ولوجُ الكتب المحظورة
قبل الحدیث عن د. نوال السعداوي وتقدیري النقديّ لأعمالھا، لا بدّ من إلقاء نظرةٍ سریعةٍ على كیفیّة تعـرّفي الأوّل إلى كتبھا. غالبيّةُ كتبها، وبالذات كتاب المرأة والجنس، كانت محظورةً في مصر أثناء حكم أنور السادات وحسني مبارك (1970-2011). ولكنّ المرء، على ما صرّحت السعداوي في مقابلاتٍ عدّة، كان يجد هذه الكتبَ نفسَها في بیروت.(1)
كنتُ أحسدُ رفیقاتي وأخواتي الفلسطینیّات اللواتي عرفن السعداوي من كتاباتھا وھنّ صغيرات. أحسدُھنّ، ولو كنّ تحت قمع الاحتلال الصھیونيّ عام 1967، لأنّھنّ كنّ یتمتّعن بشيءٍ اسمُه "مكتبات عامّة" في البلد أو في المدرسة. فقد أنھیتُ تعلیمي الابتدائيَّ والثانويَّ ولم أكن أعرف للمكتبة شكلًا ولا لونًا. ذلك لأنّ معظمَ مدارسنا في فلسطین المحتلّة عام 48 (أعني البلداتِ التي كانت فیھا مدارس، ومن ضمنھا مدینةُ الناصرة) كانت مؤلّفةً من غرفٍ مستأجَرةٍ في بیوت الناس. والمثَل الذي حفظناه ونحن أطفال، "في الشتا غریق وفي الصیف حریق،" یعبِّر عن الوضع المزري للتعلیم في الوسط العربيّ في فلسطین المحتلّة عام 48. فقد كانت الممنوعاتُ والمحرَّماتُ، طِبقًا للمبدأ السیاسيّ الكولونیاليّ، أكثرَ بكثیرٍ ممّا كان في متناول یدنا. وسبق أن ذكرتُ في كتابي، المرأة في "إسرائیل،" أنّ الوضعَ التعلیميّ والثقافيّ (والصحّيّ) هناك يقع في قاع سلّم "أولویّات" دولة الاستعمار الاستیطانيّ.(2). وفي حين كانت الضفّةُ الغربیّة وقطاعُ غزةّ مفتوحيْن على العالم العربيّ وعلى الكتابات التي تصدر فيه، كنّا محرومین ھذا الإرثَ الثقافيَّ أو لقاءَ الأھل في الدول العربیّة.
وحتى أواخر السبعینیّات - وربّما إلى ما بعدها - مُنعتْ كلُّ الكتب الثقافیّة الیساریّة أو صودرتْ، ومن ضمنھا دواوينُ شعراء المقاومة، أمثال محمود درویش وسمیح القاسم وتوفیق زیّاد، على الرغم من أنّ الأخيريْن كانا مواطنیْن ویسكنان البلدَ، وكان زیّاد قد انتُخب لرئاسة بلدیّة الناصرة بين العاميْن 1975 و1994. كما شملت الممنوعاتُ كتبَ غسان كنفاني... وكذلك كتبَ نوال السعداوي.
المرأة والجنس
یُعدّ كتابُ المرأة والجنس (صدرتْ طبعتُه الأولى سنة 1968) من أھمّ كتب السعداوي، إنْ لم یكن أھمَّھا على الإطلاق. في العام 1972 حصلتُ على نسخةٍ منه من مكتبة الجامعة، فأحضرتُھا إلى الناصرة، وتناوبْنا علیھا، أنا ومجموعةٌ من الصدیقات، ثمّ عقدنا جلساتٍ عدّةً لمناقشة الكتاب. لا أذكر، بعد كلِّ ھذه السنین، إذا كانت "الوھجة" الكبیرة التي انتابتْنا آنذاك نابعةً من فحوى هذا الكتاب، أمْ من عنوانه الذي یحمل اسمَ أحد أھمّ التابوھات في مجتمعنا العربيّ: الجنس. ولكنّ ما لا شكّ فیه أنّنا أجمعنا على أھمیّة معلوماته.
لیس مھمًّا الآن أن نخوضَ في عمق جھلنا، آنذاك، لجسدِنا، ولتركیبتِنا الجنسیّة، وخصوصًا المرأة: فالمجتمع بشكله العامّ كان تقلیدیًّا، إنْ لم نقلْ متخلِّفًا اجتماعیًّا، وھو ما كان معكوسًا على البیت والمدرسةِ والمعلّماتِ والمعلّمین. أذكر أنّ المكانَ الوحید الذي تمتّع بـ"حریّة التعبیر في أمور الجنس،" وللذكور وحدهم طبعًا، ھو الشارع، حیث أعضاءُ الإناث الجنسیّة كانت (وما تزال) تُذْكر في معرض الشتم بهدف تحقیر الآخر.
عالج كتابُ السعداوي موضوعاتٍ مھمّةً في المجتمع البطریركيّ المغلق، ومنھا: موضوعُ ختان الإناث، وموضوعُ العذریّة، وتحديدًا غشاءُ البكارة، وإنْ كان "فضُّه" قضیّةً محتومةً بعد الزواج، أو إذا كان غشاءُ البكارة یأخذ الشكلَ ذاتَه أو السَّمْكَ نفسَه أو الھشاشةَ عينَها لدى كلّ النساء. وكان ھدفُ ھذا الكتاب، شأنَ بقیّةِ كتبھا، ھو تحدّي الجھل الاجتماعيّ والجنسيّ في المجتمع العربيّ، ونقدَ القیم الاجتماعیّة البالیة. فعلى ما أذكر لم يكن أيٌّ من ھذه المواضیع يُدرَّس في المدارس، ولا تتطرّقُ إليه البیوت (الأمّھات)، ولا يناقَش علنًا البتّة. وكانت السعداوي في هذا الكتاب، أسوةً بكتبها الأخرى، تقدِّمُ معطیاتٍ علمیّةً لإسناد أفكارھا، وتستعینُ بخبرتھا المھنیّة كطبیبةٍ وأخصّائیّةٍ نفسیّة، وبخبرتھا الشخصیّة كناشطةٍ اجتماعیّةٍ نسویّة.
درست السعداوي الطبَّ الجراحيّ، وتخصّصتْ في الجراحةِ الصدریّة، ثمّ في الطبِّ النفسيّ. وعملتْ طبیبةً لمدّةٍ طویلةٍ في قریتھا، كفر طحلة، في محافظة القلیوبیّة. كما شغلتْ منصبَ المدیرة العامّة لإدارة التثقیف الصحّيّ في وزارة الصحّة في القاھرة، وكذلك الأمینة العامّة لنقابة الأطبّاء في القاھرة؛ وأسّستْ جمعیّةً للتربیة الصحّیّة؛ هذا بالإضافة إلى عملھا طبیبةً في المستشفى الجامعيّ. كما نالت عضویّةَ المجلس الأعلى للفنون والعلوم الاجتماعیّة في القاھرة، وأسّستْ جمعیّةً للكاتبات المصریّات، وعملت فترةً رئیسةَ تحریر مجلّة الصحّة في القاھرة، ومحرِّرةً في مجلة الجمعیّة الطبّیّة.(3) بمعنًى آخر: تمتّعت السعداوي بمھاراتٍ علمیّةٍ وعملیّةٍ غنیّةٍ في ما يخصّ جسدَ المرأة، ما أھّلها لولوج ھذه المواضیع بثقةٍ كبيرة.
الختان: شكلٌ آخرُ للاغتصاب
یُعرَّف الخِتان، أو "تشویهُ الأعضاء التناسلیّة الأنثویّة،" بحسب مُنظمة الصحة العالمية، بأنّه "عملیّةٌ تتضمّن إزالةً جزئیّةً أو كلّیّةً للأعضاء التناسلیّة الأنثویّة دون وجود سببٍ طبّيّ. لذلك یمارَسُ تشویهُ الأعضاء التناسلیّة الأنثویّة، وبالذات إزالةُ البظر والشفریْن، باعتباره أحدَ الطقوس الثقافیّة أو الدینیّة في أكثر من 27 دولةً في أفریقیا، ویوجد بأعدادٍ أقلّ في آسیا وبقیّة مناطق الشرق الأوسط." وقُدّر عددُ الإناث المختونات سنة 2016 بحواليْ 200 ملیون یعشن في الدول السالفِة الذكر، إلى جانب بضع مناطقَ ومُجتمعاتٍ أخرى حول العالم.(4)
ختانُ الإناث، طفلاتٍ كنّ أمْ بالغات، هو شكلٌ من أشكال الاغتصاب الجنسيّ، لكنّه یزید علیه عنفًا ووحشیّةً. ويختلف عنه في أنّ الفاعل، في معظم الحالات، امرأةٌ برفقة مشرطٍ أو موسى حلاقة. وهو یغلَّف، عادةً، باسم الدین أو الشرفِ أو العفّة. ومن أهدافه إظھارُ المرأة أنّھا عذراءُ ولم یمسَّ جسدَھا رجلٌ قبل زوجھا. غير أنّ السعداوي ترى أنّ الختان لا یمتُّ إلى الدین بصلة، وما ھو إلّا لتھیئة الأنثى من أجل الخضوع التامّ للرجل. في المرأة والجنس جادلت السعداوي أنّ "العذریّة كذبة،" وأضافت أنّ ثلاثین في المئة من الإناث يولَدن من دون غشاء بكارة.(5)
وفي كتاب كسر الحدود،(6)، أكّدت السعداوي عدمَ وجود أيّ نصٍّ شرعيّ یُجیز الختانَ، وعدمَ قانونیّته، وعدمَ وجود أيّ سببٍ صحّيّ یدعو إلى ھذا العمل "الشنيع" المُضرّ بالأنثى. وقد رافقتْ قضیّةُ الختان السعداوي طوال حیاتھا: في الروایة، وفي التعلیم، وفي المقابلات، وفي الخطابات العامّة، وفي كلّ مناسبةٍ أخرى. وفي العام 2007 عادت فطرحتْها بقوّةٍ كبیرةٍ إثرَ موت الطفلة بدور شاكر (12عامًا) أثناء الختان، وعلّقتْ: "بدور، ھل كان یجب علیكِ الموتُ لتنیري ھذه العقولَ المظلمة؟ ھل كان یجب علیكِ دفعُ ھذا الثمن بحیاتك؟ یجب على الأطبّاء ورجالِ الدین أن یعلموا أنّ الدینَ الصحیحَ لا یأمر بقطع الأعضاء التناسلیّة."(7) وأكملتْ: "كطبیبةٍ وناشطةٍ في مجال حقوق الإنسان، أرفضُ تمامًا ھذه العملیّة. كما أرفض ختانَ الذكور. وأؤمن أنّ الأطفالَ جمیعًا، ذكورا وإناثًا، یجب حمايتُھم من ھذا النوع من العملیّات."
لكنْ، على الرغم من تحریم ھذه العملیّات، بل تجريمها، فإنّھا ما زالت تمارَس في مناطقَ مختلفةٍ في مصر، وبالذات في الصعید. وقد أثار موتُ الطفلة ندى (12 عامًا) أثناء الختان سنة 2000 ضجّةً كبیرةً على صفحات التواصل الاجتماعيّ. ومن المؤلم كذلك سماعُ قصة فتیاتٍ ثلاث (دون الثامنة عشرة) أُجریتْ لھنّ عملیّاتُ ختان تحت التخدیر، وبطلبٍ من الأب الذي كذب على بناته وأقنعھنّ بأنّھن یَخضعن لفحص الكورونا!(8)
في فلسطين، لم تكن قضیّةُ الختان تؤرِّقنا لأنّھا كانت وما تزال تُعرف بأنّھا تقلید/طقسٌ أفریقيّ شائع في مصر والصومال وإثيوبيا والسودان بشكلٍ خاصّ. وحتى في مجال الأكادیمیا الغربيّة، لم تأخذْ ھذه الظاھرةُ الاجتماعیّةُ الحیّزَ الكافي من المعلومات والتحلیل، حتى أواخر الثمانينيّات وأوائل التسعينيّات، في كندا على الأقلّ. فآنذاك، هاجرتْ أعدادٌ كبيرةٌ من الصوماليّين إلى كندا هربًا من الأوضاع المعيشيّة الصعبة، ومنها الفقرُ وحكمُ الجنرال سياد بري، وعُرفتْ تلك الهجرة بـ"التهريب." معظمُ المهرَّبين حلّوا في أماكن يقطنها صوماليّون، وكانت تورونتو وأوتاوا مأواهم. قضيّةُ الختان (تليها قضيّةُ الحجاب) كانت من الموضوعات الشائكة والمقلقة بالنسبة إلى طالباتي الصوماليّات في الدراسات العليا، وقد شاركتُهنّ في بعض المظاهرات التي قمن بها ضدّ الختان. وكانت الإشكاليّة أن تقف المرأةُ المسلمةُ (الصوماليّة) هنا، في كندا، إلى جانب المرأة والنسويّة الغربيّة، بل إلى جانب النظام الغربيّ نفسِه -- إذ إنّ الحكومةَ الكنديّة منعت الختانَ وحاربتْه، فلاقى ذلك استحسانَ الكثير من المسلمات (وخصوصًا الصوماليّات) هناك، على الرغم من رُهاب الإسلام المتفشّي في الغرب، بما فيه كندا. وهذا، بحسب ظنّي، أتى ردًّا على التجارب المريرة التي خاضتها أولئك النساءُ، كما المصريّات وغيرهنّ. وقد قامت نساءٌ كثيرات، في الثلاثينيّات من العمر، بإجراء عمليّاتٍ لإرجاع الوضع إلى ما كان عليه قبل زواجهنّ أو في فترة الحمْل الأولى.
الحجاب وذكورةُ المؤسّسات الدينيّة
واجهتْ السعداوي ظاهرةَ الحجاب بالقوّة والإرادة الحديديّة اللتين واجهتْ بهما قضيّةَ الختان. وقد جلبت لها مواقفُها من هاتيْن القضيّتين، ومن قضايا أخرى معاديةٍ للسلطويّة الذكوريّة والرأسماليّة المتوحّشة في بلدها، الكثيرَ من الأعداء. اعتبرت السعداوي الحجابَ، أو تغطيةَ الرأس والجسد في المجتمعات الإسلاميّة بأيّ نوعٍ كان (نقاب، جلباب، برقة،... الخ)، وتعريةَ الجسد في المجتمعات الغربيّة، صنوان يُكمل أحدُهما الآخرَ. ومثلما رفضتْ أيَّ علاقةٍ للإسلام بالختان، فإنّها رفضتْ كذلك أن يكون الحجابُ أمرًا دينيًّا أو قضيّةً متعلّقةً بالإسلام. وأصرّت على أنّ الحجاب هو أحدُ أساليب الذكوريّة القمعيّة الهادفة إلى تحجيم دور المرأة وإبعادِها عن مكانها الطبيعيّ في المجتمع.
من الصعب تناولُ النواحي المتعدّدة والمتشابكة لقضيّة الحجاب، التي برزتْ بقوّةٍ في المصادر الأكاديميّة الغربيّة (من طرف كاتباتٍ عربيّاتٍ ومسلماتٍ، وغربيّاتٍ أيضًا) في التسعينيّات، واستمرّت لعقودٍ متتالية. ففي هذا الخطاب يتداخل العَلمانيُّ مع الدينيّ، والمؤيِّدُ مع المُعارض، والاستشراقيُّ مع الأصلانيّ، والنسويُّ مع الذكوريّ، وأنصارُ الحريّة الفرديّة مع أنصار الفرض والإجبار.
كثيرٌ من النسويّات الأكاديميّات المسلمات، ولا سيّما العربيّات، أخذن هدى شعراوي وتجربتَها في خلع الحجاب عام 1923 مثالًا للحرّيّة الفرديّة. فقد لقي كتابُها، سنواتُ الحريم: مذكّراتُ نسويّةٍ مصريّة 11879-192 (ترجمتْه وقدّمتْ له مارغوت بدران)، رواجًا كبيرًا في الغرب.(9) صحيح أنّ عنوان الكتاب يوحي بالاستشراقيّة، غير أنّ مصطلحَ "الحريم" الذي هو طبقيٌّ ومقحَمٌ على الثقافة العربيّة كان قد أدخله الاستعمارُ التركيُّ على الدول العربيّة. فالحريم كان للسلطان والطبقاتِ الغنيّة التي تستطيع إعالةَ عددٍ من النساء مع أطفالهنّ. ونساءُ الطبقات العليا، كالشعراوي، كنّ يلبسن الحجابَ وهنّ في بيوتهنّ.
في الوجه العاري للمرأة العربيّة، اعتمدت السعداوي منحًى تاريخيًّا في بحث ظاهرة الحجاب، فأصرّت على أنّ هذه الظاهرة ليست محضَ إسلاميّة، بل وُجدت قبل الإسلام، لدى نساءٍ من دياناتٍ أخرى كالمسيحيّة واليهوديّة. وما زالت المتديّناتُ اليهوديّاتُ، إلى اليوم، يغطّين شعورهنّ بقطعة قماشٍ سوداء، أو يضعن شعرًا مستعارًا؛ كما أنّ المسيحيّات في أجزاء من وطننا العربيّ ما زلن يغطّين شعورَهنّ عند ذهابهنّ إلى الكنيسة.(10)
في اعتقادي أنّ موقفَ السعداوي من الحجاب لم يكن سلبيًّا من الدين الإسلاميّ بالذات، بل كان موجَّهًا إلى الذكوريّة، وبالذات إلى ذكوريّة المؤسّسات الدينيّة في مصر، ومنها الأزهر، وإلى تعاليمه الذكوريّة. لا بدّ من دراسةٍ معمَّقةٍ وطويلة لمعرفة مدى تأثير أعمال السعداوي، وتحديدًا موقفها من الحجاب، في النسويّات العربيّات والمسلمات والغربيّات. إلّا أنّ موضوع الحجاب تصدَّر العملَ النسويَّ، الشرقيَّ والغربيَّ، عقودًا طويلة. ولذلك رأيتُ من الملائم، في معرض الحديث عن السعداوي، التطرّقَ إلى خطاب الحجاب، ولو من بعض الزوايا فقط.
في كتاب المرأة والجندر في الإسلام (صدر بالإنجليزيّة سنة 1992)، حاججتْ ليلى أحمد بأنْ لا علاقةَ للإسلام بالحجاب، وأنّ الأخير نتيجةٌ للسلطة الأبويّة أو الذكوريّة في مصر. نشأتْ أحمد في مصر، لعائلةٍ ميسورةِ الحال أيّام عبد الناصر، وفي مجتمعٍ عَلمانيّ في غالبيّته. وموقفُها هنا مشابه جدًّا لموقف السعداوي.
وأمّا فاطمة المرنيسي، التي كانت تلقَّب بـ"مؤسِّسة النسويّة الإسلاميّة،" فقد أوضحتْ موقفَها من الحجاب في دراستها المعمَّقة لدور المرأة في القرآن والحديث، فأظهرتْ تناقضاتِ المشرِّعين المسلمين وعدمَ صدقيّة بعضِهم في تأويل الأحاديث النبويّة. وكانت، كما السعداوي ومن بعدها ليلى أحمد، معارضةً للحجاب وللتآويل التي تربطه بالإسلام.(11)
ولكنْ بعد الهجوم الإمبرياليّ الأمريكي على كلٍّ من أفغانستان (2001) والعراق (2003)، انقسم موقفُ النسويّات عالميًّا:
- بين معارضاتٍ للحجاب، ينعتنه بالرجعيّة، وبأنّه أحدُ أساليب الإسلام في قمع المرأة، من جهة؛
- ومدافعاتٍ عنه، يعتبرنه مسألةً تقليديّةً، أو أمرًا يتعلّق بالمرأة مباشرةً وبـ"حريّتها في الاختيار،" من جهةٍ أخرى.
في الحالة الأولى ظهرتْ نسويّاتٌ مسلماتٌ استشراقيّات، بل مناصراتٌ أيضًا للإمبرياليّة والصهيونيّة، ولحقن ركبَ الهجمة الإمبرياليّة والإسلاموفوبيّة من أجل إعلاء مراكزهنّ، وحقّقن مبتغاهنّ في الشهرة في الغرب، على حساب الإسلام والمسلمين وضحايا الإمبرياليّة الغربيّة. من بين هؤلاء نذكر إرشاد مانجي، وخصوصًا كتابيها: مشكلة الإسلام اليوم(12)، والله والحريّة والحبّ.(13) صحيح أنّ مانجي لم تكن أكاديميّةً، ولكنّ شهرتَها التي سبقتْها في كلّ الدول الغربيّة، والمراكزَ الأكاديميّةَ التي تبوّأتْها نتيجةً لمواقفها من الإسلام، وظهورَها الإعلاميَّ المتكرّر؛ كلّ ذلك يحتاج إلى وقفةٍ ولو قصيرةً، وخصوصًا في سياق حديثنا عن السعداوي. فقارئُ كُتُبها، وكتابها الأول بالذات، يستغرب كرهَها للإسلام، وعنصريّتَها ضدّ العرب، وضدّ الفلسطينيّين بشكلٍ خاصّ. وأكثرُ ما يدهشك في هذا الكتاب اهتمامُها الشديدُ بمراعاة المشاعر اليهوديّة، وبأحقّيّةِ "إسرائيل التاريخيّة" في فلسطين. والكاتبة تتّهم المسلمين بكره اليهود -- وتهمةُ معاداة الساميّة، هذه، خطيرةٌ جدًّا، ومرحَّبٌ بها في الكيان الصهيونيّ ولدى الصهيونيّة العالميّة. وقد قال أحدُ المعقِّبين على أعمالها: "إنّها مفكّرةٌ حرّة، بهيّةُ المنظر، و’مسلمة‘ مقبولةٌ جدًّا لدى الغرب... ولكنْ هل تعرف الإسلامَ من الداخل؟ وهل تطرح القضايا بتعقيداتها وإشكالياتها؟" ويتابع: "ولكنّ الكثيرَ من المسلمات في الغرب لا يأخذنها بجدّيّة، ويضعنها في بوتقة العداء للإسلام."(14)
في بداية الألفيّة الثانية، وتحديدًا بعد 9/11/1200 والهجومِ الإمبرياليِّ على العراق وأفغانستان، تبلورتْ مواقفُ نسويّةٌ حادّةٌ جدًّا. وتمحور المنطقُ الشائع في الخطاب النسويّ عن الحجاب والإسلام حول نقيضيْن أساسيْن: الأول ثقافويّ استشراقيّ، والثاني مناهضٌ للاستشراق والإمبرياليّة. فهنالك النسويّات الاستشراقيّات-الغربيّات اللواتي أيّدن الحربَ على أفغانستان، وبرّرنَها بالقول إنّ القضاءَ على حركة طالبان يحرِّر الأفغانيّات من تعسّفِ حُكم هذه الحركة. هؤلاء النسوة نسينَ أنّ الاستعمار الأمريكيّ هو الذي أتى بحركة طالبان كي تساعدَه على التخلّص من الحكم الاشتراكيّ المدعوم من الاتحاد السوفييتيّ آنذاك، ونسين أنّ قتلَ الشعب الأفغانيّ وهدمَ اقتصادِه وحياتِه لم يقضيا على طالبان ولا على الحجاب.(15)
وفي المقابل، أخذتْ ليلى أبو اللغد على عاتقها محاربةَ الاستشراقيّة النسويّة، وخصّت منهنّ لورا بوش (زوجَ الرئيس الأمريكيّ جورج بوش الابن) وبعضَ النسويّات والأكاديميّات اللواتي دافعن عن حروب أمريكا الاستعماريّة. وفي مقالٍ مشهورٍ بعنوان "هل النساء المسلمات في حاجةٍ إلى إنقاذٍ حقًّا؟" (16)، نُشر سنة 2002 وأعيد تطويرُه وإخراجُه في كتابٍ يحمل العنوانَ نفسَه سنة 2013،(17) طوّرتْ أبو اللغد نقدَها الصريحَ والعميقَ للاستشراقيّة النسويّة، ورأت فيها ذراعًا للإمبرياليّة الغربيّة تهدف إلى تأمين مصالحها على حساب المسلمين. وأظهرتْ أبو اللغد أنّ الحجابَ والنقابَ تقليدٌ من تقاليد البشتون، كان موجودًا قبل طالبان، وبقي بعد الهجوم الأمريكيّ. وقد عرّت أبو اللغد النسويّاتِ الاستشراقيّاتِ اللواتي يلقين وزرَ الاضطهاد والعنف واستغلال المرأة المسلمة على الدين والأبويّةِ والثقافةِ الإسلاميّة، ويتجاهلن دورَ الإمبرياليّة الأمريكيّة ويتعاميْن عنه. وهذا ينطبق على الهجوم الإمبرياليّ على العراق تحت كذبة "حصول النظام العراقيّ على أسلحة الدمار الشامل" وحجّة تخليص الشعب من طغيان صدّام حسين؛ وكلنا شهد على الدمار الشامل للعراق وسرقة كنوزه التاريخيّة وإبادة أكثر من مليون رجل وامرأة وطفل عراقيّ.
من هنا، وقبل الختام، لا بدّ من التذكير بأنّ الهجوم النسويَّ الاستشراقيّ على المرأة المسلمة والعربيّة إلى يومنا هذا قد كان، وما يزال، يقابَلُ بعملٍ أكاديميٍّ صلبٍ من قِبل نسويّاتٍ مسلماتٍ وعربيّات. وقد بدّلتْ بعضُ النسويّات العرب/المسلمات مواقفهنَّ وأعدن تفسيرَ الحجاب في وصفه أمرًا شخصيًّا يتعلّق بالمرأة ذاتها. وهذه حالُ ليلى أحمد، حين عكستْ موقفَها في كتابها الصادر (بالإنكليزيّة) عام 2011 بعنوان: ثورةٌ هادئة: انبعاثُ الحجاب، من الشرق الأوسط إلى أميركا.(18) وعادت لتركّز في تحليلها على أنّ الحجاب، بصورة عامّة، ليس مفروضًا على النساء، بل هو باختيارهنّ.
في الختام، من المهمّ أن نستذكرَ أنّ عمل نوال السعداوي على قضايا المرأة وجسدِها، خلافًا لمعظم النسويّات العربيّات/المسلمات، لم يأتِ في إطار المعارف أو الإبستيمولوجيا الغربيّة، وأنّ موقفَها المعادي للرأسماليّة والإمبرياليّة الغربيّة كان واضحًا جدًّا. نعم، كانت السعداوي ضدّ الختان وضدّ الحجاب وضدّ الطقوس الدينيّة وضدّ ذكوريّة المؤسّسات الدينيّة، وكانت أيضًا ضدّ السلطة والنظام الرأسماليّ بشكل عامّ وفي مصر بالذات. ولكنّها، بحسب رأيي، لم تكن استشراقيّةً البتّة، ولم تتواطأْ مع النيوليبراليّة الغربيّة. وسواءٌ وافقنا على استنتاجاتها أمْ لم نوافق، فإنّها بلا شكّ قد تحلّت بمواقفَ واضحةٍ وصريحة: لا للاستعمار والرأسماليّة والصهيونيّة، ونعم لحقوق المرأة والمقهورين.
أوتاوا (كندا)