بمناسية الشهر العالمي للمطالعة،تُقدم الآداب شهادتين لكاتب شاب،وكاتبة شابة يسردان فيهما تجربتهما مع القراءة والكتاب.هنا شهادة سمير سكيني:
لم أكن في ذلك الوقت من محبّي القراءة والكُتب. فلقد انتصبتْ مكتبةُ البيت أمامي لسنواتٍ طويلة من دون أن يراودني الفضولُ ولو مرّةً واحدة في أن أكتشفها. كنت أكتفي بالتحديق الفارغ إلى كتبها، وباستعراض العناوين سريعًا من خلف الزجاج. وغالبًا ما كنت أحمِل معي عادتي هذه إلى بيوت الأقارب، فأتأمّل رفوفَ كتبهم خلال الزيارات العائليّة، كي أتخطّى ملَلها لا غير.
لكنْ حدث ذات يومٍ أن رآني أحدُهم مطيلًا النظر في مكتبته. فما كان منه إلّا أن توجّه صوبَها وسحب منها كتابًا صغيرًا.
- هاك رواية مميّزة. أنصحكَ بقراءتها.
- غسَّان كنفاني؟ من هذا؟
- أديب فلسطينيّ. ستعجبك. أعدْها إليّ فور الانتهاء منها. لا تحتفظْ بها يا شقيّ!
تشكّرته واكتفيت بالابتسام. لم أفهم جملته الأخيرة. لم أكن أعلم حينها أنّه تنبّأ بأنني سأحتفظ بها فعلًا.
***
عُدتُ أدراجي في المساء وقلتُ لنفسي: "سأقرأ المقدّمة اليوم، والفصلَ الأوّل غدًا، والثاني بعد الغد، وهكذا دواليك..." علمًا أنّها أقربُ إلى الكتيّب منه إلى الكتاب: تسعون صفحةً صغيرة.
لن أخوض الآن غمار وصفِ الرواية وتحليلها. لكنْ، باختصارٍ أقول إنني انتهيتُ منها في ساعةٍ ونيّف. لم أرمشْ حينها لحظةً واحدةً مخافةَ أن تضيع منّي كلمةٌ هنا أو هناك. شعرت آنذاك أنّني تآلفتُ مع عنوانها. كنتُ قد قرأتُه مرّاتٍ عدة من قبل: رجال في الشمس. لكنْ أين؟ تذكّرت: في مكتبَة المنزِل.
قصدتُها كي أتأكّد من حدسي، وإذ بي أجد سلسلة أعمال غسّان كنفاني الكاملة. أبي الملعون! كان مهووسًا بغسّان، هو الآخر. هكذا قرأت عائد إلى حيفا، ثم أرض البرتقالِ الحزين، وكرّت سبحةُ القراءات، إلى أن ختمتُ السلسلة بوقتٍ قياسيّ.
كان غسّان مدخلي إلى عالم الروايَة، وكانت روايتُه المدخلَ الذي سيقدّمني إلى القضيّة الفلسطينيّة، وكان هذا الكتاب خيرَ دليلٍ لرحلتي الطويلة في تشكيل هويّتي الثقافيّة والسياسيّة.
لم أكن لأتخيّل قبل كلّ ذلك أن حياتي في المستقبل ستكون على الشكل الذي هو عليه اليوم. رجال في الشمس حكاية ثلاثة فلسطينيين أرادوا هجرةَ وطنهم فماتوا في صحراء العرب؛ قصة كانت كفيلةً بتغيير مجرى حياتي وإغنائه. بعدها، صرتُ أعي قيمة القراءة والمطالعة.
أمّا أبرز ما لفتني في عالم الرواية، فهو خلودُها بعد أن تُكتب، وتحوّلُ شخصياتها إلى حقيقة. بدأتُ أرى أمَّ سعد وأسألها عن حال المخيّم. وبدأتُ أرى صفيّة وأشرح لها عن الوطن. ومؤخّرًا، رأيتُ مروان وحاورته ساعاتٍ مضنيةً كي يَعْدِل عن الهجرة - لكن عبثًا حاولت. واكتشفت أنّهم صاروا أشخاصًا أعرفهم يقينَ المعرفة، وباتوا أحياءً أكثر حضورًا من الأحياء على هذه الأرض.
وجدتُ في الروائيّ ميزةً خارقةً تتجسّد في القدرة على وهبِ الحياة، بعد أن كانت هذه الخاصيّة ملْكَ الأمّ والله وحدهما. إذّاك، انتابني شيءٌ من الغيرة تجاه غسّان وشخصيّاته؛ فأنا أيضًا أملك قصصًا أريد توثيقها، وأنا أيضًا أملك شخصيّاتي العديدة. وهكذا، ما كان منّي إلّا أن كتبت روايتي الأولى، الأقحوان ينبت في الشيّاح، التي أعدتُ فيها إحياء شخصٍ عزيزٍ ظنّ الزمانُ أنّه تمكّن من إسدال ستارته عليه.
ها قد تغيّر مجرى حياتي من جديد، ولكنْ بفضل الكتابة هذه المرّة. وبدأتُ أكتشف أمورًا جديدةً، وأنكش قصصًا من خبايا الماضي التعيس، واكتشفت أن العلاقة تناسبيّة بين القراءَة/الكتابَة والعزلة.
لامني الأصدقاءُ على تقوقعي في عالم الأوراق والكلمات، ولُمتهم على تفويتهم فرصةَ الدخول الى عالمٍ أقربَ بتفاصيله إلى الجنّة من الجنّةِ ذاتها الموصوفةِ في الكتب!
وفي غمار هذه التجربة، اكتشفتُ أنّي أهوى المطالعة على الرغم من هجراني لها فترةً لا بأس بها من الزمن، أحاول تعويضَها الآن. وبدأتُ أقتنع شيئًا فشيئًا أننّا كلنا نهوى القراءةَ بالفطرة، لكنّنا نُبغضها نتيجةً لاحتكاكنا بالمناهج التعليمية الرتيبة أو جرّاء فرضها علينا كواجبٍ مدرسيّ. كما أنّ لمغريات العصر دورَها في مضاعفةِ المسافة بيننا وبين الكتاب. لكْن يبقى للرواية طريقٌ إلينا نعثر من خلاله على ضالّتنا.
العزلَة ليست حقًّا وحشةً كما يظنُّ البعض؛ إنّها أقربُ إلى الغبطةِ والأنس في حضرة الكتاب. لكلٍّ منّا، إذن غسّانُه، وما علينا سوى أن ندقّ جدرانَ الخزّان.
بيروت