(1)
أتسلّل مذعورًا من غرفتي ليلًا. ولأتأكّد من نوم والديّ، أزحفُ على بطني قليلًا، أسترقُ السمع، فأطمئنّ إلى أنّ ما يخرج منهما ليس سوى صوت نومهما العميق. أُكمل الزحفَ حتّى باب الغرفة الضيّقة علينا، نحن الثلاثة. ليست غرفةً، بل قبوٌ صغيرٌ في إحدى البنايات الضخمة التي تتكوّن من خمسة عشر طابقًا، وفي كلّ طابق ثلاثُ شُقق. أبي حارسٌ لها.
أفتح الباب قليلًا محاولًا المرورَ من خلال فتحةٍ تكفي لزحفي على جانبي الأيمن.
(2)
كانت أمّي تنهرني عن اللعب في الشارع، وتنهرني عن اللعب أيضًا مع أبناء أصحاب الشُقق. كنتُ معلّقًا؛ فمستواي لا يليق بأبناء الطبقة الراقية، ولا بأبناء الشوارع. هكذا قالت لي أمّي. وعلى الرغم من أنّ شارعنا مليءٌ بالبنايات الكبيرة، وأنّ لكلّ مبنى حارسَه، إلّا أنّهم، جميعًا، إمّا عجائزُ وأبناؤهم شبابٌ يعملون بعيدًا، أو شبابٌ وأبناؤهم دون الرابعة. أنا كبير، في الثامنة، أجيدُ ركوبَ العَجَلِ، وقضاءَ المشاوير، وغسلَ السيّارات والسلالم... وكلّها أمور لا يجيدها أبناءُ الطبقة الراقية.
(3)
ولكي لا ينكشف أمري وضعتُ حجرًا صغيرًا ليحُول دون انغلاق الباب تمامًا، فأصبحَ في خبر كان؛ إذ آخر مرّةٍ ضُرِبتُ فيها كانت تعذيبًا من أجل إضاعتي بعضًا من مال السكّان الذي يدفعونه لي لجلب طلباتٍ لهم.
(4)
كانت أمي تخبرني بأنّ أبناء الشوارع ليسوا مثلنا؛ فأنا ابنُ بوّابٍ يكدح ليجلب لنا المال، ولنا مسكنٌ يحمينا من الحرّ والبرد والمطر، فيجب أن أشكر الله، وأن أبتعد عن "أولاد الشيطان،" مشيرةً إلى أولاد الشوارع. ولكي تخيفني أكثر كانت تقول لي: "يا بنيّ. هؤلاء ليسوا مثلنا. الشارع مأواهم. يصنعون ما بدا لهم بلا حساب ولا عقاب. خُلقوا ليكونوا أبناء الشوارع. أنت لم تخلق لذلك. إن أُصِبتَ بسوء ستموت، أمّا هم فلا، وسيقومون اليومَ التالي ليعذّبوا الناس برائحتهم وتسوّلهم. لا تصاحبْهم، ولا تمشِ معهم. فلا هم منك ولا أنت منهم."
(5)
كنتُ نازلًا من الطابق الثالث، بعد اعتذاري للساكن الذي أضعتُ ماله، فتلقّتني أمّي بصفعةٍ مدوّية. أُخبرتُها بأنّ الرجل قبِل اعتذاري، فصفعتني مرّةً أخرى وأقوى! قالت لي: "هتاكل وشّنا... فين الفلوس؟" رددتُ ببراءة وسذاجة: "في الشارع." لم تصفعني الثالثةَ؛ فلقد ناداني أبي. كان ممسكًا بعصًا خشبيّة قصيرةٍ قديمة، انهال بها على كلّ أجزاء جسدي. استنجدتُ بأمّي فصفعتني, استنجدتُ بالقاطنين فوقنا، فلم يسمع أحد، وكأنّهم كانوا يوافقون أبي على ما يصنع. ثمّ أمرَ أمّي بأن تذهب إلى مستشفى في آخر الشارع لتعالجني.
(6)
توقّفت نزواتي الليليّة لشهرين. الليلة أوّل خروج لي من محبس العلاج!
(7)
كانت علاقتي بأولاد الشوارع منعدمة، لولا إحدى المرّات، كنت ألعب بالكرة بجوار مدرستنا. جاء أولاد شارعنا ليلعبوا معنا بعد أن انهوْا لمّ الضروريّات من القمامة. رائحتهم كانت قذرة، ولكنْ ــــ لنقص عدد لاعبينا ــــ قبِلْنا، واضطررتُ إلى أن ألعب في صفّهم. خلال اللعب وجدتهم أكثرَ تعاونًا من أصدقائي. وجدتُ روحي تأنس إليهم، حتّى إنّني احتضنتُ أحدهم ــــــــ بعد أحد الأهداف السبعة التي أمطرناها في شباك الخصوم ـــــــــ متناسيًا كلامَ أمّي عن قذارتهم. وفي آخر اللعب، دعاني أحدُهم إلى مغامرتهم الليليّة، ومشاطرتهم أهواءهم، وركوب العَجَل بحرّيّة في الطرقات الواسعة الخالية من السيّارات ليلًا.
(8)
كان عليّ أن أجد طريقة لخروجي ليلًا كلّ يوم، من دون إيقاظ أحد من نومه. أهرب مسرعًا من مدخل المبنى العملاق. ألتقي أبناءَ الشيطان. يقابلونني بالودّ والأحضان بعد الغيبة الطويلة. لا أتقزّز منهم. لو علمتْ أمّي بذلك لكانت، إلى الضرب المبرّح، ستضطرّ إلى أن تغسلني يومًا كاملًا كما تغسل السلالم.
انطلقنا جميعًا إلى مخبأنا السرّيّ الذي نخفي فيه ثلاث درّاجاتٍ مسروقة من أبناء الأثرياء. وقبل السباق المارثوني، نركب الدرّاجات بالتتابع فالتين أيدينا من المقود، ممسكين بالهواء، فرحين بما يتركه لنا اللهُ من وقت لنستمتع فيه بعيدًا عن أعين الكبار. ثمّ تبدأ السباقات مداورةً. الشارع كلّه يصبح مسارًا للسباق النهائيّ.
لم أكن من الفائزين اليوم، ولكنْ لا بأس؛ فالوجود في أجواءٍ كهذه جيّد حتّى وأنت خاسر.
بدأ السباقُ الأخير، فاصطدمتْ سيّارةٌ مسرعة، خرجتْ من أحد التقاطعات، بمتسابقٍ من الثلاثة. ركضنا نحو الذي صُدم. كنت الوحيد المفزوع فيهم. تذكّرتُ كلام أمي: أهي على حقّ؟ قطع أفكاري صوتُ سيّارات الشرطة. هربنا ركضًا. حتّى الذي أصيب ركض مثلنا، ركضًا أعرجَ ولكنّه ركضٌ. افترقنا، هم إلى الخرابة وأنا إلى البيت.
عصر اليوم التالي ذهبتُ إلى مأوى "أولاد الشيطان" لأطمئنّ إلى مَن صُدم أمس. قالوا لي إنّه مات. قالوها ببرود، أو هكذا خيّل إليّ. يبدو أنّ الموت واحدٌ منهم. لم أبكِ معهم، وعدتُ إلى بيتي. في طريقي، تساقطتْ بعض العبرات منّي بلا قصد. وجدتُ أمّي إلى جوار أبي جالسيْن أمام المدخل. قلتُ لها: "ألم تقولي إنّ أبناء الشارع لا يصيبهم شيء؟"
قالت: "نعم."
رددتُ: "أنتِ كاذبة!"
وعدت إلى القبو، غيرَ عابئٍ بما سيحلّ بي.
القاهرة