للقاطنات ضمن النطاق الجغرافيّ السياسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ لهذه المنطقة من العالم لعناتٌ كثيرة. أوّلُها الذكوريّة، وثانيها "النسويّةُ الليبراليّةُ البورجوازيّة." ونتكلّم هنا على نسويّةٍ منفصلةٍ ــــ بخطابها وأدواتِها ولغتِها وأهدافِها ــــ عن النساء المستضعَفات والمهمَّشات في مجتمعاتنا. فكيف نقبل، نحن اللواتي نتعرّض في أعمالنا اليوميّة البسيطة لكلّ أشكال التفرقة والاضطهاد والعنف، أن نَحمل خطابًا إقصائيًّا فوقيًّا ومتقبِّلًا لاضطهادِ أخريات؟
عن هذا الشكل من النسويّة أتحدّث، وعن هذا الشكل سأبحث في ممارسات المجموعات والجمعيّات الناشطة في لبنان.
***
ما زالت الذكوريّةُ أمرًا عاديًّا. ما زلنا نواجهها بعاديّةٍ متحسِّرة. لكنْ يبدو أنّ الضربات لا تأتي مفردةً. فبينما نعاني، في وصفنا نساءً، بكلّ اختلافاتنا، الذكوريّةَ، تأتينا ضرباتُ النسويّة الليبراليّة البورجوازيّة لتسطِّح الضغطَ النسويّ السياسيّ والاجتماعيّ.
بين سخريةِ الذكوريّة، وفوقيّةِ هذه النسويّة، قد تختار النساءُ أن يكنَّ ضدّ الأمريْن معًا. وأحاجج هنا بأنّ اختلافَ أشكال النسويّة، وبخاصّةٍ مع وجود النسويّة اليساريّة أو الماركسيّة أو التقاطعيّة، يَسمح لنا بأن نَكسر احتكارَ النسويّة الليبراليّة البورجوازيّة لـ "النسويّة،" كي نطوّرَ نسويّةً أكثرَ عدالةً وواقعيّةً في تمثيل المهمَّشات. وأعرّف هنا "النسويّة الليبراليّة البورجوازيّة" بالآتي:
إنّها تلك التي تحمل مطالبَ طبقتِها، أي الفئةِ المستغِلّةِ الحاكمةِ المهيمنة، وتتعامل مع النساء المستضعَفات بفوقيّة، وتَعزل نفسَها عنهنّ في اللغة والشكل والمضمون، وتقاربهنّ كأنّهنّ محضُ أرقامٍ على جداول النشاطات التي ستقدّمها للمانحين.
هذه النسويّة تبتعد، تحديدًا، عن مصالح اللاجئات، ونساءِ الطبقة العاملة، والعاملاتِ الأجنبيّات، ونساءِ القرى. وتتبنّى، مثلًا، الدفاعَ عن حقوق النساء (المتعلّمات فقط!) في الوصول إلى البرلمان، ولو حملنَ مشروعًا رأسماليًّا.
***
يبدأ نقدُ "النسويّة البورجوازيّة الليبراليّة" هذه بنقد أدواتها، والطرقِ التي تستعملها. وهو ما سيوصل إلى نقد خطابها.
فمن حيث قراءتُها لماهيّة المشكلة: تُظهِر هذه النسويّة سطحيّةً في قراءة الواقع ككلّ، لكونها تَستخدم طرقًا سهلةً ومباشرةً تؤمِّن لها حاجتَها إلى النتائج السريعة. فهي تقول، بشكلٍ غير مباشر، وخلافًا للواقع، إنّ للنساء شكلًا واحدًا موحّدًا، لا فرقَ بين أوضاعهنّ الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ولا بين مستويات تعقيد مشاكلهنّ.
والحال أنّنا حين نتوهّم أنّ النسويّة واحدة، شكلًا ومضمونًا وأهدافًا وأدوات؛ وعندما نرى أنّ التي تسمّي نفسَها "نسويّة" يجب أن تكون تابعةً لمنظّمة، أو موظّفةً في جمعيّة؛ فإذّاك سيبدأ تشرّبُنا للمفاهيم الليبراليّة للنسويّة وماهيّتها.
فالحقّ أنّ للنسويّة وللنسويّات أشكالًا عديدة. وليس على النسويّات أن يكنّ جزءًا من أيّة "جمعيّة" ليكنّ ناشطاتٍ سياسيًّا. وأتكلّم بشكل خاصّ، هنا، على الجمعيّات غير الحكوميّة لأنّها الشكلُ الملموسُ، والأكثرُ فعاليّةً ونشاطًا، في الوقت الحاليّ، في تمثيل ما تعنيه "النسويّةُ الليبراليّةُ البورجوازيّة" (من دون أن ينفي ذلك وجودَ نسويّة ليبراليّة بورجوازيّة خارج هذه الجمعيّات). ولا تكتفي هذه الجمعيّاتُ بترسيخ المشكلة السياسيّة الاقتصاديّة: من تبعيّةٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّة، وتهميشٍ لدور الدولة، وتنفيذٍ لمشاريعَ لا تمتّ إلى المنطقة وحاجاتِها بصِلة، وارتباطٍ مباشرٍ بالفكر الكولونياليّ؛ بل تزيد الطينَ بلّةً بتبنّيها للفكر "النسويّ"... أو، في الواقع، بتحميلِه أهدافَها.
وهذا الواقع مدمِّرٌ على مستوييْن:
ــــ فعلى المستوى الأوّل: لمّا كانت هذه الحركةُ قادرةً على الحصول على الموارد (من مالٍ وموظّفين وعلاقاتٍ عامّةٍ وإعلامٍ وغيره)، فإنّها قادرةٌ على "الظهور" أيضًا، ومن ثمّ على إغراق المجال بخطابها، وعلى تظهيرِ صورةٍ تقول إنّها الـ"نسويّةُ" الوحيدة، ولا نسويّةَ إلّاها.
ــــ أمّا على المستوى الثاني: فخطابُها يقول للنساء إنّ هذا الشكل هو الوحيدُ القادرُ على تعريف علاقتهنّ بعضهنّ ببعض. وهذا يجري وفق المنطق الآتي: نحن النساء مجموعتان: مجموعة جاهلة، متخلّفة، لا حول لها ولا قوّة، ولا وعي لها أصلًا بحالها؛ ومجموعة قادرة، منفتحة، مثقّفة، متحرّرة، واعية لوضعها ولوضع المجموعة الأولى. وعبر الجمعيّات، تستطيع المجموعة الثانية أن تعمل على "تحرير" المجموعة الأولى؛ وينبغي على المجموعة الأولى التجاوبُ معها والانصياعُ لخطط "تحريرها." ووفق هذا الخطاب، فإنّ النساء لا يرتبطن بعضُهنّ ببعض سوى بذلك الخيطِ الرفيعِ من "التبشير": ذلك الخيطِ من القوّة، ورأسِ المال، والعلمِ، والحريّة.
***
من السهل أن تعتقدي أنّك تساهمين في "دعم النساء" و"محاربة الذكوريّة" وأنت تقبعين في بيروت، في مركز جمعيّةٍ لاحكوميّة، تقدّمين ورشةَ عمل، أو ندوةً عن الجندر! لكنْ هل تعتقدين حقًّا أنّ مشاكلَ بهذا العمق والتعقيد والحساسيّة، يمكن أن تُحلّ على هذا النحو، أو بملصقٍ إعلانيّ؟
إنّ الطبيعة "التبشيريّة" التي تضعها فينا هذه الـ"نسويّة" تبعدنا عن باقي النساء، وتجعلنا في مستوياتٍ مختلفة، بسبب اختلاف قربنا إلى رأس المال والذكوريّة في آن. فلا شكّ في أنّ أحدَ أهمّ عوامل القوة التي نملكها كنساء هو القدرة على التعاضد والمساندة، وهذه القدرة ستتضعضع بسبب قربنا ذاك.
***
كيف تختلف "النسويّة الليبراليّة البورجوازيّة" عن نسويّةٍ تقدّم شكلًا أكثرَ تمثيلًا للفئات المهمّشة، وتكون أكثرَ قربًا من العدالة الاجتماعيّة؟
إنّ النسويّة موجودةٌ في أساس الفكر الماركسيّ. صحيح أنّها تقوى وتضعف بحسب الواقع السياسيّ، لكنّها ــــ في تمثيلها الحقيقيّ لواقع الفئات الأكثر تهميشًا من النساء والناس عامّةً ــــ كانت دائمًا جزءًا من الماركسيّة.
تتناول روزا لكسمبرغ، في مظاهرةٍ للنساء سنة 1912 في شتوتغارت (ألمانيا)، النساءَ البورجوازيّات، ودورَهنّ في الصراع. وتتحدث عن نضال نساء البروليتاريّا، مضيئةً على فكرة أساسيّة:
"اقتصاديًّا وسياسيًّا، ليست نساءُ الطبقة المستغِلّة فئةً مستقلّةً من السكّان. إنّ وظيفتهنّ الاجتماعيّة الوحيدة هي أن يكنَّ أدواتٍ للتكاثر الطبيعيّ للطبقات الحاكمة."(1)
وتضرب روزا أمثلةً، تفيدُنا الآن في فهم مواقف النساء البورجوازيّات المعادية للحركات التحرّريّة، فتقول:
"بعد سقوط اليعاقبة، وحين سيقَ روبسبيير بالأغلال إلى ساحة الإعدام، عمدت العاهراتُ العارياتُ التابعاتُ للبوجوازيّة السكرانةِ بالنصر، إلى الرقص في الشوارع؛ رقصن فرحًا، من دون حياء، حوْل بطلِ الثورة المهزوم. وفي العام 1871، في باريس، عندما هُزِمتْ كومونةُ العمّال الشجعان بالرشّاشات الحربيّة، فاقت إناثُ البورجوازيّة الهاذياتُ رجالَهنّ البهيميّين [الوحشيّين] بانتقامهنّ الدمويّ من البروليتاريا المقموعة. ستكون نساءُ الطبقة المالكة مدافعةً دائمًا، وبتعصّب، عن استغلال الناس العاملين واستعبادِهم، وهما الأمران اللذان يحصلن عبْرهما، بشكلٍ غير مباشر، على وسائل عيشهنّ، الذي لا قيمة له من الناحية الاجتماعيّة."(2)
وتقول أيضًا:
"إنّ معظمَ نساء البورجوازيّة أولئك، اللواتي يتصرّفن كلَبواتٍ في صراعهنّ ضدّ "امتيازات الذكور،" يهرولون [يَخبّون] كالخِراف الطيِّعةِ في معسكر الردّةِ المحافظةِ والإكليريكيّة إذا حصلن على حقّ الاقتراع"!
وفي حين تقف هذه "النسويّةُ" مع الذكوريّة على اختلاف أشكالها، هناك نسويّةٌ تستطيع أن ترفضَ الذكوريّة والرأسماليّة، واحتقارَ النساء واستغلالَهنّ، واحتقارَ العاملات والعمّال واللاجئاتِ واللاجئين وكلِّ مَن يُعتبر عالةً على هذا النظام. وتُظهر روزا، في حديثها هذا، الجبهةَ الأخرى التي "يجب" على النسويّة التحرّريّة الانحيازَ إليها. وهذه النسويّة هي التي تستجيب، في رأيي، إلى ما نحتاج إليه اليوم، وفي منطقتنا. علينا أن نكون مجموعةً واحدةً تتساند ضدّ كلّ ظلم، لا مجموعتيْن: واحدةً "تعلِّم" وأخرى "تتعلّم." علينا أن نتعلّم جميعُنا من تجارب بعضنا البعض، وأنّ نرى أنّ علاقتَنا بعضِنا ببعضٍ لا يمكن أن تُعرَّفَ من زاوية "توعية" إحدانا للأخرى أو "تثقيفِها" أو "تحريرها،" وإنما من زاوية التعلّم جماعيًّا والتقدّم جماعيًّا.
إنّ الدعوة إلى البدء في العمل على بلورة هذه النسويّة التحرّريّة، اليساريّة أو الماركسيّة أو التقاطعيّة، هي الدعوةُ إلى التفكير جدّيًّا في دورنا الطبقيّ وامتيازاتنا، كما في قدرتنا على مشاركة تجاربنا والانفتاح على النساء اللواتي نَراهنّ مختلفاتٍ عنّا.
***
ختامًا، وباختصار، هناك الكثيرُ ممّا يمكننا، كنساء، الكلامُ عليه من مشاكلَ سبّبتْها الذكوريّةُ، ولعلّ "النسويّة الليبراليّة البورجوازيّة" إحداها. فقد فَصَلتْ هذه النسويّةُ بين النساء، وجعلتهنّ يعادينَ بعضَهنَّ بعضًا، وجعلت "الناشطات البورجوازيّات المتعلّمات" يفضّلنَ مصلحةَ طبقتهنّ على مصلحة المستضعفات عامّةً. وفي التنظيم السياسيّ، مَن يفرّق الصفوفَ أشدُّ دمارًا أحيانًا من العدوّ الأساس.
بيروت
1- https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1912/05/12.htm
2- المصدر السابق.