يبدو أنّ "أنجعَ" حلّ لاستمرار التحرّش، ولتشجيعِه أيضًا، هو نفيُ وجود تعريفٍ "واقعيّ" له، واعتبارُ التودّدِ غيرِ المرغوب فيه والنكاتِ الجنسيّةِ المهينةِ والمشيِّئة للنساء أمورًا يجدر "غضُّ النظر عنها" والتحلّي بـ"روح رياضيّة" حيالها.
في مقابل ذلك، نجد أنّ القوانين والأنظمةَ الداخليّة التقدّميّة التي تحارب التحرّش قد اعتمدتْ، على الرغم من اختلاف بنودها وتفاصيلها، تعريفًا ذا موقفٍ واحد: التحرّش فعلٌ أو طلبٌ أو إيحاءٌ جنسيّ مرفوض، وغيرُ مقبول، وغيرُ مرغوب. ويستند هذا التعريف إلى تعريف الاغتصاب نفسه: فالفعلان إكراهٌ على الممارسة، ويغيب عنهما شرطُ القبول أو الموافقة (consent).
وعلى عكس النقاش الجاري منذ فترةٍ في لبنان، وهو نقاشٌ يروِّج أنّ التحرّش محضُ "تودّد،" وأنّ بعضَ النساء "لا يفهمن ذلك" وإنّما يسعين إلى الانتقام من الرجال المساكين (و"التبلّي" عليهم)، فإنّ الوضوح في التعريف أعلاه مبنيٌّ على أنّ أجساد النساء، أسوةً بمساحتهنّ الشخصية، أيْ بما يحيط بأجسادهنّ، ملْكُهنّ وحدهنّ.
والحقّ أنّ مستوى النقاش في موضوع التحرّش متدنٍّ في لبنان، إلى درجةِ أنّنا ما زلنا نحاول إثباتَ حصول التحرّش فعلًا! والنتيجة أنّ المجتمع ينشغل بما يشْبه الدفاعَ (غيرَ المباشر والمباشر أحيانًا) عن المتحرِّش، وبإثبات أنّ التحرّش "لم يحصلْ أصلًا." وبذلك يجري التغاضي عن آثار التحرّش المضرّة والمهينة نفسيًّا للناجية.
***
من بين المؤسّسات الكثيرة التي تحوي أنظمتُها الداخليّة قوانينَ للحماية من التحرّش، تتطرّق إدارةُ جامعة هارفرد، في نظامها الداخليّ، إلى تحديد التصرّف غير المرغوب: "التصرّف غير المرغوب يحصل: 1ــ إنْ لم يطلبْه الشخصُ أو يدعُ إليه. 2ــ إن اعتبره الشخصُ غيرَ مرغوبٍ أو مهينًا. أن يتقبّل شخصٌ اتصالًا جنسيًّا ما، فذلك لا يعني بالضرورة أنّه يرحِّب باتصالٍ جنسيٍّ آخر؛ وبالمثل، فأن ينخرطَ شخصٌ ما، بإرادته، في تصرّفٍ ما، في مناسبةٍ ما، فذلك لا يعني بالضرورة أنّ التصرّف نفسَه مرحَّبٌ به في مناسبةٍ لاحقة."(1)
تعريف التحرّش، إذًا، يعتمد على موقف الناجية أو الناجي منه، لا على ما "قصدَه" المتحرِّشُ أو لم يقصدْه. وبهذا التعريف سيَصْعب، أو سيستحيل، تهرُّبُ الجاني من جنايته بادّعاء "عدم قصده،" راميًا من وراء ذلك إلى وضع ضحيّة التحرّش في معرض الشكّ. والتفصيل هذا مشترك أيضًا بين التعريفات التقدّميّة، بحيث لا يهمّ ما قصده المتحرِّش، بل ما مرّت به الناجية أو عانته.
وبالمناسبة، فإنّ تعريفَ إدارة هارفرد، في شقّه الثاني، يُذكّرنا بقضيّة اغتصابٍ حصلت السنة الفائتة. فقد جاء الحكْمُ لصالح الناجية مع أنّها كانت تمارس الجنسَ بكامل إرادتها؛ ذلك أنّ شريكَها خلال الجِماع قام بتصرّفاتٍ لم توافقْ عليها. وكانت محكمةُ كاليفورنيا العليا قد لاحظتْ هذا النوعَ من الحالات، فأقرّت سنة 2003 مفهومَ "سحب الموافقة خلال الجِماع." وجاء ذلك في النصّ الآتي: "إنّ امرأةً توافق في أوّل الأمر على الجِماع لا تتخلّى بذلك عن حقّها في إنهاء اللقاء في أيّة دقيقةٍ تختارها. بكلماتٍ أخرى، عندما تطلب المرأةُ إلى شريكها أن يتوقّف، ولكنّه يجبرُها على الاستمرار، فهو مذنبٌ بالاغتصاب."(2)
على جدران أحد المباني الموجودة في بيروت (هبة بزي)
في ظلّ نمّو النقاش حول ماهيّة التحرّش وكيفيّة محاربته، نصطدم في منطقتنا، بشكلٍ خاصّ، بمفاهيمَ مجتمعيّةٍ تلقي اللومَ على الناجية أو الضحيّة، بل قد ترشقها بأسئلة الاتّهام والتهكّم: ماذا قلتِ له كي يتحرّشَ بكِ؟ كيف تصرّفتِ؟ هل غمزتِه بعينك؟ هل تبسّمتِ له؟ أكان هناك إيحاءٌ ما في نبرة صوتك؟ ماذا كنتِ تلبسين؟ وغيرها من الأسئلة التي تهدف إلى إجابةٍ واحدة: أنتِ التي دفعتِه إلى ذلك.
في سياق اللباس تحديدًا، لا بدّ من استذكار معرضٍ أقيم في نيسان من هذا العام (2018) في جامعة فلوريدا، حمل عنوان "ماذا كنت ترتدين؟"(3) ففي هذا المعرض عُرضتْ ثيابُ نساءٍ تعرّضن للاغتصاب، فإذا بها متنوّعة: بين ثياب نومٍ فضفاضة، وقمصانِ تيشيرت، وستراتٍ ثقيلة، وسراويلِ جينز، وعددٍ آخر من الثياب "العاديّة." الخلاصة؟ المعتدي نفّذ جريمتَه بغضّ النظر عن لباس الناجية. وهنا بالذات تتّفق الأبحاث على أمرٍ أساس، وهو أنّ التحرّش (أو أيّ نوع من الاعتداء الجنسيّ) لا يتعلّق بما ترتديه الناجيةُ (أو تقوله)، وإنّما يقع اللومُ على المعتدي وحده.
إنّ تحميل الناجية مسؤوليّةَ التحرّش قد يؤدّي إلى منعها من التبليغ عمّا حصل لها. وهذا الامتناع ليس مقصورًا على بلداننا "النامية،" بل هو شائعٌ جدًّا في البلدان "المتقدّمة." في الولايات المتحدة مثلًا، تتراوح نسبةُ النساء اللواتي لا يبلّغن عن تعرّضهنّ للتحرّش بين %75 و94%...(4) ــ ــ وهذا في بلدٍ يجرِّم التحرّشَ ويعاقِب عليه! فكيف في بلدٍ مثل لبنان، حيث لا قانونَ فعليًّا يجرِّم التحرّش، وإنْ كان هناك مشروعا قانونٍ قيد الدرس، يُعتبران من القوانين الضعيفة، سواءٌ من ناحية تعريف التحرّش أو معاقبته.
***
تُسأل الفتاةُ عمّا كانت ترتديه عندما تحرّش بها زميلُها أو أحدُ المارّة، معْربًا عن إعجابه بمؤخّرتها أو صدرِها. لكنْ تغيب المساءلةُ الحقيقيّة عن دور الدولة في الحدّ من التحرّش، وتأمين بيئة أكثر أمنًا لكلّ مَن يمكن أن يتعرّض للتحرّش أو لأيّ اعتداءٍ جنسيّ آخر.
إنّ التحرش، شأنَ أيّ اعتداء جنسيّ، يتعلّق بالقوة، بالسلطة، بالإخضاع، بحيث لا يعود جسدُ الناجية ملْكَها وحدها، بل يُشيّأ لخدمة الطرف الآخر ولذّته. ويأتي السؤال الضروريّ في مجتمعاتٍ ترشح بطريركيّةً: إلى متى تبقى أجسادُ النساء، بشكل خاصّ، خاضعةً لأهواء الجميع: المجتمع والعائلة والدين والقبيلة والأب والزوج والأخ والجار وربّ العمل...؟ إلى متى تبقى النساءُ، بشكل خاصّ، غيرَ قادرات على التصرّف بحسب إرادتهنّ؟
بيروت