"لن تتزوّجها!"
هكذا قال لي كلُّ مَن أخبرتُه عن حبّي: أبي، أمّي، أخواتي، أصدقائي، شيوخُ المساجد التي مللتُ من تغييرها بعد أن زار أبي مساجدَ الإسكندريّة وحكى عن معصيتي، فابتسموا لي بسماجة، وأخبروني بدورهم أنّني لن أتزوجها.
تركتُ لهم المساجدَ، وبحثتُ عن الله في قلبي! "لماذا لا أتزوّج مسيحيّة؟ لم يحرّم الإسلامُ ذلك، فلماذا تمنعونه؟!" يخبرونني بحديث الرسول "مَن تزوّج فليراعِ دينَه،" ثمّ يلحقونه بـ"لا يؤمن أحدُكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جِئتُ به."
عرض أبي عليّ أربعَ زوجات في وقتٍ واحد، شرط أن أنسى تلك الفتاة المسيحيّة "النجسة."
***
عندما بدأنا العلاقةَ، أنا ونيفين، سخر منّي أصدقائي، وظنّوا أنّها علاقةٌ عابرة وستنتهي. كانوا يسألونني: عندما تقترب منها هل تشمّ رائحةً نتنة؟ هل "تأكلها مؤخّرتها" وتحكّها بي؟! مرّت أربعُ سنوات على حبّنا. أكبُرُها بعام. تخرّجتُ من كلّيّة الهندسة قبلها. عرفتُها عندما نجحتُ في السنة الإعداديّة في الكلّيّة، لكنْ بقيتْ لديّ مادّةٌ لأقدّمها من جديد. ولأننّي كنت قد مزّقتُ أوراقَ الدراسة، فقد طلبتُ المساعدة من معيد المادّة، فأوصلني إليها. فتاة مجتهدة، لم تغب يومًا عن المحاضرات.
تحمّستُ لأن تقومَ فتاةٌ بمساعدتي، بتوصيةٍ من المعيد. لكنْ سرعان ما فترتْ حماستي بعد أن علمتُ أنّها مسيحيّة. غير أنّ جمالَ خطِّها، وحسنَ تلخيصها رغم صعوبة بعض الدروس، دفعاني إلى مقابلتها في إحدى استراحات الجامعة لتشرحَ لي ما يفوتني. تقدّمتْ ببنطلون أسود واسع، وبلوزة صوف سوداء. شعرها خشن قليلًا، ولا يتخطّى كتفيها إلّا قليلًا، وهي تلمّه بمشبك شعر "حريميّ." وكانت تضع نظّارة طبّيّة.
كانت، في المرّة الأولى، متردّدة وخجولة كفتيات الجامعة الحديثات. ترتبك عندما تصطدم يدي، من دون قصد، بيدها. وترفض الخروج بصحبتي، أو المقابلة خارج الجامعة. صارمة، لا تبتسم إلّا نادرًا. وقبل امتحانات الفصل الأوّل، طلبتُ منها شرحَ بعض المواضيع. لم يكن بإمكاننا الجلوس في الجامعة، لأنّنا لم نكن نحضُر؛ فكانت مجبرةً على أن تقابلني في الخارج.
ضحكتْ في ذلك اليوم كثيرًا. أسنانُها لم تخجل مثلَها.
***
بعد يومين أخبرتها أنّي أجد صعوبة في بعض المسائل، فقابلتُها ثانيةً. كانت متألّقةً. لم تتخلَّ عن الأسود، ولكنّه كان أكثر لمعانًا. وضعتْ قليلًا من أحمر الشفاه، وبودرةً على وجهها الذي بدا متورّدًا وأكثر خجلًا. تحدّثنا معًا عن كلّ شيء. حكت لي عن موت أبيها المأساويّ قبل دخولها الجامعة بيومين فقط. كان يعْبر الطريق ويحمل بيده اليمنى بطّيخةً، وبالأخرى حقيبةً فيها فلوسُ الجمعيّة التي ستشتري بها ملابسَ الجامعة. صدمتْه السيّارة وألقته أرضًا، وتسرّب الدم من أنفه ورأسه. تفتّتت البطيخة. سُرقت الأموال. ورحلت السيّارةُ كما جاءت، من دون أن يتعرّف إليها أحد. حاولتْ كبح دموعها، ولكن عينيها الحمراوين كشفتاها. تناولتُ يديها برفق، وقبّلتهما بهدوء. أخبرتها أنّي معها، بجوارها، وأحبّها. سحبتْ يديها بسرعةٍ وقالت: "إنت مسلم، إزاي؟" فقلت لها: "لا تقلقي. ديني يسمح بذلك." فقالت: "ديني أنا لا يسمح بذلك. سيرفضونني في الكنيسة. ولن يسمح أهلي بذلك."
قرّرنا أن نبتعد، بوعد أن ننسى مشاعرنا وينسى واحدنا الآخر. لكنّ مشاعري ازدادت توهّجًا. وبعد سبعة شهور هاتفتني: "يجب أن نتقابل." في اليوم التالي قالت، قبل أن أسلّم عليها: "وحشتني." كانت غير نيفين التي أعرفها: اسودادٌ أسفلَ عينيها، وجهٌ شاحب، نحولٌ أشدّ. تابعتْ كلامها: "فعلتُ كلّ شيء. صلّيتُ كثيرًا. اعترفتُ مرّتين. لكنّ حبّي لم ينطفئ في الشهور السبعة. الكنيسة لن تفيدني بشيء. فكرتُ كثيرًا. حاولتُ أن أكرهك. لكنْ أجدني أحبّك أكثر في اليوم التالي..."
اتّفقنا على أن نخفي الأمرَ حتّى أنتهي من دراستي. كنّا نخرج بعيدًا عن مناطقنا، ونتقابل عند أقصى الكورنيش، ونقذف من فوق كوبري ستانلي أحجارًا ندعو بها اللهَ والمسيحَ أن يربطانا معًا.
ظللنا على هذه الحال أربعَ سنوات. ثمّ أخبر كلٌّ منّا أهله!
منعتْها أمُّها من الخروج ثلاثة أشهر تقريبًا، فضاعت عليها امتحاناتُ الفصل الأوّل من العام. حاولتْ أمُّها ثنيَها بالنقاش، ثمّ ذهبتْ بها إلى القسّ، فحدّثَها عن وصيّة بولس الرسول، وردّد عليها كلامًا أصبحتْ تحفظه عن ظهرِ قلب؛ "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين لأنّه أيّة خلطةٍ للبرّ والإثم؟ وأيّةُ شركةٍ للنور مع الظلمة؟ وأيّ اتّفاق للمسيح مع بليعال؟ وأيّ نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟ وأيّة موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟ فإنّكم أنت هيكل الله الحيّ كما قال الله إنّي سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا. لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الربّ ولا تمسّوا نجسًا فأقبلكم..."*
ولمّا لم تجد أمُّها جدوى من كلامها، حبستْها وضربتْها وعذّبتها بمساعدة أخيها ــ خال نيفين (توعّدتُه لاحقًا أن أحشر قضيبي في مؤخّرته، نظرًا لما سبّبه لحبيبتي). كسروا لها ضلعيْن. وكان المجتمع المسيحيّ كلّه ضدّها. كانت وحيدةً أمام طائفة من المتعصّبين.
***
لم يكن وضعي أفضلَ حالًا؛ وجاءت أقسى المحاولات من أمّي، التي خيّرتني بينها وبين نيفين. فاخترت نيفين لأكمل معها بقيّة حياتي. هربتُ ليلًا. نمتُ في مسجد القائد إبراهيم يومين. اتّفقتُ مع نيفين، بعد أن تخلّصْنا من مرافقتها ــــ حارستِها بوصايةٍ من الكنيسة ــــ على أن تقابلَني عند محطّة الرمل، بدلًا من أن تذهب إلى الجامعة.
تركنا الإسكندريّة غيرَ آسفيْن عليها. أخبرتُها أنّ في القاهرة شقّةً مجهّزةً لنا، تدبّرها لنا أحدُ الأصدقاء، وأنّنا ــ بعد أن ينسانا الناس هنا ــ سنوكّل محاميًا يحوِّل أوراقَها إلى جامعة القاهرة، فتكمل دراستها. طمئنتُها إلى أنّ كلّ شيء سيكون على خير، وستمرّ الأيّام، وبعدها سيَقبل الجميعُ بالأمر الواقع.
استندتْ برأسِها على كتفي، وقالت: "أتمنّى..."
***
وتاهت الإسكندريّة في أحداث كنيسة القدّيسين ونسيتْنا لفترة. مرّت الأيّامُ والشهور على زواجنا. كنا نغيّر أماكننا بشكلٍ نصف سنويٍّ، أو كلّما شعرنا بالخطر. لم نكن نسمح لأيّ "سكندريّ" أن يقترب منّا؛ فربّما قرأ أو سمع شيئًا عن حكايتنا. كنا نتناقشُ أحيانًا في أمور الدين، فأحدّثها عن الإسلام وتحدّثني عن المسيحيّة. كانت لكلٍّ منّا رغبةٌ دفينةٌ في أن يَدفع الآخرَ إلى دينه، لا حبًّا في الدين، بل كي نتشارك الجنّةَ الأبديّةَ معًا!
غير أنّنا سرعان ما كففنا عن تلك الحوارات، واستعدنا الثقة بالله الذي جمعنا، وبقدرته على أن يغفر لأحدنا فيُلحقَه بالآخر، أو أن يغفرَ لكلينا ويرضى عنّا. كنتُ أودّ أن نكون معًا في أيّ مكان ومصير، حتّى الجحيم؛ كنت أودّ مشاركةَ العذاب الأبديّ معها. كانت تصلّي في الكنيسة البطرسيّة يوم الأحد. تنزوي مع نفسها وتتعبّد. وعندما تحاول الكاهنات التدخّلَ تلقي عليهنّ نظرةً غاضبة، فيبتعدن.
***
بقيتْ ثلاثَ سنوات تصلّي في تلك الكنيسة، بعد أن جرّبتْ كنائسَ القاهرة كلّها تقريبًا. واتّفقنا، يوم الأحد الحادي عشر من ديسمبر 2016، على أن أنتظرها في الخارج، ريثما تنهي صلاتَها الأخيرة، ثمّ نتجوّل في القاهرة المجنونة، المزدحمة، الصارخة، المحبَّبة إلى قلبيْنا لأنّها أنقذتْ حبَّنا من الضياع. وكانت جولةً أخيرةً قبل الهجرة إلى كندا يوم 14 ديسمبر.
في تمام الساعة العاشرة، وبينما أشاهد رجالَ الأمن يتناولون الإفطارَ داخل سيارتهم، غرقتُ في تفاصيل الكنيسة التي حفظتُها من زيارات متكرّرة مع نيفين، وأيدينا متشابكة:
الكنيسة البطرسيّة الصفراء ذات الطراز البازيليكيّ نصف الهرميّ، والسقف الجمالون المدعوم بالخشب، تتدلّى منه سلاسلُ من حديد قويّةٌ تحمل دائرةً من الحديد أيضًا. وفيها عدد من الفوانيس للإنارة، وصحنٌ في المنتصف تفصله عن الممرّات الجانبيّة أعمدة من الرخام الناعم، تعلوها دوائرُ نصفيّة، تتدلّى منها السلاسل ذاتها، ولكنْ بدوائر أصغر حجمًا. وعلى الحوائط العليا صورٌ للمسيح ورسلٍ وشهداء الكنيسة. زجاج النوافذ ملوّن بالأيقونات المسيحيّة. أمّا فسيفساء التعميد، التي تمثّل المسيح ويوحنا المعمدان في نهر الأردن، فموضوعةٌ أمام حوض من الرخام تحمله أربعةُ أعمدة.
وأنا منسجم مع تداعي ذاكرتي وقع انفجارٌ مدوٍّ داخل الكنيسة، ترافَقَ مع صوت تهشّم الزجاج. اندفعتُ بسرعة إلى الداخل، وقلبي يكاد ينفجر. كان الدخان كثيفًا جدًّا. ولثوانٍ، لم أستطع أن أميّز أيَّ شيء. وبمجرّد انقشاع سحابة الدخان الكثيفة، دلفتُ إلى الداخل بسرعة، وعقلي لا يفكّر إلّا بنيفين. رأيتُ بعض الأعمدة السوداء، وقد التصقتْ بأغلبها قطعٌ من اللحم البشريّ. أعمدة مهشّمة وأخرى مثقوبة بشدّة. سقط جزء من السقف. الأرائك الخشبيّة متهشّمة أو متفسّخة.
بحثتُ بين الجثث عن نيفين، بسرعة وجنون. صرختُ مناديًا اسمَها، لكنْ بلا ردّ. وجدتُ يدًا تظهر من تحت الأنقاض. لا...هي أسمن من يد نيفين. وهذه... قدمُ طفل... و... لا يا إلهي أرجوك... هذا رأسُ نيفين تحت إحدى الأرائك! لا شيء غير رأسٍ مخضّبٍ بالدماء.
احتضنتُ الرأس وانتحبتُ.
لا شيء يعبّر عن غضبي، وعجزي، وعن رغبتي العارمة في أن أستعيد الزمن: أن أدخل عند الساعة العاشرة إلّا ربعًا، وأُخرج بنيفين بسرعة من هذا الجحيم.
***
بعد يومين من الحادث، علمتُ أنّ نيفين كانت حاملًا في الشهر الأوّل. في الغالب لم تكن تدري بذلك. لم يكن أحد يدري... حتّى القاتل الذي له وجوه كثيرة أعرفها.
القاهرة
*رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس.