إعداد وتقديم: بشّار اللقّيس وعُبادة كسر
(المشاركون ألفبائيًّا: جاد ملكي، رواند حلّس، عامر ملاعب، قاسم الشاغوري، مهدي زلزلي، نصري الصايغ، يزن زريق)
***
تسارعت الأحداثُ عشيّةَ "الربيع العربيّ" سنة 2011، ومثلها تسارعت الآمالُ أيضًا. وفي حين وَضع الرأيُ العامّ العربيّ نصبَ عينيْه قضيّةَ إسقاط النظام، متجاوزًا الحالةَ الفكريّة/الحزبيّةَ السابقة التي كانت تحصر العلاجَ أساسًا في "محاربة الفساد" و"بناء الحكم الرشيد" و"إصلاحِ الواقع الراهن،" فإنّ رواسبَ الأنظمة القديمة وفلولَها، وقوى الدولة العميقة، فضلًا عن التدخّلات الإقليميّة والخارجيّة، كانت لها أسبقيّةُ إنتاج واقعٍ مختلفٍ عمّا طمحتْ إليه الانتفاضاتُ الشعبيّة.
ففي مصر، تحالفت المؤسّسةُ العسكريّة والأمنيّة مع الأقلّيّة الممسكة بزمام الاقتصاد، وقادت ثورةً مضادّةً تمكّنتْ من تقويض ملامح التجربة الديمقراطيّة الوليدة. أمّا في سوريا، فما هي إلّا ستّةُ شهور على بدء الحَراك السلميّ، الذي حمل مطالبَ تغييريّةً متواصلةً منذ عقود، حتى تدهورت الأمورُ إلى حربٍ إقليميّة - دوليّة، نفّذتها أدواتٌ سوريّةٌ وغيرُ سوريّة. وأمّا في ليبيا، فيبدو المشهدُ على قدرٍ كبيرٍ من الخطورة والعبث والتعقيد، إذ تتداخل المسائلُ الوطنيّةُ بالمسائل القبائليّة والإقليميّة والدوليّة، لتُنتج فوضى عارمةً بلا أيّ أفق. وحدها تونس تبدو "الناجيةَ الوحيدةَ" من حدث "الربيع العربيّ"؛ فعلى الرغم من توصّل الدولة العميقة هناك إلى احتواء الحركة الشعبيّة، فما زالت البلادُ ترهص بالتغيير واحتمالات التجديد غير البعيد.
***
لكنْ، إذا كان ثمّة مشتركٌ عامّ يستوقف قارئَ المشهد العربيّ بعد انتفاضاته، المتعدّدةِ التحوّلاتِ والأشكال، فهو الإعلام ــ بحضوره الكثيف، وبُناه المتعدّدة، الشعبيّة والرسميّة والخاصّة. ويمكن إجمالُ خصائص عمل منظومة الإعلام الرسميّ العربيّ في مرحلةِ ما بعد "الربيع العربيّ" بما يأتي:
1 - بروزُ ظاهرة تبنّي الأنظمة العربيّة، بشكلٍ فجٍّ ومباشر، لوسائلِ إعلامٍ كبرى. وبذلك، ازداد تحوّلُ القسم الأكبر من الإعلام العربيّ إلى خادمٍ صريحٍ لمشاريع سياسيّة نظاميّة محلّيّة، وإقليميّة، ودوليّة. لم يعد ذلك الخادمُ يحرص، كما كان في السابق، على التخفّي خلف شعارات الموضوعيّة والمهنيّة والحياديّة، بل شهر كلَّ أسلحته، متخلّيًا عن أسس المهنة الإعلاميّة وشروطها، مؤْثِرًا استرضاءَ مموّليه على "إقناع الجمهور من دون إفهامه."
2 - انعكست "الوظيفيّةُ السياسيّةُ" المتزايدة في الإعلام على الجمهور المتلقّي. فهذا الأخير لم يعد، في سوادِه الأعظم، يبحث عن الوسيلة الإعلاميّة التي تنقل إليه "الواقعَ" أو ما هو قريبٌ منه، وإنّما اكتفى بالوسيلة الإعلاميّة التي تنقل إليه ما يحبُّ أن يسمعَه. العلّة هنا ليست في الاستقطاب ذاته، بطبيعة الحال، وإنّما في كونه استقطابًا أعمى يفتقر إلى المعلومة والتحليل.
3 - استشراءُ الانحياز الطائفيّ الصُّراح، إلى حدّ استسهال التحريض المذهبيّ (السنّيّ - الشيعيّ)، في قسمٍ من الإعلام الرسميّ العربيّ، خصوصًا على خلفيّة الحرب في سوريا.
4 - سعيُ الإعلام الرسميّ العربيّ، بشكل متنامٍ، إلى إعادة تشكيل الوعي العربيّ على أسسٍ قطْريّةٍ وهويّاتيّةٍ ضيّقة. وهو ما أدّى إلى تمييع المسألة الفلسطينيّة، بل إلى شيطنة الفلسطينيّ في بعض وسائل الإعلام (إلى حدّ اعتباره أحدَ أسباب الأزمة الداخليّة في مصر مثلًا).
5 - "تبيئةُ" الإسرائيليّ في الإعلام العربيّ، بمعنى تعزيز حضوره وتأثيره، ضمن سياساتٍ تطبيعيّةٍ خالصة، قادتْها المنظومةُ الخليجيّةُ، بجناحيْها القطَريّ والسعوديّ.
6 - تهميشُ المنادين بالتغيير الجذريّ، من اليساريين والقوميين، واختصارُ مطالبهم إعلاميًّا بما يتوافق مع سياسات منظّمات المجتمع المدنيّ المموَّلة خارجيًّا.
7 - مع بروز دور وسائل التواصل الاجتماعيّ (خصوصًا الفيسبوك والتويتر)، تعزّزتْ "ثقافةُ" الاستقطاب الأعمى، التي غذّاها الإعلامُ الرسميُّ العربيّ، واستفحلتْ "ثقافةُ" المماحكة والجدل الشخصيّ والبيزنطيّ على حساب التحليل والمعرفة.
8 - بروز إعلام الحركات الإسلاميّة التكفيريّة، ولا سيّما إعلام "تنظيم الدولة الإسلاميّة" (داعش)، وما ميّز به من مشهديّة صارخة غير مسبوقة في الإعلام العربيّ.
9 - دخول الدراما التلفزيونيّة بشكلٍ أقوى من ذي قبل على خطّ إعادة قراءة الحاضر والتاريخ العربيّ على خلفيّة انقسامات الأنظمة العربيّة ما بعد "الربيع."
***
إنّ جملةَ هذه الخصائص تدعونا إلى إعادة استقراء الخطاب الإعلاميّ ما بعد الربيع العربيّ، على مستوى الحدث والتأثير. فهذا الخطاب كان بمثابة حدثٍ لأنّه استطاع صنعَ الواقع، لا المشاركةَ فيه والتفاعلَ معه فحسب. وهو استطاع، من حيث التأثير، أن يعيدَ "مفهمةَ" الفرد العربيّ لذاته ومحيطه، منقطعًا عن كثيرٍ من المُثل التي نشأ عليها من قبل.
لقراءة الملف كاملاً، اضغط هنا.
بيروت
(القسم الثاني من الملفّ: 29 حزيران/يونيو 2019، بمشاركة إعداديّة موعودة من عبد الحقّ لبيض وغسّان بن خليفة ومعزّ كرّاجة)