مقدّمة
بعكسِ ما حدث في مجتمعاتٍ عربيّةٍ أخرى (مصر، المغرب، الجزائر،…)، لم تولد العلومُ الاجتماعيّة في فلسطين في مؤسّسات استعماريّة، بل نشأتْ وفقًا لطموحِ أن تكون نقيضًا للاستعمار ومؤسّساتِه. ففي فلسطين لم تنشأ مراكزُ وجامعاتٌ تقودها مدارسُ غربيّةٌ، وتيّاراتٌ معرفيّةٌ مرتبطة بالمؤسّسات الاستعماريّة، أو تعمل على إنجاز أبحاث أنثروبولوجيّة واجتماعيّة عن المجتمعات الأصلانيّة المستعمَرة، أو تَلحقها بعد الاستقلال عمليّاتُ تخليق لجامعات ومؤسّسات وطنيّة جرى تأميمُها أو جرى رفدُ هذه المعرفة بمعرفةٍ بديلةٍ أو مكمّلة.
في الجامعات الفلسطينيّة نشأت العلومُ الاجتماعيّة بعيْد الاحتلال العسكريّ الثاني للأراضي الفلسطينيّة (حزيران 1967)، فزعمتْ لنفسها مهمّةَ إنتاج معرفة مناقضة للاستعمار، ومستقلّةٍ مؤسّساتيًّا عن الدوائر المعرفيّة الإسرائيليّة. لكنّ المعرفة التي أنتجتها الجامعاتُ الفلسطينيّةُ لم تكن معرفةً "أصيلة،" بمعنى أنّها لم تَخلق معرفةً اجتماعيّةً خاصّةً بها، بعيدةً عن النظريّات الغربيّة والمركزّية الغربّية. وبهذا، فإنّها تشترك مع نظيراتها في دول كثيرة من العالم بانشغالها بـإشكاليّات إنتاج المعرفة وعلاقتها بالمعرفة المحلّيّة، ومهمّتُها تشبه مهمّةَ السوسيولوجيا في السياق المغربيّ، ألا وهي، بحسب عبد الكبير الخطيبي: "تفكيكُ المفاهيم التي ظهرتْ من المعرفة السوسيولوجيّة و[من] خطابِ أولئك الذين تحدّثوا عن المنطقة العربيّة، والتي تتّسم بالإيديولوجيّات المركزّية الغربيّة..."
لقد كانت هذه العلومُ، وما تزال، مشغولةً بالتساؤلات الثالوثيّة: الأصالة والأصلانيّة والأصليّة، وبعلاقتها بمنظومات المعرفة المرتبطة بالتراث العربيّ ــــ الإسلاميّ. وما زالت العلومُ الاجتماعيّة في فلسطين، شأنَ سائر منظومات المعرفة في وطننا العربيّ، تفتح النقاشاتِ حول المعرفة "التحرريّة" و"البديلة،" من قبيل: "كيف نوازن بين العلاقة بين الجهاز المعرفيّ وبين الواقع المدروس؟ (1) وما زالت تَطرح أسئلةً من نوع: كيف تتحرّر المعرفة؟ وممّ؟ وما علاقةُ هذا التحرّر بالتحرّر من الشرط الاستعماريّ؟ وما زالت تفرز معها أطروحاتٍ عن مدى ملاءمة العلوم الاجتماعيّة لواقعها المستعمَر، وعن قدرتها على تخليق معرفة لتطوير آليّات تحفظ تراث المجتمع الفلسطينيّ المشتّت والمقتلَع والمهجَّر.
لقد تخيّلتْ "الجماعةُ العلميّةُ الفلسطينية" نفسَها، منذ بدايات تشكّلها، جماعةً مقاومةً، تَستحضر مقولاتِ التحرّر والمواجهة سبلًا أكيدةً للخروج من الهزيمة. وهي، شأنَ مؤسَّسات جامعيّة ومعرفيّة أخرى في العالم، أنشأتْ مؤسّساتٍ معرفيّةً لتجاوز الهزيمة، كما فعل الفرنسيون عندما أنشأوا معهدَ العلوم السياسيّة. (2)
طبيعة السجالات المعرفيّة
يتوزّع العاملون في العلوم الاجتماعيّة في فلسطين بين عدّة فئات:
1) فئة تدافع عن إنتاج معرفيّ مستمدّ من الإرث الثقافيّ العربيّ ــــ الإسلاميّ.
2) وفئة تدافع عن ضرورة إنتاج معرفة مستمدّة من تجارب إرث العالم الثالث ودول الجنوب.
3) وفئة ترى أنّ المعرفة كونيّة، وأنّ الحضور على المستوى العالميّ يجب أن يمرّ عبر قنوات إنتاج المعرفة في البلدان المهيمنة، لكون ذلك هو السبيلَ الأمثل والواقعيّ لتحقيق الظهور المعرفيّ الدوليّ والخروج من المحلّيّة والعزلة.
4) وفئة تقدِّم مقاربات ثقافويّة عن الخصوصيّة الثقافيّة وضرورة الاهتمام بالفولكلور والتراث واللهجات.
5) فضلًا عن مجموعات صغيرة، بدأتْ بالظهور مؤخّرًا، تحاول محاكاةَ تجارب المعرفة البديلة التي خلقتْها دراساتُ ما بعد الكولونياليّة (post-colonial studies)، ودراساتُ مدرسة التابع (subaltern studies) في آسيا، وخصوصًا في الهند. وهذه المجموعات تفتح سجالاتٍ حول مدى ملاءمة نماذج ما بعد الاستعمار لمجتمعٍ ما يزال يقبع تحت الاستعمار.
تختلف المقاربات، ولكنّها تتقاسم الاعتقادَ أنّ الأزمة المركزّية مرتبطةٌ بالمنهجيّات والمرجعيّات، وبكيفّية تخليق معرفة اجتماعيّة لدراسة الظواهر الاجتماعيّة الفلسطينيّة، وبدور الباحثين إزاء مجتمعهم المستعمَر، وبكيفيّة المواءمة بين الطموح المعرفيّ والالتزام المجتمعيّ. وتؤرِّق الباحثين تساؤلاتٌ من نوع: أنحرّر المعرفةَ من هيمنة المركزيّات الثقافيّة، وبخاصّةٍ الغربيّة؛ أمْ نحرِّر أنفسَنا من إرثنا الثقيل ونعيد النظرَ في مؤسَّساتنا الاجتماعيّة التقليديّة؟
إجرائيًّا، تجري سجالاتٌ أخرى ذاتُ طبيعة منهجيّة، تُعنى بطُرق "أقلمة" هذه العلوم (أو أقلمتها وتبيئتها) بما يتلاءم مع الظواهر المحلّيّة المدروسة. ويضاف إلى تلك السجالات سجالاتٌ أخرى من قبيل: بأيّ لغةٍ ننتج المعرفةَ ولمن؟ ألمجتمعنا، أمْ بالإنجليزيّة من أجل الظهور على مستوى الجماعات العلميّة في العالم؟ (3) (4)
أمّا عن مكانة العلوم الاجتماعيّة في فلسطين، فهي ما زالت تعاني الدونيّةَ بسبب هيمنة "العلوم الطبيعيّة والدقيقة" التي ما انفكّ يُنظر إليها مجتمعيًّا على أنّها الأنسبُ للخروج من أزمة المجتمعات النامية. وتَنتج من هذه التصوّرات هيمنةُ رؤى العاملين في العلوم الطبيعيّة والدقيقة على الجامعات الفلسطينيّة، وعلى سياساتها العلميّة، وعلى أدوات الترقية، والتصنيفات الأكاديميّة العالميّة، والمناصب الإداريّة الأساسيّة. يرافق هذه التوجّهاتِ استخفافُ المجتمع المحلّيّ بالعلوم الاجتماعيّة، وتوصيفُها بأنّها "مدارسُ نظريّة" ولا تمتّ إلى الواقع بصلة (وكأنّ النظريّات نتجتْ من "ترف" مثقفين لا علاقة لهم بواقعهم!).
هذه الرؤى تنعكس على تصوّرات العامّة والمتخصّصين بصدد علاقة التخصّصات بالمجتمع. ومن تعبيرات ذلك: رفضُ التطرّق إلى قضايا بحثيّة معيّنة، وتركُها مجالًا حيويًّا لباحثين غربيين يبحثون في المجتمع الفلسطينيّ بكلّ أريحيّةٍ وثقة. وهو ما يشير إلى دونيّة المعرفة المحلّيّة مقابل المعرفة المركزيّة الغربيّة وأدواتها ومناهجها.
ينقسم العاملون في العلوم الاجتماعيّة في الجامعات الفلسطينيّة إلى قسمين: قسم موجَّه إلى التدريس، ويغرق في مهامّ بيداغوجيّة؛ وقسم يعمل، إلى جانب التدريس، على البحث، ضمن المتاح والممكن، أو على التدخّل المهنيّ المحدود في المدراس وبعض مؤسّسات الإرشاد والبحث. هذا ولا تفوتنا الإشارةُ إلى قلّة المراكز البحثيّة المتخصّصة داخل الجامعات، وضعف ميزانيّات البحث العلميّ.
النضال الوطنيّ: بين العداء للاستعمار والالتزام المعرفيّ
منذ بدايات تشكّل الجماعة العلميّة الفلسطينيّة المعاصرة وهي ترى نفسَها شريكةً، بل مؤسِّسةً، للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. ونتيجةً لذلك تعرّض الأكاديميون الفلسطينيون لعمليّات إبعاد واعتقالات وإقامات جبريّة؛ وأَغلقت الإدارةُ الاستعماريّة الجامعاتِ الفلسطينية فتراتٍ متقطّعةً أو طويلة (كجامعة بيرزيت التي أُغلقتْ أربع سنوات)؛ وتعرّض مئاتُ الطلبة للاعتقال والاغتيال. وكذلك مَنعتْ دولةُ الاستعمار الصهيونيّة رفدَ الجامعات الفلسطينيّة بأساتذةٍ من العالم، ومنعتْهم من الحصول على تصاريح إقامة، وطردت العديدَ منهم، ومنعتْهم من دخول الأراضي الفلسطينيّة، وخصوصًا مع تصاعد حملة المقاطعة العالميّة (BDS) التي انطلقتْ أساسًا من الجامعات الفلسطينيّة.
كذلك شهدت الجامعاتُ الفلسطينيّة معاركَ فكريّةً وسياسيّةً بين التيّارات المختلفة، بلغتْ حدَّ الاشتباكات العنيفة، كما حدث في جامعة بيرزيت والجامعة الإسلاميّة وجامعة الأزهر وجامعة النجاح. وفى مراحل لاحقة تعرّضتْ بعضُ الجامعات لتدخّلات الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة، واعتُقل العديدُ من الأكاديميين؛ وشهدتْ بعضُ الجامعات حالاتٍ متكرّرةً من انتهاك الحريّات الأكاديميّة ومن مضايقات بعض الأساتذة على خلفيّة معتقداتهم وتوجّهاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة.
انشغالات معرفيّة متغيّرة حسب السياق
عند النظر إلى الثيمات المعرفيّة التي اهتمّت بها العلومُ الاجتماعيّةُ الفلسطينيّة بحسب تغيّر السياقات، نجد أنّ الإنتاجات المعرفيّة والبحثيّة قد انشغلتْ بقضايا متعدّدة، منها: الذاكرة الجماعيّة، وسرديّاتُ النكبة، والشتات، واللاجئون، والبنى التقليديّة، وتلازمُ النضال الوطنيّ الفلسطينيّ مع النضال الاجتماعيّ.
بعد اتفاقيّات أوسلو (1993) جرى انزياحٌ واضحٌ بفعل تغيّر الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ وتدخّلِ لاعبين دوليين من المانحين والمؤسّسات البحثيّة العالميّة. فنحا البعضُ إلى إنتاج أبحاث عن "السلام،" و"المأسسة،" و"الشفافيّة،" و"التنمية الريفيّة،"... وترافق ذلك مع "هندسة الانتخابات،" و"تأطير الكوادر،" و"بثّ ثقافة السلام،" و"الحوكمة،" و"تمكين النساء"... وبالتوازي مع هذه التوجّهات، وُلدتْ مراكزُ الاستفتاء وسبْرِ الآراء.
هذه الثيمات البحثيّة الجديدة ستعمل تدريجيًّا على خلق اهتماماتٍ جديدة، وفاعلين جدد، ومراكز بحثيّةٍ جديدة. وستعمل على استحضار منظوماتٍ نظريّةٍ جديدة، تفرضها المعطياتُ الجديدةُ، المرتبطةُ بشيوع الاصطلاحات الجديدة وبوجود ممِّولين لاقتراح أبحاث ذاتِ موضوعاتٍ محدّدة مسبّقًا. وهذا أدّى إلى اختزال التعليم الجامعيّ النظريّ بالتعليم التقنيّ اللوجستيّ، المرتبط بإتقان اللغة الإنجليزيّة وتقنيّات الكمبيوتر وبعض المهارات الاتصاليّة الأخرى مثل "كتابة المشاريع." ولذا وَجد خرّيجو العلوم الاجتماعيّة في فلسطين منافسين من تخصّصاتٍ أخرى، داخل سوق توظيفٍ محدودة، وغدت علاقتُهم بتخصّصاتهم علاقةً اغترابيّةً.
كما يواجه الباحثون في العلوم الاجتماعيّة في فلسطين وجودَ باحثين غربيين. وهنا تَحْضر مجموعةٌ من المعضلات الأخرى، منها: تعاونُ "المبحوثين" الفلسطينيين مع الباحثين الأجانب بسهولةٍ أكبر أحيانًا بسبب "مجهولّية" الأخيرين؛ وخضوعُ الباحثين الفلسطينيين لرقابة المانع/ المانح الذي يطلب إليهم تبنّي خطاب يساوي بين المستعمِر والمستعمَر بذريعة "الموضوعيّة."
الالتزام المجتمعيّ بين الاشتباك والانفكاك
تماشيًا مع استخدامات الخطاب السياسيّ المهيمن الذي يوصِّف الحالةَ الفلسطينيّةَ بأنّها محضُ "حالةِ احتلال،" اختُزلت الحالةُ الاستعماريّة بشقٍّ واحد: الاحتلال. وهذا الاختزال أوقع البعضَ في فخّ "الاستثنائيّة الفلسطينيّة،" فراح يستبعد مقارنةَ الحالة الفلسطينيّة بحالاتٍ استعماريّةٍ أخرى في العالم. وهذا ما يفتح النقاشَ حول دور علماء الاجتماع الفلسطينيين في إنتاج معرفة سوسيولوجيّة لمجتمع مستعمَر، ومحاولة التوفيق مع رؤى خطاب علمويّ زائف يساوي بين إنتاجات المعرفة كلّها (بغضّ النظر عن السياقات المتعدّدة) و بين صعوبات "الظهور" العالميّ وتحقيق المشروعيّة العلميّة.
بالإضافة إلى الصعوبات السابقة فقد طرأ تغيّر على نموذج "الأكاديميّ الملتزم." كما شاعت لدينا ظاهرةُ "المثقف الترحاليّ،" المتنقّل من حقلٍ حجاجيٍّ إلى آخر، ومن منظومةٍ إيديولوجيّةٍ إلى أخرى: من التنظير للاقتصاد الاشتراكيّ إلى التنظير لاقتصاد السوق، ومن منظِّرٍ للكفاح المسلّح إلى منظِّرِ للتعايش السلميّ أو للتطبيع. وتولّدتْ عن هذا التغيّر شرائحُ جديدةٌ من الأكاديميين، فبتنا أمام مستشارين للبنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ والدول المانحة... وأدّى ذلك إلى ولادة "الخبير" ومثقّفي السلطة. وانشغل جزء كبير من الأكاديميين بالتصنيفات "العالميّة،" و"محفِّزات الترقية والتثبيت،" وبتقديم مبرِّرات للتنازل عن إنتاج المعرفة باللغة العربّية. الأمر الذي فتح المجالَ أمام تساؤلات من قبيل: بمن يهتمّ الباحث في العلوم الاجتماعية؟ أبمجموعةٍ محدودةٍ من القرّاء المتخصّصين، أمْ بمجتمعه ككلّ؟
هذه التساؤلات تخلق التباساتٍ حول قواعد الحقل الأكاديميّ المعولم، والخضوع لآليّات الهيمنة المعرفيّة، وارتباط السياسات التمويليّة بدول الشمال، وشحّ الموارد الداخليّة. وتضع الباحثَ الفلسطينيّ أمام الهجس باكتساب الشهرة، أو الالتزام بمسؤوليّته تجاه مجتمعه وزيادة الاشتباك مع المستعمِر.
فلسطين
1) .Anour Abdelmalek, "L’avenir de la théorie sociale," dans: les dialectiques sociaux, Paris, Seuil, 1972, pp.41-59
2) Vincent Romani, Sciences sociales et coercition: les social scientists palestiniens des Territoires occupés entre lutte nationale et indépendance scientifique, thèse de doctorat en science politique, s/dir. Bernard Botiveau, 2008, Institut d’Études Politiques d’Aix-en-Provence
3) 4) انظر السجالات التي يوردها محمد بامية وساري حنفي عن موضوع اللغة والعلوم الاجتماعيّة في العالم العربيّ وأشكال الحضور، التقرير الأول للمرصد العربيّ للعلوم الاجتماعيّة، المجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة، بيروت، 2015.