّة منتخبة. هذا الإطار مهمّ جدًّا. لماذا؟ نحن الذين نتحدّث عن قضايانا نجد في كثيرٍ من الأحيان أنّ جماعاتٍ من أهلنا في أوروبا يَحْضرون مناسباتِنا، ونجد في المقابل غيابًا فلسطينيًّا رسميًّا. هذا شيء مؤلم جدًّا، ولا بدّ من حلّه. وأنا متفائل. ودليلي على ذلك أنّ الصغار، بعكس ما توهّم بن غوريون، لم ينسوْا حقَّهم. الطاقة موجودة، ولكنّ المطلوب تنظيمُها وتجميعُها وتوجيهُها في اتجاهٍ يؤدّي إلى النتيجة المطلوبة.
* محمود قديح يقول: "النضال أصبح عملًا فرديًّا، ومنظّمةُ التحرير والفصائلُ الفلسطينيّة تعمل لمصالحها الخاصّة، و18 مليونًا من الفقراء والجائعين والمقموعين الفلسطينيّين سنة 2030 لن يكون لديهم أيُّ طاقةٍ على التحرير والثورة." روحي جمعة يقول: "مقابل النموّ الديمغرافيّ الفلسطينيّ الذي تبشِّر به يا دكتور، هناك محاولاتٌ لشطب حقّ العودة بدعمٍ أمريكيّ، وللأسف فلسطينيٍّ وعربيّ، بما ينزع من أيدينا سلاحَ النموّ الديمغرافيّ." يوسف قنديل يقول إنّه ناجٍ من مجزرة الدوايمة، فهل يمكنكم أن تعطونا لمحةً عنها، ولماذا نسينا هذه المجزرة اليوم؟
- دعني أجيب من النهاية. مجزرة الدوايمة (الجمعة في 29/10/1948) هي أفظعُ المجازر التي حدثتْ في فلسطين ومن أكبرها؛ فقد وصل عددُ الشهداء فيها إلى 500. كافّة المجازر فظيعة بالتأكيد، لكنّ الدوايمة تحديدًا لا يمكن وصفُ بشاعتها: من رمي الجثث في الآبار، إلى ملاحقة الناس وقتلهم في المغاور المحيطة، إلى شقّ رؤس الأطفال بالفأس. هذه المجزرة ذُكرتْ طبعًا، ولكنْ لم يُكتب عنها الكثير. من المؤسف أنّ إعلامَنا العربيَّ في ذلك الوقت كان ضعيفًا جدًّا. مثلًا: عندما وقعتْ مذبحةُ الدوايمة في قضاء الخليل، كتب عبد الرحمن عزّام باشا برقيّةً إلى الأمم المتحدة يُبلغها عنها، غير أنّ الشخص الذي أرسل البرقيّة كتب - لسببٍ ما - أنّ المجزرة وقعتْ في الجليل (بدل الخليل). هنا اعتبر والتر إيتان، الذي كان ممثّلًا للوكالة اليهوديّة في ذلك الوقت، أنّ ما قيل "بدعةٌ من خرافات العقل الشرقيّ" (figment of oriental imagination)، وقال انْ لا قرية في الجليل اسمُها الدوايمة. وهكذا سقط الموضوعُ بسبب هذه الغلطة الإملائيّة! طبعًا "إسرائيل" كانت تعلم أخبارَ المجزرة، لأنّها نشرتْ عنها بعد حصولها بسنواتٍ كثيرة وأصبحتْ قضيّتُها معروفة.
نعود إلى موضوع الشباب. هل صحيح أنّهم عاجزون عن العمل؟ دعونا ننظر إلى التاريخ الحديث. من أين ظهرتْ حركةُ فتح؟ ألم تنبثقْ من لاجئين؟ والجبهة الشعبيّة، من أين أتت بعدها بعدّة سنوات؟ وحين انبثقتْ حركةُ حماس قبل العام 1987، هل كان يتصوّر أحد أنّها ستوجد؟ إذًا شعبُنا ولّادٌ وقادرٌ على إنجاز أمورٍ كثيرة. ومن ثمّ فلا يمكن أن يخطر في بالي أن تتوقّف الحركاتُ الوطنيّةُ في فلسطين.
* سؤالان متصلان بحقّ العودة. نسمع كثيرًا أنّ العودة "مستحيلة" لأنّ الأرض احتُلّت كلُّها ولأنّنا "ضعفاء" كفلسطينيّين وكعرب. لكنّك شدّدتَ على أنّ العودة ممكنة جغرافيًّا وديمغرافيًّا. هل يمكن، باختصار، أن تشرحَ لنا ذلك؟ وكيف يمكن تحفيزُ فلسطينيّي الشتات على التمسّك الحقيقيّ، لا اللفظيّ أو العاطفيّ فقط، بحقّ العودة؟
- حقّ العودة هو أساسُ القضيّة. كلّما سُئلتُ عن تعريفٍ لقضيّة فلسطين أجيب: "إنها قضيّةُ شعبٍ شُرِّد من أرضه بالكامل، بواسطة قوّةٍ غاشمةٍ خارجيّة، وهو مصرٌّ على العودة إلى وطنه." هذه هي القضيّة. القضيّة ليست قضيّةَ دولة، ولا كلّ هذا الكلام الفارغ.
حقّ العودة مقدّسٌ لدى كلّ فلسطينيّ. وهو حقٌّ قانونيّ بمقتضى جميع المقرَّرات الدوليّة، وبالذات القرار 194. وهو حقٌّ ممكنٌ أيضًا. عندما نتحدّث مع الغربيّين عن حقّنا المقدّس والقانونيّ في العودة، يقولون إنّ القرى مدمَّرة، وإنّ البلاد أصبحتْ مليئةً باليهود؛ ما يعني أنّنا سنُحْدث (في رأيهم) "نكبةً يهوديّةً" إنْ عُدنا! هذه الإجابة تأتيني أحيانًا من أوروبيّين متعاطفين مع القضيّة، ويؤسفني جدًّا أن أسمعَ هذه الإجابةَ من بعض العرب أيضًا، وقد سمعناها فعلًا من محمود عبّاس الذي لا يريد العودةَ إلى صفد.
على مدى سنوات قمنا بإنجاز قاعدة معلوماتٍ كبيرةٍ جدًّا عن كلّ قريةٍ فلسطينيّة، وعن مساحتها، وأهلها. ولاحقًا، بعد اتفاقية أوسلو، قمنا بدراسة هذه الأراضي: مَن يسكنها، روس أمْ أشكيناز أمْ آخرون؟ وما هي كثافتُهم، وكيفيّةُ توزيعهم؟ وقد ذُهلتُ من النتيجة التي وصلنا إليها، وهي أنّ "إسرائيل" خالية تقريبًا! ذلك أنّ 87% من اليهود يعيشون في 12% من مساحة فلسطين المحتلّة عام 48، والباقي موزّع على أماكنَ متناثرة. معظمُ أراضي اللاجئين، أيْ حوالي 270 قرية، خالٍ تمامًا من اليهود اليوم. أمّا الباقي، وهو حوالي 270 قرية أيضًا تقريبًا، ففيه "كيبوتسات" أو "موشافات" [قرًى زراعيّة]، مجموعُها يسكن فيه 1% أو 2% من الإسرائيليّين المستوطنين. ومَن يسيطر على هذه الأراضي كلّها (ما عدا المناطق السكنيّة) هو الجيشُ الإسرائيليّ. إذًا الكيبوتسات والموشافات وُضِعتْ لتكون نقاطَ حراسةٍ تمنع اللاجئين الفلسطينيّين من العودة.
أعطي هنا مثلًا. قطاع غزّة ممتلئ بأهالي عدد كبير من القرى المهجَّرة. الكثافة السكانيّة فيه 7 آلاف شخص على كلّ كيلومترٍ مربّع. مَن الذي أخذ أراضي هؤلاء؟ إنّه الكيبوتس. هذا الكيبوتس في جنوب غزّة يضمّ 7 أشخاص فقط على كلّ كيلومتر مربّع. بمعنًى آخر: يمكنك المشيُ من غزّة إلى الخليل في الضفّة الغربيّة فلا تجد أمامك إلّا عددًا قليلًا من الكيبوتسات. نحن قمنا بأكثر من ذلك: رأينا أين هم اللاجئون، وحدّدنا الطرقَ التي يمكن أن يسلكوها إنْ أرادوا العودة. لقد رسمنا "خريطةَ طريق" من المخيّم في لبنان أو الأردن أو غزّة أو الضفّة إلى قراهم أو مدنهم الأصليّة، فوجدنا أن أكثرَهم يستطيعون العودةَ إليها سيرًا على الأقدام؛ إذ إنّ أقصى مسافةٍ من أبعد نقطة في الأردن لن تزيد عن 35 كيلومترًا مربّعًا! بل قمنا بحساب عدد الباصات التي تلزمهم للعودة. وتساءلنا: إنْ وصل هؤلاء إلى قراهم، فماذا يجدون؟ وأجبْنا: سيجدون قرًى مدمّرةً، ولكنْ يوجد فيها آثار كالمقابر والكنائس أو غيرها. وقرّرْنا: المطلوب، إذًا، إعادةُ بناء هذه القرى.
لذا بدأنا برنامجًا في السنوات الماضية، يشترك فيه مَن يرغب من الطلّاب الفلسطينيّين والعرب الذين هم على أبواب التخرّج في مجال العمارة. قلنا لهم: عوضًا من أن يكون مشروعُ تخرّجكم عن شيءٍ متخيَّل، إليكم هذه القرى الفلسطينيّة، اختاروا إحداها، وأمامكم خريطتُها وعددُ سكّانها وتاريخُها وجغرافيّتُها وزراعتُها والآبارُ الموجودة فيها، فصمِّموا هذه القريةَ من جديد! والآن، نحن في السنة الخامسة من مشروعنا، ويشترك معنا 66 طالبًا، يعيدون بناءَ قرًى فلسطينيّة مختارة. ولدينا فريقٌ دوليّ من محكّمين دوليّين في لندن، يتسلّمون النتائج، ويختارون الفائزين. وعندما يعلَن عن الفريق أو الفرد الفائز، نذهب إلى أهل القرية الأصليّة، وهم يقيمون منذ عقودٍ في المخيّمات، ونقول لهم إنّ هؤلاء الشباب بنوْا لكم بلدتَكم، فما رأيكم؟ وماذا ينقصها؟ لقد قمنا بتجربة رهيبة، واستطعنا تنفيذَها بواسطة تطبيق زووم.
أهالي سحماتا مثلًا، قبل عدّة شهور، دُهشوا أنّ شبابًا من غزّة من خرّيجي العمارة أعادوا بناءَ قراهم! وعندما نتحدّث عن التطبيق العمليّ، نجد أنّ كلَّ المطلوب منّا هو 1.5 أو 2 مليون وحدة سكنيّة فقط. لدينا المهندسون، ولدينا العمّال. أمّا الكلفة فهي أقلُّ ممّا تدفعه أميركا إلى "إسرائيل" من جيْب دافع الضرائب الأميركيّ (tax payer) في عامٍ واحد! نحن نقوم بخدمة دافع الضرائب الأميركيّ هذا، إذ نقول له إنّنا نعفيكَ من دفع هذه الأموال إلى "إسرائيل."
في العام 2018 حاضرتُ في جامعة براون. كان هناك أربعون متخصّصًا في شؤون الشرق الأوسط، ومنهم يهود. عرضنا خطّةَ العودة، فلم يعترضْ أحد على الخرائط أو الأرقام. لكنْ هناك شرطٌ أساسٌ لخطّة العودة: لا يمكن الحصولُ على أيّ سلمٍ مع "إسرائيل،" ولا بدّ من القضاء على الصهيونيّة قضاءً مطلقًا.
* في مقابلة مع جريدة القدس العربيّ العامَ الماضي، طرحتَ نقضَ اتفاقيّة أوسلو، لا مجرّدَ القول إنّ القيادة الفلسطينيّة "في حِلّ منها." فهل تعوِّل في ذلك النقض على القيادة الفلسطينيّة التي تنسِّق أمنيًّا مع الاحتلال وتستفيد من أوسلو؟ وإلّا فمن يقوم بهذا النقض؟ المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ؟ وكيف يُنتخب هذا المجلس في الأوضاع التشتيتيّة الراهنة؟ وفي موضوع متّصل، يسأل الأخ ثائر السهلي: "كيف نثق بأنّ الدعوة إلى انتخابات المجلس الوطنيّ لن تعيدَ تجديدَ شرعيّة الخونة"؟
- البداية من أوسلو. أوسلو، كما تفضّلتم في المقدّمة، هي جريمةٌ أكبرُ من وعد بلفور. لماذا؟ لأنّ وعد بلفور اتفاقٌ سرّيّ بين جهةٍ استعماريّة وجهةٍ استعماريّةٍ جديدة هي الصهيونيّة، وبغياب صاحبِ الحقّ. أمّا بعد أوسلو، فالمحتلّ بات يجلس مع صاحب الأرض ويتفاوضان ويتنازعان على أرض الشعب المحتلّ! وهذا شي عجيب كان يجب ألّا يحصل إطلاقًا، وعندما حصل كان يجب أن لا يستمرّ.
جريمة أوسلو أنّها حوّلت الشعبَ الفلسطينيَّ إلى عبيدٍ يعملون بالسخرة تحت الاحتلال مقابل أن يعطوهم طعامًا، تمامًا كحال العبيد في أميركا الشماليّة قبل مئة عام. التفاصيل معروفة، لكنْ سنؤكّد بعضَها:
98% من واردات الضفّة هي من "إسرائيل." 75% من المعونات التي تدفعها أوروبا إلى الفلسطينيّين كي يقبلوا بأوسلو ويعملوا تحت أمرة الاحتلال تذهب إلى الكيان الصهيونيّ بطريقةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة. ولكنْ أريد أن أذكّر بمقارنةٍ تاريخيّةٍ مؤلمةٍ جدًّا. فأبو علاء (أحمد قريع) وقّع في أبريل (نيسان) 1994 "اتفاقيّة باريس الاقتصاديّة" (Paris Economic Protocol)، وهذا هو عنوانُ الاتفاقيّة الذي وقّعتْه، للأغراض عينها، في مايو 1941، حكومةُ ألمانيا النازيّة التي كانت تحتلّ فرنسا مع حكومة فيشي العميلة! ثمّة مصلحة مباشرة، مادّيّة وشخصيّة، لكلّ الذين يعملون تحت أوسلو، أو يطالبون بها، أو يقولون إنّ نقضَها أو تغييرَها مستحيل. هؤلاء يستفيدون من الاحتلال، وقد ارتضوْا أن يكونوا عبيدًا له، ولذلك فإنّهم لا يريدون تغييرَ الوضع.
اتفاقيّة جنيف الرابعة، المادّة 47، تقول إنّه لا يجوز أن يُحرمَ الشعبُ الواقعُ تحت الاحتلال حقوقَه الأساسيّة جرّاء أيّ اتفاقيّة.[5] هذا أوّلًا. ثانيًا: التاريخ مليء بالشواهد على نقض الاتفاقيّات أو تغييرِها ما دامت تُضرّ بحقوق الشعب. هذه كانت حالَ أوروبا مع ألمانيا النازيّة. بل لماذا نذهب بعيدًا؟ فـ"إسرائيل" نفسُها متخصّصة في نقض الاتفاقيّات: أ) من قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة رقم 194 الذي ينصّ (في المادّة 11) على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقرِّرون عدمَ العودة إلى ديارهم وعن كلّ مفقود أو مصاب بضرر".[6] ب) إلى إنشاء وكالة الغوث (الأونروا). ج) فإلى اتفاقيّة لجنة التوفيق الدوليّة (UNCCP)، الموكلة بإيجاد آليّة لعودة اللاجئين إلى ديارهم. فلماذا لا نقوم نحن بنقض أوسلو؟ ما الذي سنخسره؟ ما سنخسره هو أقلُّ بكثيرٍ ممّا نعانيه الآن. ولذلك أرى، وكثيرين غيري، ضرورةَ انتخاب مجلس وطنيّ لكي يتّخذ القراراتِ الوطنيّةَ السليمة.
أمّا بالنسبة إلى الانتخابات، فأبدأ بالقول إنّ انتخابات المجلس التشريعيّ باطلة لأنْ لا صلاةَ تحت الحِراب كما قلنا. أيضًا، هذه الانتخابات مُسيَّرة بيد الاحتلال، وإذا جاءت نتيجتُها مغايرةً لتوقّعات الاحتلال كما حدث في العام 2006، فإنّه يَسُوق النوّابَ المنتخبين إلى السجن. الانتخابات الوحيدة المقبولة أو المشروعة بموجب الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ هي انتخاباتٌ يشارك فيها كلُّ فلسطينيّ لأنّه جزءٌ من الشعب الفلسطينيّ؛ وأعني: انتخابات مجلس وطنيّ عامّ يشمل 13 مليون فلسطينيّ.
الآن يطالعوننا ببدعة جديدة وهي "انتخابات رئاسيّة." ليست لدينا انتخابات رئاسيّة. السلطة لا تمثّل الشعبَ الفلسطينيّ. نحن لدينا فقط انتخابات مجلس وطنيّ. وهذا المجلس يَنتخب لجنةً تنفيذيّة، وهذه اللجنة تنتخب رئيسًا. وغير ذلك فهو باطل! فلسطينيّو الخارج والداخل، بمن فيهم داخل أراضي 48، لهم الحقُّ في أن ينتخبوا مجلسًا وطنيًّا جديدًا. لقد سمعتُ شخصيًّا محمود عبّاس سنة 2005، وسمعتُ سليم الزعنون عندما قابلناه عدّة مرات (في السنوات 2007 و2009 و2010)، يقولان إنّ إجراء الانتخابات العامّة أمرٌ صعب. لماذا هو أمرٌ صعب؟ الفلسطينيّون موجودون في كلّ العالم، وعلى كلّ جالية في كلّ بلد أن تقرّر كيف تُجري هذه الانتخابات. هناك بلادٌ كثيرة تسمح بإجراء هذه الانتخابات. قال لي شخص مسؤول في إدارة الانتخابات: "نحن لا نعرف مَن هم الفلسطينيّون!" قلت له إنّ هذا كلام فارغ، كيف يمكن أن لا يعرف الفلسطينيّون بعضهم بعضًا؟ هذه الأعذار كلّها واهية، والغرض منها التشبّثُ بالمراكز التي تَخدم الاستعمارَ الاستيطانيَّ الصهيونيّ.
إذًا، من هذا المنبر، أدعو كلَّ فلسطينيّ إلى أن يطالب بانتخاب مجلس وطنيّ يشمل جميعَ الفلسطينيّين، وألّا يقبل أيَّ بديلٍ من ذلك، لأنّ أيّ بديل هو تقليلٌ من قيمة المجلس الوطنيّ الشامل لكلّ الفلسطينيّين. منذ توقيع أوسلو ونحن نكافح من أجل ذلك، والرحمة لزملائنا أمثال شفيق الحوت وإدوارد سعيد وإبراهيم أبو اللغد وحيدر عبد الشافي الذين طالبوا بذلك منذ 25 سنة. الآن جاء وقتُ العمل، ولدى الشباب اليوم القوّةُ والطموح، وهم يشكّلون 70% من شعب فلسطين. فكيف يبقى مصيرُهم ومستقبلُهم في قبضة حفنةٍ من القيادات "على حافّة قبرهم"؟ هذا لا يجوز! يجب أن يقوموا بثورة للمطالبة بحقّهم الشرعيّ. وإنْ لم يتمكّنوا من نيله، فيجب أن يسعوا إلى إقامة مجلس وطنيّ شعبيّ مؤقّت، إلى أن يجبِروا المجلسَ الوطنيّ المحكومَ بسلطة رام الله على أن يكون لهم هذا الكيانُ القانونيّ.
* مصطفى الحاج حسن يسأل: "هناك أحداث عديدة قَمعتْ فيها حركةُ حماس الفلسطينيّين في غزّة. أمّا حركة فتح، فتنسّق أمنيًّا مع "إسرائيل." ما تعليقُكم؟
- لو كان لدينا مجلس وطنيّ منتخب، فيه شخصيّات وطنية صادقة كفوءة غير فاسدة وتعبِّر عن رأي غالبيّة الشعب الفلسطينيّ وحقوقِه، فحينها إذا حصلتْ مخالفاتٌ من حماس أو فتح فلن نلجأ إلى القاهرة، بل نحتكم إلى المجلس الوطنيّ الجديد، وفيه يقدِّم كلُّ طرفٍ رأيَه وبرنامجَه. على سبيل المثال، سيأتي أحدُهم ويقول: "برنامجي هو تحرير فلسطين، فهل توافقون؟" ويأتي آخر ويقول: "أريد التنسيقَ مع إسرائيل، فمن يؤيّدني؟" القرار اليوم ينبغي ألّا يكون في يد مَن يذهبون إلى القاهرة للوصول إلى اتفاق. هذا باطل تمامًا. الحلّ ينبغي أن يكمن في يد الشعب الفلسطينيّ. على كلّ مَن يريد أن يحظى بالتمثيل أن يقدّمَ برنامجَه ويتركَ الناخبين الفلسطينيّين في كلّ مكان كي يقرّروا إنْ كان صالحًا لقيادة المسيرة، أو كي يحاكموه بتهمة الفساد أو التعاون مع العدوّ أو غير ذلك. أمّا أن نتوقّع من فريقٍ أن يتّفق مع فريق آخر بالسرّ، أو في القاهرة، لتقرير مصير الشعب الفلسطينيّ، فهذا خطأ كبير ومشاركة في التآمر على الشعب الفلسطينيّ.
في البرنامج الذي وضعناه للمجلس الوطنيّ الفلسطينيّ لدينا خطّة مفصّلة لمحاكمة كلّ مَن أخلّ بالحقوق الوطنيّة في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، ولن ينجو أحدٌ من المحاكمة والمحاسبة. هذا هو الحلّ في رأيي، لا أن نتّهمَ هذا الفريقَ أو ذاك.
* نوجِّه تحيّةً خاصّةً إلى شعبنا الفلسطينيّ في فلسطين المحتلّة عام 48. الرفيقة نزار هواري من هذا الداخل المحتلّ تقول: "إلى أولئك المحبطين أقول إنّ العودة ممكنة وقابلة للتنفيذ. ونحن، كفلسطينيّين في الداخل، نقوم بفعّاليّاتٍ عديدة، كمسيرة العودة السنويّة إلى القرى المهجَّرة. ومخطّطات العودة التي نملكها شبيهة بمشروع سحماتا الذي تفضّل به الدكتور سلمان، ومنها العودةُ إلى اللجون ومعلول والغابسية وغيرها." هناك سؤال من الرفيق يونس عطاري: "العدوّ يغّير قياداتِه بشكلٍ دوريّ، أمّا أمناؤنا العامّون، فقد مضى على بعضهم أربعون أو خمسون سنةً وهم في مناصبهم، وأبو مازن هو القائد الأعلى! ألسنا أمام مشكلةٍ في هذا التقليد؛ مشكلة في عدم تجديد دماء القيادة الفلسطينيّة؟ أليس ذلك أحدَ أسباب هزائمنا المتلاحقة؟"
- لقد أجاب الأخ يونس عن سؤاله بنفسه، وأنا أؤيّد كلامَه. لو حصلت انتخاباتُ مجلس وطنيّ شفّافة وسليمة، فقد لا نسمع بكلّ هؤلاء. في الدول التي توجد فيها ديمقراطيّة، يكون التغييرُ عن طريق الانتخابات الدوريّة هو الشيءَ الوحيدَ الذي يعطي القادةَ المصداقيّةَ. مثلًا، كنتُ سعيدًا بإسقاط توني بلير في الانتخابات البريطانيّة، وهو كما تعلمون مجرمُ الحرب في العراق، إلّا أنّني انزعجتُ من أنّ صديقنا جيريمي كوربين أسقطه الصهاينةُ من رئاسة حزب العمّال. لكنْ هذه هي الديمقراطيّة الانتخابيّة. أنجيلا ميركيل تخلّت طوعًا عن كرسيّها في ألمانيا بعد ثماني سنوات من الحكم. تشرشل أنقذ بريطانيا في الحرب العالميّة الثانية، لكنّه سقط في الانتخابات بعدها، وانتُخب آتلي بدلًا منه لأنّ دوره انتهى؛ وكلُّ مَن تنتهي خدمتُه للشعب يرحل ويأتي غيرُه. أمّا عندنا فلا يوجد حكم ملكيّ دستوريّ ولا جمهوريّ ديمقراطيّ، وبقاءُ الشخص مزروعًا من دون أيّ حيثيّةٍ ولا خدمةٍ وطنيّة هو في رأيي جريمةٌ في حقّ الوطن. لو كان لدى هذا الشخص ذرّةٌ من الوطنيّة لكان عليه القول: "كفاني! يجب أن أتيح المجالَ لـ70 % من الشعب الفلسطينيّ وأريد أن يُنتخَب قائدٌ جديد."
* لديّ سؤالان مترابطان لهما علاقةٌ بالانتخابات التشريعيّة في فلسطين. الأوّل: هل تقود الانتخاباتُ التشريعيّةُ الفلسطينيّة المقبلة في أيّار (مايو) في فلسطين المحتلّة عام 67 إلى مجلس وطنيّ فلسطينيّ جديرٍ باسمه وبـ13 مليون فلسطينيّ؟ والثاني: ما هو موقفُكم من مشاركة شعبنا في فلسطين المحتلّة عام 48 في الانتخابات الإسرائيليّة، ترشُّحًا واقتراعًا؟
- انتخابات المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ، بل وجودُه نفسُه، أمرٌ باطل. هذه انتخاباتٌ يوافق عليها المحتلّ ويقرِّرُها بنفسه، وإنْ لم تعجبْه النتيجةُ فإنّه يسجن النوّابَ المنتخبين أو يطردهم أو يقتلهم.
ثم إنّ عددَ الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة هو 18% فقط من مجموع الشعب الفلسطينيّ، وهو في غزّة 12%. أيْ إنّ مجموع الفلسطينيّين في فلسطين المحتلّة عام 67 هو 30% فقط. فماذا عن الـ70% الآخرين؟ حتى الآن لم تقرَّرْ في شأنهم أيُّ انتخابات! وعليه، فإنّ الحلّ الوطنيّ الشامل هو في انتخابات مجلس وطنيّ عامّ وشامل، بما فيه أناسٌ يمثّلون الضفّةَ وغزّة كما حدث سابقًا.
أمّا عن دخول بعض الفلسطينيّين في انتخابات الكنيست، فإنّني أعترف بأنّني لا أعرف تفاصيلَ كثيرةً عن هذا الموضوع، ولكنْ أقول بكلّ بساطة: نحن نعلم أنّ 165 ألف فلسطينيّ فقط بقوا من مجزرة النكبة، وهؤلاء كانوا لفترة طويلة خاضعين للعدوّ الصهيونيّ، ولكنْ بعد يوم الأرض (31/3/1976) اشتعلت الجذوةُ الوطنيّةُ في عقول الشباب وقلوبهم، والآن لدينا جيلٌ وطنيّ ثالث يؤمن أنْ لا عيش مع الذئاب. هناك جمعيّات كثيرة في الداخل تنظّم برامجَ للعودة إلى القرى المهجَّرة، وتذكّر بشهدائها؛ فالروح الوطنيّة هناك عالية. أما مَن يعوّلون على التعاون مع الحكومة الإسرائيليّة من أجل الحصول على حقوق الوطن، فوهمُهم كبيرٌ جدًّا. كلُّ ما قد يحقّقونه هو تحسينُ شروط عبوديّتهم تحت الاحتلال. هناك 55 قانونًا عنصريًّا إسرائيليًّا ضدّ فلسطينيّي الداخل، وهذا الواقع لن يتغيّر لأنّ الصهيونيّة تُنْكر وجودَ الشعب الفلسطينيّ، بل تنكر وجودَ فلسطين أصلًا.
* سؤال شخصيّ، لماذا لم تنضمّ إلى أيّ فصيل فلسطينيّ؟
- أنا فلسطينيّ لاجئ، وقضيّتي كلَّ عمري هي العودةُ إلى وطني؛ فهذا هو النهرُ الكبيرُ الذي نسبح فيه. هناك أناسٌ يدخلون في هذا النهر من روافدَ أخرى، ذاتِ إيديولوجيّاتٍ معيّنة، من أجل تحرير فلسطين أو العودةِ إلى الوطن. شخصيًّا، تكفيني "إيديولوجيا" أنّي فلسطينيّ وطنيّ أطالب بحقّي في هذا الوطن.
أحيانا ألقي محاضراتٍ عن جغرافيا فلسطين وأطلس فلسطين، فيسألني الجمهور: "أأنت جغرافيّ؟" أقولُ لهم كلّا. وأحيانًا أشارك في مؤتمراتٍ عن تاريخ الصهيونيّة وفلسطين، فيسألونني: "أأنت مؤرِّخ؟" فأقول لهم كلّا. وأحيانًا أدخل إلى الأمم المتحدة في مناقشات حول القانون الدوليّ، فيسألونني: "أأنت قانونيّ؟" فأقول لهم كلّا. أنا صاحبُ قضيّة، وصاحبُ القضية مضطرٌّ إلى أن يعرف أين هي أرضُه؛ فهو إذًا يحتاج إلى خريطة. ويريد أن يعرف القانونَ الذي من خلاله يستطيع أن يطالبَ بحقّه؛ فعليه إذًا أن يكون قانونيًّا. ويريد أن يُعْلمَ الناسَ بقضيّته، فعليه إذًا أن يكون إعلاميًّا. نحن نحتاج إلى هذه الأسلحة كلِّها، ولا نحتاج إلى أن نُغلقَ أنفسَنا في إيديولوجيا محدّدة. الوطن أكبرُ من ذلك بكثير!
* في حالة الانتصار المشتهاة وتفكيك الدولة الإسرائيليّة، هل لديكم اقتراح لحلّ وجود الإسرائيليّين من غير أصحاب الأرض الأصليّين؟ وفي هذا الصدد يسأل أحدُ المتابعين: البعض ينادي بدولة مشتركة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، فما رأيكم؟
- بخصوص الجزء الأول من السؤال، هناك بعضُ اليهود اليوم يفكّرون في أنّ ما حصل في حقّ الفلسطينيين ظلمٌ كبير، بل جريمة. وهم يسألون ما هو مصيرنا إنْ عاد الفلسطينيّون؟ هؤلاء يفرحون لأنّني وجدتُ أنّ عودةَ الفلسطينيين ممكنة من دون إزاحة عددٍ كبيرٍ من اليهود المقيمين في فلسطين. الكيبوتسات تَسْهل إزاحتُها لأنّ عددَها قليل. أمّا باقي اليهود فيستطيعون، بحسب تصميمي على موقعنا الإلكترونيّ، أن يُجْمَعوا في 3 كانتونات: الأوّل في محيط تل أبيب، والثاني في القدس الغربيّة، والثالث في حيفا. هذه المجموعات الثلاث يمكن أن تشملَ الغالبيّةَ الساحقةَ من اليهود في فلسطين، ويستطيع أفرادُها مزاولةَ الصلاة وممارسةَ ثقافتهم وغيرَ ذلك. هذا الأمر موجودٌ في سويسرا، وفي لندن حيث أمضيتُ سنواتٍ طويلةً في مكانٍ اسمُه غولدن غرين، وهو ضاحيةٌ من ضواحي لندن، معظمُ ساكنيها يهود، وهم يقفلونها يومَ السبت ويُسمح لهم بذلك، ولا يَدخل عليهم أحدٌ، ويزاولون طقوسَهم بموافقة بلديّة لندن.
لكنْ أسارع إلى التكرار: لا حياةَ مع الوحوش. إذا كانت الصهيونيّة موجودة، فهذه معناه القضاءُ علينا -- فعلًا أو مجازًا. لا يمكن العيشُ مع الصهاينة إطلاقًا. وكيف لنا أن نعيش مع مَن يُنْكر وجودَنا أصلًا؟! هذا لم يحدث لا مع الجزائريّين تحت الاحتلال الفرنسيّ، ولا مع الإنجليز في الهند، ولا مع الهولنديّين في جنوب أفريقيا.
قبل الإجابة عن الشقّ الثاني من السؤال، أودّ الإشارةَ إلى أنّني سألتُ هؤلاء اليهود عندما يعودون: "ما هو رأيكم في حقّ العودة؟" بيتر بينار، وهو شابّ أميركيّ خرج عن الصهيونيّة، قال إنّ "إسرائيل" لا تمثّله وليست بلدَه. وأيضا يوجد إسرائيليّون آخرون، كإيلان بابيه، يؤيّدون هذا الكلام. لكنّ الحل ليس ما ذُكر في الجزء الآخر من السؤال، أيْ أن نقوم بدولةٍ مشتركة. كيف يعني "دولة مشتركة"؟! هناك جزء في القانون الدوليّ لا يمكن الإفلاتُ منه: وأعني الحقوقَ الأساسيّةَ غيرَ القابلة للتصرّف، ومنها حقُّ العودة. عندما يأتي يهوديّ ويقول إنّه يريد العيشَ في فلسطين كأيّ شخصٍ يقدّم على أيّ دولةٍ ويحمل الجنسيّة، ويقبل أن يكون خاضعًا لقانون غير عنصريّ وأن يكون مواطنًا عاديًّا، فلا مشكلة في ذلك. أما أن يَقتل ويَسرق ويهجِّر، ثم تسامحَه بعدها وتقول له "لا بأس ابقَ،" فهذا غير مقبول!
لماذا لا يعيش اليهودُ في فلسطين كما يعيش اليهودُ في لندن؟ هل سنّ البريطانيّون قوانينَ ضدّهم وذبحوهم في لندن؟ كلا! إذا حضر مواطنٌ من روسيا إلى فلسطين في مطلع القرن العشرين وعاش في أمان كمواطن عاديّ، فوجودُه مقبول. أمّا الحديث عن دولةٍ مشتركة، فأنا أخالف كلَّ مَن ينادي بها. الأساس هو عودةُ كلّ فلسطينيّ إلى دياره التي هُجّر منها، ونيلُ حقوقه غيرِ القابلةِ للتصرّف، في ديمقراطيّة حرّة، ومن دون الصهيونيّة والتمييز العنصريّ والفصل. وعندها يقرّر مواطنو البلد شكلَ الحكومة التي تَحْكمهم.
* السؤال الآن عن التطبيع ومقاومة التطبيع: كيف تفسّر حالاتِ التطبيع العربيّة الراهنة؟ وما رأيُكَ بحملات المقاطعة ومقاومة التطبيع؟
- التطبيع من الجانب العربيّ، وفي المدّة الأخيرة بشكلٍ خاصّ، مأساة، جريمةُ حرب. كيف؟ ميثاق روما عام 1998 حدّد جرائمَ الحرب، وقال إنّ مجرم الحرب لا يقتصر على مُطْلِق الرصاص أو قائدِ الجيش أو رئيسِ الحكومة التي أمرتْه بالقتل، بل إنّ كلَّ مَن أيّد وساند هذا العمل يكون مشاركًا في الجريمة. إذًا، عندما تطبِّع مع "إسرائيل" فكأنّك تقول لها الآتي: إنّ المذابح الـ156 التي ارتكبتِها في حقّ الفلسطينيّين سنة 1948 عملٌ قانونيٌّ وسليم، وإنّ سلبَكِ الأرضَ الفلسطينيّةَ قد عفا عليه الزمنُ وأصبح شرعيًّا.
قبل أيّام قليلة، صوّتت البحرين ضدّ الحقوق الفلسطينيّة في مجلس حقوق الإنسان. والإمارات، على مدى شهورٍ سابقة، صوّت مندوبُها في الأمم المتحدة ضدّ القرارات المؤيِّدة لحقوق الفلسطينيّين. إذًا هؤلاء أصبحوا أعداءَ الأمّة العربيّة. والآن أخشى ما أخشاه أن يزداد الوضعُ سوءًا. نقرأ الآن أنّ "إسرائيل" مع دولة الإمارات تعيدان إحياءَ مشروع قديم، هو إنشاء قناةٍ بديلةٍ من عسقلان المجدل إلى البحر الميت ثم البحر الأحمر. أيضًا، هناك أطرافٌ عدّة تُنشئ اتفاقيّاتِ غاز للسيطرة على الساحل الفلسطينيّ، وهناك أطراف (بما فيها مصر) تدخل في هذه الاتفاقيّات من أجل بناء نظامٍ اقتصاديّ موحّد. هذا يعني أنّ "إسرائيل" ستدخل في النسيج العربيّ في كلّ مكان. وإذا أردنا اقتلاعَ "إسرائيل،" فسيحاربنا هؤلاء العربُ لأنّهم يدافعون عن مصالحهم الشخصية. وهذا خطير جدَّا.
في ما يخصّ حركة المقاطعة BDS، فإنّي أعرف عددًا من الشباب الذين يقومون بها، وعملُهم مشرِّفٌ جدًّا. هؤلاء الشباب لا يملكون طائراتٍ ولا دبّابات، لكنّهم استعملوا العقلَ والمنطقَ والضمير، والآن تخشىاهم "إسرائيل" كثيرًا. عندما أذهب إلى الجامعات، كثيرًا ما أسمع أناسًا يقولون إنّهم جزءٌ من حركة BDS. لماذا؟ لقد تحرّك ضميرُهم لأنّهم حصلوا على المعلومات الحقيقيّة عن الوضع في فلسطين. ولذلك جنّدت "إسرائيل" وزارةً كاملة، وملايينَ الدولارات، ضدّ هذه الحركة. وهذا يدلّ على أنّ الضمير، إذا حرّكتَه بالعقل والمنطق والحجّة، فسيصبح قوّةً كبيرةً جدًّا، خصوصًا في عصر الاتصالات.
وفي المقابل، وللأسف الشديد، فقد كان العالمُ العربيّ في السبعينيّات كلُّه معنا، وكان الغربُ ضدّنا. الآن قسم مهمّ من الغرب يؤيّدنا شعبيًّا (لا رسميًّا)، في حين أنّ العالم العربيّ الذي كنّا نعتمد عليه تخلخلتْ أركانُه وأصبح جزءٌ منه عضوًا فعّالًا في جبهة أعداء الأمّة العربيّة. هذا هو الوضع اليوم، ويجب أن يقاوَم بكلّ الأشكال، وأرجو أن لا تتواصلَ هذه الطعناتُ في ظهر الوطن العربيّ.
* سؤال من أحد المتابعين: الأماكن التي تقترح أن يسكنَ فيها اليهودُ الإسرائيليّون غيرُ الفلسطينيّين [بعد التحرير]، أليس لها أصحابٌ وملّاكٌ فلسطينيّون؟!
- اليهود تمكّنوا، بتواطؤ بريطانيّ، من الاستحواذ على 6% من أراضي فلسطين. الصندوق القوميّ اليهوديّ استحوذ على 936 ألف دونم تحت الغطاء. هذه هي المِلْكيّة الوحيدة لليهود. الآن عندما ندرس الخرائطَ الحديثة، نجد أن ّاليهود تمدّدوا من 6% من الأراضي الفلسطينيّة إلى 12%. إذًا، لدينا مشكلة في 6% من الأراضي التي احتلّها اليهود الآن ويسكنون فيها وطَردوا منها الأهالي. ما الحلّ بالنسبة إلى هؤلاء المقيمين على 6% من أراضٍ عربيّةٍ محتلّة؟ هناك ثلاثة كانتونات خطّطناها في تل أبيب-يافا والقدس وحيفا. الحلّ موجود، وقد نُفّذ في البوسنة. عندما عادت البوسنة إلى أهلها بقرارٍ من الأمم المتحدة ونفّذتْ اتفاقيّة دالتون، حصلت المشاكلُ ذاتُها: فحين جاء الصربيُّ وطرد البوسنيَّ من بيته، مدّعيًا أنّه بيتُه لأنّه أشتراه ورتّبه، قالت الأممُ المتحدة لهذا الصربيّ إنّ الملْكيّة الأصليّة "لا تسقط بالتقادم." والأمم المتحدة، في كلّ عامٍ تقريبًا من شهر نوفمبر، تؤكّد قرارَها بوجوب أن تحصرَ "إسرائيل" كلَّ أملاك اللاجئين الفلسطينيّين، وأن تسجّلَ العائدَ الذي أخذتْه من هذه الأملاك في جدولٍ يقدَّم إليها، عنوانُه:Palestine refugees' properties and their revenues - GA resolution - Question of Palestine (un.org)
إذًا، القانون الدوليّ موجود. نأتي إلى التطبيق. هذا الصربيّ الذي قال إنّه اشترى البيت من شخصٍ ما، يواجهه القانونُ الدوليّ بالقول إنّ المالك الأصليّ لا يَسقط حقُّه. وفي حالتنا فإنّ كلَّ أراضي الفلسطينيّين المهجّرين تقع تحت إدارة Israel Land Administration (دائرة إسرائيل للأراضي)، وهي كيانٌ مشترك بين الصندوق القوميّ اليهوديّ وحكومة العدوّ، وهي التي تؤجّرها إلى الكيبوتس أو لغيره. طبعًا غرضُ الصهاينة هو أن تكون هذه الأراضي ليهود العالم كلّه. ولكنْ لا يوجد إسرائيليّون (إلّا ببعض الاستثناءات) لديهم أوراقٌ تثبت أنّ الأرض التي يستغلّونها من أرض اللاجئين هي ملْكُهم.
* سؤال من د. علي حجازي: ذكرتَ أثناء حديثك أنّك اشتركتَ في مؤتمرٍ حضره أحد الصهاينة. كيف تسوِّغ ذلك؟
- أؤيّد المقاطعة من دون أيّ تحفّظٍ أو شروطٍ على الإطلاق. ولكنْ عندما أُدعى إلى مؤتمر دوليّ كالأمم المتحدة ويُطلب إليّ أن أشرحَ قضيّتنا، فأنا أرحّبُ بذلك دائمًا، وأقولُ كلمتي، وأكسب أناسًا إلى جانبنا. وإذا صدف أن وُجد إسرائيليّ وتحدّث بالكذب، فإنّي أوقفُه عند حدّه وأُسْكته.
عندما عرضتُ خطّةَ العودة في جامعة براون، كان الحاضرون حوالي الأربعين، وكلُّهم مختصّون بالشرق الأوسط. منهم مَن حضروا من "إسرائيل،" ولكنّي لا أتعامل معهم، غير أنّني لا أهاب أن أتحدّثَ في مؤتمرٍ دوليّ. هذا يختلف عن التعامل الشخصيّ مع الإسرائيليّين، أو عن القيام بموضوعاتٍ مشتركة، أو تأليف كتبٍ مشتركة.
* سؤال من إحدى المتابعات: هل وضعُنا اليوم أفضلُ مِن وضعنا بعد النكبة؟ وما هي عناصرُ القوّة لدينا اليوم؟
- تصعب الإجابةُ عمّا إذا كان وضعُنا أفضلَ أمْ أسوأ. عندما قضت بريطانيا على الثورة سنة 1939 وجعلتْنا عرضةً للصهيونيّة، هل كان وضعُنا أفضل؟ هل كنّا بعد النكبة في وضعٍ أسوأ؟ كلُّ وقتٍ له ظروفُه وعواقبُه. علينا أن نتعلّمَ من هذه التجارب، فلا نكرّر التجاربَ الفاشلة.
في الماضي، عندما ذهب وفدٌ للتفاوض مع تشرشل، كان هناك شخصٌ واحدٌ فقط في هذا الوفد يعرف الإنجليزيّة! الآن لدينا مئاتُ الآلاف من المحامين الشباب يتقنونها في المحاكم. ولدينا شبابٌ في "ناسا." ولدينا طاقاتٌ كبيرةٌ جدًّا في كلّ مكان. التربية الوطنيّة هي التي تعلّم الشبابَ تاريخَ وطنهم الذي يحاولون مسحَه من ذاكرة أبنائنا. يوجد كتاب ممتاز بعنوان Britian’s Pacification of Palestine (يعمل مركزُ دراسات الوحدة العربيّة على ترجمتِه ونشره). كلُّ ما يحدث لنا الآن من ممارساتٍ إسرائيليّةٍ له جذورٌ في ثورة 36: كيف تعامل معنا الإنجليزُ آنذاك، وكيف خلقوا فريقًا فلسطينيًّا يقول ما معناه "فلنتفاوضْ مع الإنجليز، فنحن لسنا في قوّتهم، وقد يعطوننا حقوقَنا، فلماذا نقوم بثورات، ولماذا ننسف قطاراتِهم ونرميهم بالرصاص؟" بريطانيا كوّنتْ آنذاك "فصائلَ السلام،" وكانت مدفوعةَ الأجر، ومهمّتُها مطاردةُ الثوّار وتبليغُ السلطات عنهم والقبضُ عليهم. والآن، بعد ثمانين عامًا، نجد أنّ السلطةَ الفلسطينيّة تقوم بالدور عينه: تتحدّث عن المفاوضات مع الإسرائيليّين، وأنّنا "لن نتمكّن منهم،" وتبلّغ الإسرائيليّين عن كلّ مقاوم. لو عرفنا تاريخَنا، لمَا سمحنا بصدور مثل هذا الكلام عن السلطة.
باختصار، كلُّ وقت له ظروفُه. ولكنّ المسؤوليّة تقع علينا في تعليم أولادنا كيفيّة قراءة تاريخنا السابق ليتجنّبوا سيّئاتِه ويأخذوا بحسناته.
* سؤال من محمد قديح: أثرتَ يا دكتور موضوعَ مواجهة المتحدّث الإسرائيليّ، لا مقاطعته. ما الأنسبُ في رأيكم: المقاطعة أمِ المواجهة؟
- نحن مع مقاطعة أيّ إسرائيليّ. يجب ألّا توجدَ أيُّ علاقةٍ بيننا وبين أيّ إسرائيليّ. ولكنْ عندما أتحدّث في منبر عامّ يوجد فيه إنجليزٌ وأمريكانٌ وألمان، وبينهم إسرائيليّ أيضًا، فكيف يمكن أن أعرفَ جنسيّتَه؟! يهمُّني طبعًا أن أتحدّثَ عن قضيّتي أمام الجميع، ولو في حضور شخصٍ إسرائيليّ. نحن في الأمم المتحدة موجودون، و"إسرائيل" لها مقعدٌ فيها. والأمر نفسُه ينطبق على مجلس حقوق الإنسان. لكنّ المقصود من "عدم التعامل مع إسرائيل" هو أن لا نقومَ بأيّ مشروعٍ مشتركٍ معهم، ولا أيّ نوع من التعاون الشعبيّ والفرديّ. أمّا في المنابر العالميّة فأكرّر أنني لا أتأخّر في الحديث عن القضيّة على الإطلاق، وإنْ وُجِد في هذه المنابر صهاينةٌ ولكنْ بجنسيّاتٍ مختلفة أو بجنسيّة إسرائيليّة. وأذْكر أنّ التجربة كانت ناجحة ذات مرّة، إذ كسبتُ أصدقاءَ كانوا "يتأرجحون" في اتخاذ القرار، ثمّ عرفوا الحقيقة منّي.
* د. سلمان، كيف تختم هذه الندوةَ برسالةٍ تقدِّم فيها شيئًا من الأمل إلى شعبنا المشتّتِ في كلّ أنحاء العالم، وهم يشاهدون كيف تخلّت عنهم "القيادةُ" الفلسطينيّة، أو كيف دخل بعضُ المعارضين في مسار الانتخابات الفلسطينيّة القائمة على قواعد اتفاقيّات أوسلو، أو كيف يتحوّل مسارُ التطبيع العربيّ إلى تحالفٍ واضحٍ مع الأعداء. كيف تحثّ شعبَك على الإيمان بأنّ العودة ليست فقط ممكنة بل إنّ من الواجب عليهم أن يناضلوا من أجلها كذلك؟
- أقول لكلّ فلسطينيّ لا تستسلمْ. عدوُّك هدفُه الأوّل هو أن تستسلم، أن تصل إلى درجة الإحباط. الصغير قبل الكبير يجب أن يؤمن بقضيّته، وأن لا يتوقّف عن العمل لها. لو كان بأظافره يخدش في الجبل، في الصخر، فعليه ألّا يتوقّف عن ذلك أبدًا.
تاريخ فلسطين الحديث أثبت لنا أنّنا أرضٌ خصبةٌ للتضحية والفداء والقدرات. يجب أن نسمح لكلّ الطاقات بأن تنموَ على أرض الوطن، وألّا نحقّقَ رغبةَ العدوّ في أن تكون أرضُنا قاحلة. حين كانت المفاوضاتُ بشأن اللاجئين تجري تحت غطاء أوسلو، حضرتُ مؤتمرًا في كندا، التي كانت ترعى هذا المؤتمر، وطالبتُ بحقّ العودة، فقال لي الجنرالُ الإسرائيليّ الذي كان يحكم في الضفّة الغربيّة آنذاك: "لو بقي فلسطينيٌّ واحد يطالب بحقّ العودة، فلن أستطيع أن أنامَ الليل!" نعم، هو محقٌّ.
إذًا القاعدة الأولى : لا تتوقّفوا عن المطابلة بحقّكم. القاعدة الثانية: لا تتوقّفوا عن تربية أطفالكم على معرفة فلسطين وحبِّها ووجوبِ استرجاعها. القاعدة الثالثة: كلُّ عملٍ تقومون به، مهما كان صغيرًا، سيكبر وينمو، كما حصل مع حركة BDS. هذه القواعد هي التي ستقودنا إلى مسيرة استرجاع حقّنا في الوطن. وكلُّ ما يقوم به الإعداءُ، من تجويع وتخويفٍ وتشهيرٍ وغير ذلك، إنّما يهدف إلى القضاء على وجود فلسطين في عقولنا وقلوبنا. وهم لن ينجحوا في ذلك إنْ شاء الله.
* شكرًا د. سلمان، باسم الآداب وحملة المقاطعة في لبنان. التواصل بين كلّ الأجيال الفلسطينيّة والعربيّة ضروريّ، وتجديدُ أساليبنا ضروريّ. لكنْ لا تجديد من دون العودة إلى جذور النضال التي أرساها قدامى مناضلي الشعب الفلسطينيّ، وأهمُّها الميثاقُ الوطنيُّ الفلسطينيّ.